بين الرؤساء الاميركيين الأربعة الذين تعاقبوا أخيراً على البيت الأبيض، وألحّوا على الدول العربية للاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، وحده دونالد ترامب نجح في تحقيق هذا الخطوة مستنداً الى عوامل عدة: أولاً، التحوّلات الداخلية التي أضعفت العالم العربي وجعلت الدولة في مجموعة من البلدان مهدّدة بوجودها وأمنها. ثانياً، التماهي غير المسبوق بين الولايات المتحدة واسرائيل في رسم سياسة مشتركة وقائمة على ميزان القوى في الشرق الأوسط. ثالثاً، استغلال التدخّلات الإيرانية وتمدّدها واختراقها أربع دول وتشكيلها خطراً فعلياً على استقرار هذه الدول وأمنها، وبالتالي على الأمن القومي. ورابعاً، توظيف الأزمات الاقتصادية التي تفاقم بعضٌ منها بسبب عقوبات أميركية مباشرة وغير مباشرة، ثم تداخلها مع عقوبات مرتبطة بالصراع الأميركي - الايراني.
كان اجتياح "النفوذ" الإيراني للعراق، بالتزامن مع الغزو والاحتلال الاميركيين (2003)، حدثاً توقّعته الرياض والقاهرة مسبقاً ولفتت الى احتمالاته لكن واشنطن كانت لا تزال تحت تأثير انفعالات ما بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 واندفاعها الى الانتقام من "الإسلام السنّي" الذي حمّلته أوزار الإرهاب وتنظيماته. وأصبح معروفاً الآن أن التواصل الاستخباري الخليجي - الإسرائيلي، الذي بدأ جزئياً منتصف التسعينات على خلفية اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل (1993)، ما لبث أن تطوّر بعد الحدث العراقي، ثم قفز الى شيء من العلنية بلقاءات دعا إليها الأميركيون خلال حرب 2006 في لبنان وبعدها باعتبار أن تلك الحرب كانت استهدافاً إيرانياً لإسرائيل. استمرّ التعاون الاستخباري متقطّعاً أو متواصلاً، ثنائياً أو أكثر، الى أن أثمر زيارة بنيامين نتانياهو لسلطنة عُمان كذروة تطبيع غير معلن، ثم اتفاقَي سلام وتطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل.
لا جدال في أن الاتفاقين الاماراتي والبحريني عكسا من جهة هاجساً أمنياً مردّه الى تهديد فشلت إيران في تبديده، ومن جهة أخرى تطلّعاً الى مقاربة جديدة (لم تتضح بعد) للقضية الفلسطينية. استند الاتفاقان الى القرارات السيادية و"أولوية المصالح الوطنية"، بل استندا أيضاً الى: 1) أن التطبيع مع إسرائيل سهّل حصول تلازم "استراتيجي" أميركي - خليجي غير مسبوق من جانب الادارات الأميركية. 2) عدم الركون الى "جمود عملية السلام" بين الفلسطينيين واسرائيل. 3) رفض الاختراق الإيراني للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. و4) الرهان على أن التطبيع مع إسرائيل ربما يحرّك ذلك "الجمود"، وهذه مسألة مثيرة للجدل والشكوك في غياب أي مؤشرات الى تغيير في السلوك الأميركي أو الإسرائيلي تجاه حقوق الفلسطينيين.
واقعة التطبيع السوداني تعزّز هذه الشكوك، كونها مختلفة بتفاصيلها ومحتواها وأهدافها. هي واقعة ابتزاز واستضعاف خالصين للسودان، إذ خُيّر بين المزيد من الغرق في أزمته الاقتصادية الهائلة وبين التطبيع الذي يضع أمامه خياراتٍ إنفراجيةً، مفتاحها رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب (إلغاء الديون، مساعدات وقروض من البنك الدولي، استثمارات من دول وشركات كبرى...). هذه خريطة الطريق التي عُرضت على الخرطوم منذ أواخر 2019 وتضمّنت أولاً ابرام سلام مع الحركات المسلحة في دارفور وغيرها، ودفع تعويضات لضحايا اميركيين في هجمات إرهابية نُسبت الى تنظيم "القاعدة" عندما كان سودان عمر البشير يؤوي قادةً منه فحمّل مسؤولية وفُرضت عليه عقوبات. فهل كان للسودان أن يرفض؟ لا طبعاً.
