1 قراءة دقيقة
09 Feb
09Feb

من ذاكرة عيادتي..

بدأت العمل في عيادتي الخاصة في منتصف الثمانينات طبيبة أخصائية للنسائية والتوليد في شارع المشجر ببغداد
راجعت عيادتي فترتها مريضة من بعقوبة تشكو من الإسقاط المتكرر لأربع مرات بعد موت الجنين داخل الرحم في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل وكانت طبيبات مستشفى بعقوبة يجرين لها في كل مرة عملية الكورتاج أي تنظيف الرحم من الجنين الميت ولم يكن للمريضة أطفال . كانت حزينة ومتألمة لدى المراجعة حاولت أن أرفع معنوياتها وأطمئنها بعض الشئ وأجريت اللازم لها بدءاً بتسجيل جميع المعلومات التي ذكرتها لي وأجوبتها لأسئلتي الخاصة والمتعلقة بحالتها المرضية ثم أجراء الفحص النسائي الكامل عليها وطلبت إجراء التحاليل اللازمة والتي كانت حتماً تستغرق بعض الأيام كي أستلمها وأفهم بالتحديد تشخيص حالتها وسبب موت الجنين داخل الرحم لديها .
عند ذهابي للبيت بقيت هذه الحالة ماثلة في ذهني أقلب فيها الإحتمالات العديدة لموت الجنين والإسقاط المتكرر ولأربع مرات وشعرت بأنني أمام إحدى الحالات الصعبة والمتميزة التي تجعلني أراجع بها نفسي وأتعايش مع الحالة حتى بعد مغادرة المريضة وأوليتها إهتماماً خاصاً وذلك لصعوبة الحالة وتداعياتها من الناحية الطبية بالدرجة الأولى ومعاناة المريضة بالدرجة الثانية
بعد أيام عادت المريضة ومعها نتائج التحاليل الروتينية التي كنا نجريها في وقتها . لاحظت من خلالها بأنها مصابة بداء القطط Toxoplasmosis
وظهر لديها نوعان من الأجسام المضادة ضد طفيلي داء القطط IgG و IgM
مما أكد لي بأن لديها إصابة قديمة لوجود النوع الأول من الأجسام المضادة وإصابة حديثة لوجود النوع الأول والثاني من الأجسام المضادة أو ربما إصابة قديمة نشطت مجدداً لقلة المناعة لديها لسبب ما لأن المعلوم عن هذا الطفيلي لا يترك الجسم مطلقاً عند الإصابة به بل يبقى ويتكيس داخل خلايا عضلات الجسم طول عمر الشخص المصاب به ويكون بحالة ركود وعدم نشاط لكن في حالات معينة ولقلة مناعة الشخص المصاب به ينشط ويغزو الدم ويسبب مشاكل كبيرة لدى الحوامل ومرضى الأيدز وغيرها من أمراض قلة المناعة . أما الأشخاص الطبيعيين تكون أعراض إصابتهم خفيفة جداً كأعراض الرشح أو حتى أعراض غير ملحوظة بالمرة
تركيزنا هنا على المشاكل التي تخص الحامل
إصابة المرأة الحامل بالمرض أو نشاطه لديها من إصابة قديمة قبل الحمل بفترة وجيزة أو أثناء الحمل يصيب طفلها من خلال المشيمة ، ففي الأشهر الأولية للحمل تسبب موت الطفل ويحدث الإسقاط . اما إذا حصلت إصابة الطفل في الأشهر الوسطية والأخيرة يولد ومعه مشاكل كبيرة كإستسقاء الدماغ وفقدان السمع أو فقدان النظر والتخلف العقلي
في ذلك الوقت كانت لدينا شحة في المعلومات عن هذا المرض
حتى من خلال مانملكه من المصادر وأعتقد الى اليوم لم يتوصل علماء الطب في كل العالم الى نتائج بحث مُرْضِية لتشخيص ومعالجة وتقليل مشاكل هذا المرض الخطير بالنسبة للطفولة ولتزويد الأطباء بالمعلومات الكافية عنه . لذا قررت مع نفسي في وقتها أن أحاول جهدي معالجة هذه الحالات في عيادتي بالطرق المتاحة لدينا وأن أسلك سبل النجاح كافة معها وفهم المشكلة الحقيقية للمرض وتشخيصه وعلاجه والوقاية منه لذا حاولت تجميع حالات عديدة قمت بمعالجتها بنجاح والتي أصبحت مصدر فخري ورغبتي الشديدة القيام بدراسة وبحث شامل ثم القيام بنشره في المجلات الطبية لأدع التعرف الأعمق على المرض والإستفادة .
نبذة قصيرة عن طفيلي مرض داء القطط Toxoplasmosis
نُسِبَ المرض للقطط لأن الطفيلي يتكاثر في أمعاء القطة كدورة لحياته وينشأ الطور المعدي والنشط فيها فقط ويخرج مع برازها . الأحتكاك المباشر مع براز القط الذي يحتويه أو أخذه مع الأكل والشرب يؤدي لإصابة الإنسان والحيوان وعند الإصابة يدخل الطفيلي النشط لجميع خلايا عضلات جسم الإنسان والحيوان ويتحول الى طور راكد أو تكيس لذا أكل لحوم الحيوانات المصابة وغير المطبوخة بصورة جيدة أو حتى التعامل مع اللحوم غير المطبوخة من خلال اللمس والسككاكين والأدوات التي تستعمل لتقطيعها يؤدي للإصابة غير المباشرة بالمرض

