2 Minuten Lesezeit
10 Mar
10Mar

الحرب، الهجرة... خمس دقائق و ينتهي كل شيء..

(قراءة لا تستغرق الا خمس دقائق لنص الكاتبة افين يوسف) 

 الهجرة، طالما كانت موضوعا مؤثرا في عدة أعمال أدبية، بل و كثير منها تسرب إلى عالم الدراما و السينما، و خاصة المراحل  المثيرة من عمليات الانتقال و تلك المغامرات الفردية او الجماعية، في سبيل الوصول إلى نهايات سارة، و لعل قصة "الدقائق الخمس" للكاتبة افين يوسف و التي حازت على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة في مهرجان أدبي في الأول من آذار عام 2020، تحمل بعض من صور الرحلة القاسية و تصوير بعض مراحلها و محطاتها الغير معلنة، فهي ليست رحلة ترفيهية، و لا توجد محطات استراحة على الطريق، سوى محطات الوجع و الألم و التعب و الإرهاق و الخوف، الخوف من النزوح.. من ترك البلد و مواجهة مصير مجهول، و الخوف من مخاطر الطريق.. من الضياع في عتمة الغابات او افتراسهم من قبل وحوش و سباع الغابة او من قطاع الطرق، و الخوف من حراس الحدود وهم في طريقهم الشاق نحو مكان يأملون منه أن يكون ملاذا امنا يحفظ لهم حياتهم من الحروب الدائرة ببلدهم و من الفقر و مأسي الحرب و ملحقاتها، يترك سيامند بيته و أسرته، أطفاله و زوجته و يمضي في دروب طويلة و شاقة حيث الغابات الرطبة و المظلمة، لا يعزيه سوى وجود بعض المهاجرين اللذين يحملهم نفس الأمل نحو بلدان أمنة هادئة نظيفة خضراء..

يتراءى له طيف أطفاله و أصواتهم و يتداخل الواقع مع الخيال و يغيب في غيبوبة قصيرة و يخيم عليهم الليل، يجمعهم دفء العلاقات التي ربطت بينهم اكثر من تلك النار التي أوقدوها بثيابهم و جواربهم خصوصا، يبقى الدفء هو العامل و المطلب الأساسي للوصول و الحفاظ على الحياة.. انه الأمل بالخلاص،و يعتري البطل اوجاع الغربة، و تظهر عليه اعراض  الحنين، وهو لم يصل بعد إلى تلك البلاد الجميلة حيث لا تحلق في سماءها سوى الطيور، و لا يغطي ارصفتها الا بتلات الورد و الزهر او ندف الثلج البيضاء النقية، و ليست كبلاد سيامند الغارقةِ في العتمة و الدم و الرماد و لا ينبعث منها سوى رائحة الموت، البطل ينشد لبلده مستقبلا امنا و وطنا يملئه ضحكات الأطفال، و تلون سماءه اقواس قزح،... كما احلام كل مهاجر....

الكاتبة افين يوسف استطاعت عبر سرد متاهات رحلة اللجوء ان تشارك القارئ بمرارة الهجرة و أوجاعها، لم تلجأ إلى رسم و صف الشخصيات، فنحن لا نعلم عنهم الا انهم إباء، و قد تركوا فلذات اكبادهم في اتون بلد حرقته الحرب و آلة الدمار، و لم يكن من الضرورة ان تلجأ إلى وصفهم كون الابطال هم من نسيج مجتمع يتشابهون في قصصهم و منابتهم.. فالقرى متشابهة و الشخص أيضا، فمدلول الاسم "سيامند" يدلنا على الإنسان الكردي الذي ترك وطنه الذي كلنا نعلم اي بيئة هو و اي تاريخ و اي جغرافية تتوزع على تخومها و عند عتباتها النقية رائحة الدم و النفط و البارود،،. حيث تحترق الأحلام قبل الأشجار، و تنهار النفوس قبل البيوت،

الزمن في القصة مكثف و تطول الرحلة، و الزمن يلتف و يشير الوقت إلى الاحباط و اليأس، لكن ثمة روح جماعية تستكمل الرحلة،، فقط خمس دقائق كانت تفصلهم عن الحدود.. عن الخلاص..