لم يُشَرْ حينها علناً الى التطبيع، لكن هذا الشرط انكشف عندما التقى رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان نتانياهو فجأةً في كمبالا (اوغندا) في شباط (فبراير) الماضي. كان واضحاً أن العسكريين لا يقفون أمام اعتبارات سياسية، ففي بالهم أن عسكريَّين آخرين سبق لهما أن غلّبا مصلحة نظاميهما (جعفر نميري عندما سهّل ترحيل اليهود الفالاشا الى إسرائيل، وعمر البشير الذي عرض مقايضة التطبيع لقاء وقف ملاحقته جنائياً وإعادة تأهيل نظامه). هذه المرّة يستحق الأمر كل مجازفة بوجود حكومة مدنية ومرحلة انتقالية. ولذلك، فعندما اقتربت الاستحقاقات وعظُمت الضغوط الاميركية بعدما فرض الاتفاقان الاماراتي والبحريني أمراً واقعاً، هل كان بالإمكان رفض "انقاذ السودان" من أجل فلسطين؟ طبعاً لا. وهل يعني ذلك أن السودانيين تخلّوا سياسياً ووجدانياً عن القضية الفلسطينية؟ لا أيضاً.
شهور طويلة من التفاوض مع الداخل والخارج حُسمت في ساعات قليلة، مباشرةً وعن بعد، وكانت كافية يوم الجمعة الماضي لبتّ مسألة عمرها عقود من الزمن وانطبعت خلالها لاءات الخرطوم الثلاث في الاذهان العربية (لا صلح لا تفاوض لا سلام). ومن البديهي أن يلاقي التطبيع رفضاً ومعارضةً داخليين لكنهما سيبقيان في اطار سياسي، إلا إذا وجد "الاخوان" وغيرهم من الاسلاميين أن لديهم فرصة للعودة الى المشهد السياسي، علماً بأن الأطراف السياسية الأخرى تحملهم مسؤولية ما خلّفه نظام البشير من عقوبات وديون وتعقيدات داخلية. فالسودان ظُلم بالدكتاتورية وبردود الفعل الخارجية عليها، إذ يعتبر رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي أن التعويضات لضحايا الإرهاب (335 مليون دولار) هي بمثابة "غرامات الجلادين"، وفي السياق يرى أن "إقامة علاقات مع دولة الفصل العنصري (إسرائيل) مماثلة لإقامتها مع جنوب افريقيا العنصرية قبل تجرّها من الأبارتيد"...
لا تقتصر المعارضة على التطبيع نفسه، بل تمتد الى مخاوف على المرحلة الانتقالية نفسها واحتمالات تمديدها، باعتبار أن الأطراف الخارجية المعنية بالسودان قد تفضل بقاء العسكر في الحكم بشكل أو بآخر، سواء لحماية الاستقرار أو لضمان تنفيذ الخطوات التطبيعية. ويُطرح السؤال الآن عما إذا كانت الوعود المالية والاقتصادية ستأتي بالسرعة التي تتوخّاها الخرطوم، خصوصاً أنها ربطت التطبيع الرسمي والنهائي بموافقة البرلمان الذي سيُنتخب بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، وفي نظر العسكريين والحكوميين يُفترض أن يتحسّن الاقتصاد وتظهر المصلحة السودانية بوضوح لئلا يجد البرلمان نفسه إزاء حال تطبيع متقدّمة على أرض الواقع، لكن من دون نتائج.
بات التطبيع السوداني مؤشّراً عملياً الى ما ستكون عليه السياسة الأميركية، أيّاً يكن الرئيس في البيت الأبيض، حيال الحلول والتسويات لأزمات سوريا والعراق ولبنان واليمن. فحيثما تكون الأنظمة ضعيفة ومتهالكة والاقتصاد معدوماً ومنهاراً سيشكّل التطبيع خشبة الخلاص الوحيدة.
وفي حال القضية الفلسطينية، إذا استمرّ التراجع في احتضانها، مع تحوّل التطبيع مساراً عربياً متّبعاً فإنه لن يكون فقط "طعنة" أو طعنات متتالية في ظهر الفلسطينيين، بل سيحتاج بإلحاح الى تشاور وتفاهم عربيين لاعتماد مبادرة سلام معدّلة تُحدّد فيها معايير المرحلة المقبلة لتسوية القضية. إذا أن التطبيع الحالي يلبي تطلّعات إسرائيل ومصالحها وتثبيت احتلالها، فيما ينعكس بشكل كارثي على الفلسطينيين ويؤثّر سلباً على محاولاتهم الراهنة لتوحيد صفوفهم وتسوية صراعاتهم على السلطة. يُفترض أن العرب، مطبّعين أو راغبين أو غير مطبّعين يريدون تسوية عادلة للفلسطينيين، وهذا يتناقض كليّاً مع مضمون "صفقة القرن" التي تنتهك حقوقهم. والأهم أن على العرب أن يجيبوا عن السؤال: هل يريدون التخلّي عن القضية الفلسطينية ونقلها من الكنف العربي لتصبح، بحكم الأمر الواقع، في كنف المتاجرات الاسرائيلية والإيرانية والتركية؟