لتحرياتي الواسعة علمت بأن معهد الأمراض المتوطنة في بغداد لديهم معلومات واسعة عن المرض وتشخيصه ومتابعته وعلاجه . كان المعهد قريباً من مستشفى العلوية للولادة وكانت لدي إتصالات معهم بسبب بعض الحالات التي كنا نقوم بمعالجتها ونحتاج فيها مساعدتهم . لذا أتصلت بالأطباء المختصين لديهم والإستفسار منهم عن كل المعلومات المتوفرة لديهم عن داء القطط في العراق أعلموني الآتي بأن المرض كثير الإنتشار في العراق ويعتبر من الأوبئة
Endemic disease
وذلك لعدم وجود سيطرة جيدة لمنع إنتشاره وتوخي الحذر والوقاية الكاملة من الإصابة بها لذا المرض أستوطن في العراق . طلبت مساعدتهم بتزويدي بكل المعلومات الحديثة والصحيحة لطريقة تشخيصهم وعلاجهم ومتابعتهم ووقايتهم وقارنتها بما لدي من معلومات بهذا الصدد من الكتب المتوفرة لدي والخبرة لكل مايخص إصابة الحوامل وغير الحوامل .
حصلت منهم على معلومات كافية أضفتها لمعلوماتي الخاصة عن المرض . وأعلمني الطبيب الإختصاصي في معهد الأمراض المتوطنة بأن العلاج متوفر لديهم وهم يزودون المرضى به وللمدة المقررة للعلاج . أعلمت المريضة بكل هذه التفاصيل وحددت لها مراجعة بعد ثلاثة أشهر من العلاج ونصحتها بأن تطبق جميع تعليمات الوقاية من الإصابة بالمرض مجدداً من خلال تزويدي وتوضيحي لها لكل ماهو ضروري ومهم .
راجعتني بعد أخذ العلاج اللازم وحسب الموعد المحدد وأجريت لها التحليل مجدداً وأتضح لي بأن هناك تجاوباً ملحوظاً لإصابتها بالمرض ونصحتها بالإستمرار على موضوع الوقاية منها والمباشرة بالحمل . من المفرح ان المريضة راجعتني في بداية الحمل وتابعت الحمل لديها والذي سار بشكل طبيعي جداً وللنهاية وانجبت ولداً صحياً ورغم ذلك تم عرضه على طبيب الأطفال الأختصاصي لمتابعة حالته لفترة سنة كاملة وأتضح بأنه سليم وغير مصاب بداء القطط .
ونصحت المريضة وزوجها بضرورة مراجعتها قبل كل حمل للتأكد من موضوع الإصابة بالمرض والعلاج منه قبل كل حمل وفعلاً راجعتني وكانت تحتاج العلاج ولأربعة مرات قبل حملها وبنفس الطريقة الأولى .الحمل والولادات الأربعة لديها سارت بشكل طبيعي وأطفالها الأربعة كانوا بصحة جيدة وغير مصابين بالمرض أتذكر الأول أسمه محمد والثانية بنت أسمها فيان على أسمي والباقين لا أتذكر أسمائهم .
عالجت مرضى عديدين مصابين بنفس المرض أي داء القطط على مدار أكثر من عشرين عام وكانت غالبية النتائج لدي جيدة وناجحة مما دعتني أن أجمع المعلومات الكافية عنهم لإجراء دراسة وبحث موسع في المستقبل عن هذا الموضوع الذي ألهمني كثيراً لأنشر النفع للكثيرين . لكن مصيره كان كأي موضوع في العراق لايكتمل بسبب الظروف الصعبة والحروب المستمرة التي كانت في حياتنا بأستمرار والتي عشناها طيلة فترة الثمانينات والتسعينيات والى 2005 حيث أشتدت الأوضاع سوءاً خصوصاً اغتيال وتهديد الأطباء في العيادات مما أضطرني الوضع أن أغلق عيادتي بما فيها والى الأبد كي أنقذ عائلتي ونفسي من شرور البشر غير الواعي . هاجرت للسويد وانتهت معها كل الطموحات والرغبات التي صممت القيام بها بعد تفرغي الجزئي من عملي المرهق . وأهمها موضوع الدراسات والبحوث حيث أنتظرت القيام بها ولكثير من المواضيع المهمة التي كانت حصيلة أتعابي وتجاربي وخبراتي الناجحة والطويلة في مهنتي ومع الهجرة غلقت عيادتي وضاعت معها جميع أولياتي وطموحي .


تم عمل هذا الموقع بواسطة