عن الحلم... عن حلم مهاجر.. و ما اكثر المهاجرين و مااقل تحقيق الأحلام...

انه بؤس الإنسان الذي اتعبته الحياة و ارهقته المعيشة فيفر ليس إلى بلدان بعيدة باردة جميلة ربما،.. و انما إلى الحلم..

كما احلام كل مهاجر...


ملحق :

النص الكامل لقصة (الدقائق الخمس) للكاتبة افين يوسف 


#الدقائق_الخمس


بجبينٍ يتصبب عرقاً، ونبض متسارعٍ يزلزل كيانه عابراً أنفاسه اللاهثة، خرَّ بجسده المنهك جاثياً على ركبتيه فتهشمت الأغصان اليابسة تحت ثقل جسده، حلَّق ببصره إلى السماء، اتَّسعت حدقتاه وفغُر فاهُه كمن يصارع الموت، حينها انبلج شعاعٌ مضيءٌ من بين الأحراج الكثيفة، يحمل بين خيوطه طفلاً ذو أعوامٍ عشرة، ذهبيُّ الشَّعر حسن المبسم.

راح الصغير يركض حول أبيه وقد غمرته فرحةٌ عارمة، أصوات ضحكاته ملأت المكان بالسعادة، كان يشاكس أباه حيناً ويتودد إليه حيناً آخر، بينما كان الأب يشعر بالغبطة ويتظاهر بالانفعال والغضب فتخونه ابتسامته الخفية وتبرق في عينيه. 

مدَّ الصغير يده إليه، ففعل الأب مثله، ارتجفت ذراعه وسالت دمعةٌ حارةٌ من عينه، فجأة؛ نفحت ريحٌ عتيَّةٌ فحجبت غيمةٌ عابرةٌ النور المنبعث من جوف الظلام، فانطفئ الشعاع، والطفل اختفى.

طأطأ سيامند رأسه خائباً وقبل أن يجهش بالبكاء، نطَّت فتاةٌ في السابعة من عمرها أمامه بخفة فراشة، كانت ترمقه بنظرة عتبٍ، حاملةً بين ذراعيها الدمية التي أهداها لها والدها في عيد مولدها، سمعها تقول بصوتٍ ناعمٍ وخافت: "أبي لا تذهب، أرجوك ابق معي".  

التفت يبحث عن مصدر الصوت وصاح: "آه يا ابنتي! أين أنت صغيرتي؟ أين أنت؟" لكن لا شيء بالجوار سوى الغابة المتشعبة والضباب والريح. حاول شقَّ سُحب الضَّباب ببصره باحثاً عن طفليه، فتراءت له صورة زوجته تقف هناك بعيداً بين الأحراش، تعلو وجهها ابتسامةٌ مصطنعة، وفي عينيها بريق حزن، كانت تلوِّح له مودعةً، والدموع تغرق وجهها.

صرخ عالياً، ثم ضرب قبضتيه في الأرض، وأخذ يغرز أظافره في الوحل المغطى بالحشائش والأعواد اليابسة، راح يبكي ويبكي... كمن ضاقت به الأرض والسماء. صار يهذي قائلاً: "لقد خذلتكم، لقد خذلتكم ولن أستطيع تخليصكم وإيصالكم إلى بر الأمان، سامحوني أرجوكم ...سامحوني".

فتح عينيه بعناءٍ شديد، فرأى أخيلة رفاق دربه يلتفون حوله، يحاولون مساعدته بعد أن سقط مغشياً عليه لشدة التعب، كانوا قد ساروا لساعاتٍ طويلة بين الأشجار الكثيفة في الغابة البلغارية. نظر سيامند إلى رفيقه الشاب ريزان، قال له بصوت متعبٍ رخيم: "أكملوا الرحلة بدوني، فأنا أعيق سيركم، تابعوا المسير، وأنا سأبقى هنا". 

