القرار للبنان إذا أراد، وخرائط الطرق مرسومة، منها ما يُختَزل بـ "الحياد" الذي يطرحه البطريرك بشارة الراعي، ومنها ما يتطلّب تصحيح سلوك "حزب الله" و"التيار العوني" لاستعادة الاهتمام العربي - الخليجي بلبنان، ومنها ما يفرض "إصلاحات" يلحّ المجتمع الدولي بدوله وصندوقه وبنكه، ومنها ما يتعلّق بالولايات المتحدة واستثناءاتها من العقوبات و"توسّطها" لترسيم الحدود مع إسرائيل ومعالجة إشكالات متراكمة في منطقة عمليات "اليونيفيل"... القرار للبنان إذا أراد، لكن مَن الذي يُفترض أن "يريد" في لبنان: الدولة أم الدويلة؟
أجندة "حزب الله" تستبعد إمكان تصحيح سلوكه، بل ان بعض أصواته يروّج أن "الحصار الأميركي يتراجع"، موحياً بأن صلابة "مقاومته" فرضت هذا التراجع، وأن تشدّده بدأ يُثمر. كل العواصم يبدي اليوم قلقاً جدّياً على لبنان، فهي لا تريد "سقوطه" بفعل حكم وحكومة فاشلين بخضوعهما لـ "حزب الله"، ولا تستطيع إنقاذه ليسقط كليّاً ونهائياً في يد هذا "الحزب". لذلك يدور سيناريو الانهيار الحالي بإرادة "الحزب" وإشرافه، وهو يقيس أي تغيير خارجي (في اللهجة، وليس في الضغوط) بما يناسب سياساته لا بما يحقق مصلحة للبنان واللبنانيين، أما حديثه عن "تراجع" فربما يستند الى تلويحه بتنازلات لا تزال في إطار المناورة.
هذه عقلية الاحتماء بـ "الرهينة"/ لبنان، فطالما أنه يحتجز رهينته يشعر بأنه في مأمن، وكلما زاد الخوف على الرهينة كلما أيقن محتجزها بأن مساومةً ما ستُعرض عليه وأنه سينال تسويةً تعفيه من المساءلة والمحاسبة. لـ "الحزب" ولإيران تجربة وخبرة في هذا المجال تدلّ إليهما أزمات كثيرة سابقة، وما تبادل المعتقلين والمحتجزين مع الولايات المتحدة أخيراً سوى بعض من وقائعها.
عودةٌ الى خرائط الطرق تستدعي التساؤل مثلاً عن مغزى الصبيانية في "خداع" صندوق النقد الدولي، لكنها تُظهر أيضاً أن أحداً من "الحزب" و"التيار" لم يجرؤ على التطرق الى انذار البطريرك في شأن الشرعية والقرار الحرّ المصادرين، أو بالنسبة الى التصالح مع المجتمعَين الدولي والعربي، قبل أن يؤكّد مطالبته بـ "تحييد لبنان". لم يشأ طرفا السلطة أن يُفتح نقاش داخلي حول هذه الأفكار التي باتت ملحّة بمقدار ما هي مستقبلية. مفهومٌ صمت "حزب الله" لأنه يحكم ويريد الاستمرار في الحكم، ولأنه هو مَن يصادر الشرعية والقرار ومَن أفسد العلاقات مع العرب والعالم. أما صمت "التيار" فلأنه يحكم باسم "الحزب" وتحت مظلّته وبحسابات فئوية خاصة وضيقة.
لكن ما الذي يجعل "التيار العوني" يعتقد أن استنهاض الفاتيكان وبعض أوروبا لنجدة المسيحيين يمكن أن ينجح في اختراق الأزمة. ربما يخشى الفاتيكان هجرة كبرى للمسيحيين، كما يخشى الأوروبيون موجات لاجئين عابرين للطوائف، لكنهم مدركون أن السبب المباشر لأي هجرة يكمن في سياسات طرفَي السلطة، وفي أن مرجعية "التيار" صارت منذ زمن في طهران وابتعدت كثيراً عن الفاتيكان وغيره.