لا نزال نتعرّف جرعةً جرعةً الى التغيير الذي طرأ على حياتنا. من التزام الحجْر المنزلي، والعمل أو اللاعمل عن بعد، بالصوم والأعياد من دون مظاهر، وبمتابعة أرقام الفيروس اصابةً ووفاةً وتعافياً حتى أنها لم تعد تهزّنا كما قبل شهرين، كما يحدث أيضاً في الحروب التي تطول وتتكرر مآسيها حتى تصبح عادية ومألوفة. يعيش واحدنا بشيء من الوعي المطمئن الى أنه نجا من الجائحة وبمقدار عميق من القلق الداخلي مما يمكن أن يصيبه لو ارتكن الى حدسه بأن الوقت حان للخروج من البيت. الثابت أن حيرة الأفراد لا تقلّ عن حيرة الحكومات، فإنهاء الاغلاق والحظر والدعوة للعودة الى العمل قد تكونان دفعاً معنوياً ضرورياً للاقتصاد، وقد تكونان رهاناً ناجحاً. لا أحد يملك دليلاً واثقاً لأفضل الطرائق للتعايش مع الفيروس ومقاومته في آن.
بعد إنهاء العزل المنزلي، ستكون الكمّامات إلزامية لزمن مفتوح، قد يطول أكثر مما يُتصوّر. ستغدو الشوارع وأماكن العمل والتسوّق أشبه بمسارح الأقنعة الاغريقية والرومانية، وفي الماضي اعتُمدت رسوم للتمييز بين الخير والشرّ في ملامح الشخصية، أما اليوم فدخلت دور الأزياء على الخط بأقمشة مميّزة وملوّنة لزوم "البرستيج"، لكن غالبية الناس تجهد على كمامة عادية أو بدأـ تصنعها يدوياً. ستتغلغل الكمامة في ثقافة العيش حتى لو بقي الواقع على حاله، فالوجوه المكشوفة لم تكن كاملة الشفافية، والوجوه المكمّمة ستحجب ذلك القليل الذي كان يظهر من الدواخل. لا عجب إذا حاجج تجار الدين بانتهازيتهم وسذاجتهم المشهورتين بأن الفيروس والكمّامة أعادا الاعتبار للتحجّب وحتى للتنقّب و"الاحتشام" الكامل، أليس هذا ما يفعله "الجيش الأبيض" لحماية أفراده.
لوهلة، يبدو التوافق بين الصحة والسياسة كأنه في صدد اطاحة أهم إنجازات العصر أمنياً. فما الفائدة من آلاف الكاميرات المنتشرة وكيف ستُرصد الوجوه المشتبه بها في تنقّلها من المساحات العامة الى مخابئها. ربما يكون اعتزام حقن الأشخاص بشرائح ذكية من الابتكارات التي ترمي الى استباق "كورونا" ومنعه من إضعاف قدرات الأمن، الذي لم تنسِه متاعب الشهور الأخيرة وصعوباتها أن المخاطر الآتية قد تكون أشدّ. هذا ما تتوقعه استشرافاته في ضوء تفاقم الأوضاع الاجتماعية. صحيح أن الإرهاب، بمواصفاته المعروفة، لم يلتزم جحوره في العراق أو سورية أو افغانستان، لكن انحساره العام مستمر. هل يمنحه الوباء وتداعياته فرصة جديدة لمعاودة الانتشار العابر للحدود؟ وهل هي جدّية تلك التقارير التي تتوقّع أن يفتح الوباء الأبواب أمام "الإرهاب البيولوجي"؟
ثمّة زيادة حادّة طرأت على معدّلات الفقر والبطالة وربما تشكّل بيئات جاهزة لعنف تلقائي تحفّزه مجاعات زاحفة ومخاوف من اضمحلال شرائح اجتماعية أمام ماكينات الاقتصادات الكبرى التي ستزيدها خسائر الوباء جشعاً ولا إنسانية. لن تكون الإيديولوجيات أو الأجندات السياسية أو الدينية وراء هذا العنف، لكنها لن تلبث أن تركب موجاته. ما يمكن أن يحدّ من خطر هذا المسار، أو يبقيه في مستوىً معقول، هو تدخّل الدولة هنا وهناك للتعامل مع تحدّيات ما بعد الوباء. لكن هل يمكن الوثوق بالدولة؟ السؤال يُطرح أكثر ما يُطرح في بلدان الأنظمة الديموقراطية، لأن المجتمعات تشعر بأن تعاظم الشأن الصحّي راكم أعباء قد تشجّع الدولة على المسّ بالخصوصية والانتقاص من الحرّيات. وبالتالي فهناك ما يمكن أن يُخسر، تلقائياً، ليس فقط بداعي مكافحة الفيروس، بل أيضاً لإنقاذ الاقتصاد والوظائف وفرص العمل وأكبر قدر ممكنٍ من الرفاه.