في تلك الليلة الخريفية المتخمة بالألم والمصاعب، لم يكن سيامند وحيداً، فقد كان برفقته عدد من الأشخاص يبحثون مثله عن الخلاص، بينهم نساء وأطفال، توجَّب عليهم عبور الغابة الموحشة سيراً على الأقدام، قيل لهم أن الأمر لا يحتاج إلا بضع ساعاتٍ للوصول إلى وجهتهم، كانت العتمة

تلفُّ المكان، وأصوات حيواناتٍ غريبةٍ تخترق قلوبهم قبل آذانهم، كانوا يمشون متلاصقين في صفٍ واحدٍ طويلٍ خوفاً من أن يتوه أحدهم بين السراخس المتشابكة والمتشابهة.

سقاه ريزان بعض الماء وقال له: "لا بأس يا صديقي، سنرتاح بضع دقائق ونتابع الطريق معاً، مؤكدٌ لن نتركك هنا لتهلك".

جلس سيامند محاولاً استرداد عزيمته، يرتجف من البرد، وملابسه مبللة لكثرة ما تعرَّق. جمع الشبان بعض الحطب من الغابة واجتمعوا يحاولون إيقاد بعض النار ليجففوا ملابس سيامند وليتدفؤوا، لسوء حظهم لم تعمل الولاعة الوحيدة المتبقية معهم، لكن ريزان أصرَّ على إشعالها، وراح يقدحها مرةً تلو الأخرى حتى اتّقدت شعلتها الصغيرة، فأسرع أحدهم يخلع حذاءه، ثم أشعل جوربه ووضعه على الحطب الرطب، ففعل رفاقه مثله حتى ورَّت النار وارتفعت، وانتشر الدفء في المكان.

شرد سيامند برهة بعد أن دبَّت فيه الحياة، راح يفتش حقيبته المحشوة بالملابس والأشياء، غرف يده بداخلها حتى وصل إلى عمقها، ثم أخرج علبة صغيرة مزركشة، فتحها والتقط من داخلها بعض الصور والرسومات، تمعن فيها مطولاً، كانت تحمل في طياتها عبق ذكرياته، أعاد العلبة لمكانها، ونهض مستنداً على كتف رفيقه، مع بزوغ الفجر واصلوا المسير، وما هي إلا دقائق حتى وصلوا إلى الجانب الآخر من الحدود. 

نظر سيامند إلى صديقه بابتسامةٍ ساخرة وقال: "إيه يا صديقي، كانت خمسة دقائق فقط كل ما يفصلنا عن الحدود! أتظننا نجونا من الاعتقال هذه المرة أيضاً؟". 

ثم جلس مستنداً إلى جذع شجرة، تنفَّس بعمقٍ، كانت المرة الأولى التي يشعر فيها بالانتعاش منذ دخوله تلك الغابة، كأنها أطلقت الأوكسجين كله دفعةً واحدة، تأمل السماء بصمتٍ وضم كفيه على صدره كما لو كان يؤدي صلاة الشكر، نظر للطريق عبر الغابة حيث ترك عائلته خلفها، تلك اللحظة خُيِّل إليه أنَّ الأشجار تتلألأ، والطيور تنشد ألحاناً شجيَّة، كانت الشمس قد بددت سحب الضباب بعناء، فتخلل نورها الأفنان الباسقة ليتشكل من انكسار شعاعها خلال حبيبات الندى الباردة أقواس قزح تحمل ألوان الطيف... وأحلام مهاجر.

عبدالوهاب بيراني

سوريا/الحسكة

10/3/2020

DIESE WEBSEITE WURDE MIT ERSTELLT