كان مشهدا معتادا أراه من سطح البيت في المنزل المقابل لحوشنا في ذلك الحي الشعبي، حمو السبعيني يصعد على السلم الحديدي القصير، أو على برميل تحت الدالية، فيما يصرخ: امينة..ناوليني المقص الحديدي..
كانت زوجته أمينة تصغره بأكثر من عشر سنوات وأنجبت منه خمسة أولاد وست بنات، معظمهم تزوجوا
تناوله المقص وهو يصرخ: قلت لك منذ شهر ان شجيرة العنب يلزمها تقليم ومنعتني حينها قائلة بأن الوقت مبكر..لن تحمل هذه الدالية عنبا بسببك أمينة خانم..
هوهووووو..كل مصائب العالم بسبب أمينة، تحملني مسؤولية كل شيء
يرمقها بنظرة وهو واقف بأعلى السلم ويبتسم
أمزح أمو..فقط أمازحك.
لم يكن غريبا على أهل الحي أن يروا العجوزين بشكل شبه يومي وهما يمشيان سوية، كان حمو مصرا على أن تمشي أم اولاده بجنبه، لم يكن يسبقها بخطوة واحدة
حين يزوران أحد أبنائهما في الحي المجاور.
رغم كبرهما في العمر لم يكن حمو يشرب كأس الشاي إلا من يد أمينة ولطالما قال مبررا : طعم الشاي من يد أمو له نكهة مختلفة..
فترد زوجته: أنت لا تريد أن تعذب بناتك لهذا تجبرني على صنع الشاي وتتحجج بالطعمة..الشاي هو الشاي، ثم يضحك الجميع..
كانت عائلة حمو فقيرة جدا، قادمة من إحدى القرى التابعة لمدينة ديرك بأقصى شمال شرق سوريا، أجبرتهم الظروف على الهجرة الى القامشلي، ليعمل ابناؤه كعمال بناء، بعضهم يسافر الى دمشق اشهرا ليعود بعدها بقليل من المال ليعتاشوا منه طول العام وهكذا تمضي الايام والسنين بهم.
كان صباح ذلك اليوم مختلفا، استيقظ أهل الحي على الصراخ والنحيب، حين فتحت باب حوشنا الكبير فوجئت بعدد كبير من الرجال، يركبون خيمة
الدموع تملأ عيون أولاد جاري حمو وكل منهم متكوم على نفسه في إحدى الزوايا
صرخ أحد ابناء حمو: أمي..لماذا رحلتي؟
لقد ماتت أمينة بذبحة قلبية وهي نائمة، هكذا فهمت بعد السؤال، دارت عيناي بين الحضور تبحثان عن حمو
كان واقفا وكأنه تمثال، عيناه ذاهلتان، لا يرد على أحد، لا يبكي ولا يتحدث، أحسست أنه منفصل عن الزمان والمكان، لم أر دمعة واحدة في عينيه ولم يتحرك من مكانه..
لم أبرح خيمة العزاء إلا نادرا كوني الجار الأقرب، وخلال الايام الثلاثة لم أسمع صوت حمو ، كان يرد السلام بيده ووجهه متجهم، كان متلبدا حزينا كأن ملامح وجهه تختصر كل انكسارات الأرض.
بعد انقضاء ايام العزاء سافرت الى دمشق لتقديم امتحاناتي الجامعية وبعد نحو شهر عدت الى البيت، وعلمت أن حمو مريض وهو طريح الفراش
قررت زيارته ذلك المساء، كاد أن يقوم عن فراشه ليستقبلني لكنني منعته طالبا منه أن يستريح
ماعلى قلبك شر..بسيطة كلها كم يوم وتقوم جاري
التفت الى ابنته قائلا: مزكين..اصنعي كاس شاي لجارك وحين جاءت به قال لها: لاتصبي لي
نظرت الي ابنته وقالت: أتعرف ياجاري لم يتذوق أبي الشاي منذ وفاة والدتي فقال حمو: لا أحد في العالم يستطيع صنع الشاي مثل امينة ونزلت دمعة من عينه ثم قال وهو ينظر الى دالية العنب: لقد أزهرت عناقيد العنب، كانت أمو على حق حين قالت لي لا تقلم أغصان الدالية الآن..
سأخبئ لأمينة عنقودا من عنبها، سآخذه اليها بنفسي
بعد شهر من المرض مات حمو ودفن قرب قبر زوجته كما كانت وصيته.