بطبيعة الحال، ليست كل الدول والحكومات على الموجة نفسها، فالقادرة منها فتحت خزاناتها وتستعدّ لمفاوضات شائكة ومعقّدة على تعويضات ومساعدات ليس مؤكّداً أنها ستضمن كل الوظائف وفرص العمل. أما الدول التي كانت غير القادرة قبل الوباء فارتفع عجزها بسببه وتتطلّع الى مساعدات خارجية ستزداد تلكؤاً وتقتيراً، أو الى ما تستطيع انتزاعه من جيوب مواطنيها. الدول المنكوبة بالحروب والفقر وسوء الحوكمة والفساد مقبلة على أيام صعبة، فالجهات التي تدير الحروب كما الجهات المتحاربة لم تستجب مناشدات الهدنة الأممية ولم يتوفّر لديها شيء من الضمير الإنساني لوقف القتال. وباجتماع الوباء والتحارب، كما في اليمن مثلاً، لا تجد المنظمات الاغاثية سبيلاً أمامها غير الانسحاب، طالما أن مساعداتها تتعرّض للنهب.
في الغرب يبحثون عن استراتيجيات لـ "عالم جديد"، لمستقبل يبدو مصاباً بخيبة أمل عميقة من الحاضر، بل ينشدون عودةً ما الى الماضي يعطونها عنوان " العودة الى الأرض"، لكنها تتبلور رويداً وربما تنعكس على أنماط الاستهلاك خصوصاً في المأكل والمشرب والكماليات. ليس واضحاً كيف والى أي مدى ستغيّر في طريقة العيش، تحديداً إذا عادت الحياة العامة الى وتيرتها السريعة، لكن شيئاً في داخل كل فرد يشعره بأن حياته لن تعود الى سابق عهدها، فهو احتسب الحجْر المنزلي فترةً ضائعة، ووقتاً مستقطعاً من عمره ربما بدّده بالضيق السطحي من السأم والملل، أو بالغرق في بحر الأشرطة والصور والكتب، إلا أنه يترك في أعماقه ندوباً.
في البلدان غير القادرة لا ينتظر المواطنون شيئاً من الدولة، ويعرفون أن ظروف العيش الصعبة ستكون أكثر سوءاً. ولعل التغيير الأبرز سينعكس على مقاربة الشركات في كل مكان لـ "العمل"، فهي تجد في الجائحة فرصةً لتغيير مفاهيمه وسيرورته وللبناء على قواعد التباعد الاجتماعي، وصولاً الى التخلّص من "أعباء" ترى أنها لم تعد مبرّرة، سواء في عدد العاملين أو تكاليف العمل وساعاته أو المقار الواسعة التي قد يُستعاض عنها بأخرى أصغر حجماً وكلفةً وباستغلال إمكان تحويل المساكن قسراً الى أماكن للعمل... ثمّة اتجاهات عدة يعتبر الإعلام الأميركي والاوروبي أنها من مؤشّرات تراجع الثقة بكل ما تنطوي عليه العولمة والمشاريع الضخمة التي تقام تحت مظلّتها، ويُستدلّ من استخلاصاتها أنها لا تختلف عما يعتمل في دواخل الناس في العالم العربي سوى في الشكل. وفي هذا الإطار يمكن إدراج التفكير في تقليص العمالة الوافدة وصولاً الى الاستغناء عنها في الخليج.
مَن أفسد العولمة، الولايات المتحدة أم الصين؟ الأكيد أن الأضواء التي سلّطها الوباء على هذه المسألة تطرح السؤال بصيغة أخرى: مَن لم يفسدها؟ المسؤولية الكبرى تقع على هاتين الدولتين، خصوصاً أن دونالد ترامب استعاد وحشية الرأسمالية وبدائيتها فيما رعى شي جين بينغ على الوحش المتحدّر من زواج الشيوعية والرأسمالية، وفي الحالَين كانت القيم الإنسانية، بما فيها تلك المتعلّقة بحياة البشرية وصحّتها، هي الضحية. عانى العالم من وباء كان علماء كثرٌ يتوقعونه ويحذّرون من تبعات جموح الوحشيتين، وقبل الخروج منه دخل القطبان الدوليان في "حرب باردة" جديدة تُستعاد فيها شعارات من الحرب السابقة، وسجّلت حتى الآن ضحايا فعلية كمنظمة الصحّة العالمية وهونغ كونغ، أو متوقّعة كسلاسل الإمداد التجاري، أو محتملة كتايوان، أو مخطّط لها كما بالنسبة لخريطة الشرق الأوسط... ولهذه الحرب تأثيرها أيضاً في حياة الشعوب والأفراد.