1 قراءة دقيقة
17 Feb
17Feb

من ذاكرة عيادتي
الحادثة الثالثة لكتابي يوميات طبيبة عراقية

حدث شيق وحزين عشته فترة عملي في زاخو كطبيبة قرى وأرياف بين سنة 1972 و 1974.
الوقت ربيع. نحن في شهر مارس/ آذار، ننتظر حلول عيد نوروز. كنا نتهيأ له بخياطة أجمل البدلات الكوردية لمناسبة العيد والتي تضيف بألوانها الخلابة جمالاً إضافيا للطبيعة الخلابة في زاخو، حيث جمال الطبيعة يطغي على سهولها، ووديانها وتلالها وجبالها، وترتدي جميعها أجمل كسوة لها وهي من الخضار المنتشر فيها مختلف ألوان ورود الربيع.

ربيع زاخو الزاهي ينتعش بخرير خابورها الهادر، ومرور رياحها وهي تجتاحها بكل رفق وحنان، وبإطلالة الربيع يبدأ الدفء المريح الذي يكتسح الجو ويلطفه للساكنين ويسري ويدب في النفوس، تتناغم معه حياة العاشقين والمحبين وتزيد رغبتهم للقاء بعضهم البعض، وهناك أنغام الموسيقى وجمال الأصوات المنبعثة مع أغاني الحب بأشجى الألحان المتميزة لأغانينا نحن الكورد في مقاهي الربيع المزينة بأضواء مختلفة الألوان والمطلة على ضفاف الخابور .

حادثة اليوم تتعلق بشخصين غلبهم العشق والغرام فتى وفتاة في منطقة قريبة من زاخو، بمجيئ الربيع أصبح لهيب حبهم وغرامهم في أوجه. أهل الفتاة وقفوا ضد هذا الحب المتوهج كالمعتاد، لا قيمة لرأي الفتاة، مشاعرها تهمل وقرارها بيد الأهل والأعمام، والزواج يتم بصفقات الإستفادة من المال أو الجاه. قصتهم تبدأ برفض أهل الفتاة للفتى مما خلق لديهم روح التحدي الأعمى لإنتصار حبهم رغم الجميع وترتيب قرار فرارهم معا الى زاخو.
في ليلة ظلماء تهيؤا له دون التفكير بالعواقب والأقدار والمفاجئات، حيث رأوا في زاخو المكان المناسب لهم لينتعش فيه حبهم ويترعرع مع ما ذكرته من أجواء جميلة ومريحة لعاشقين مثلهم. في الساعة الثامنة صباحا كنت جالسة في غرفتي الخاصة حيث مسؤوليتي فحص ومعالجة مراجعي المستشفى من النساء، حسب اتفاقنا نحن الأطباء في مستشفى زاخو. المدير د. شمعون مسؤول عن فحص الرجال مرضى الباطنية، ود. يونس مسؤول عن فحص الرجال حالات الجراحة، والدكتور محمد حمام مسؤول عن الأطفال، والدكتورة. نوار الأطرقجي مسؤولة عن مراجعي المستوصف. كانت هناك ردهتان للكبار واحدة لإدخال الرجال وردهة لإدخال النساء وهناك ردهة للأطفال وردهة لحالات الطوارئ، وكل الأطباء لهم نفس الحق بإدخال المرضى لهذه الردهات ومعالجة المرضى فيها والحالات الصعبة تحول من قبلناإلى مستشفى دهوك الجمهوري حيث كانت فيها الإختصاصات، لأننا وقتها كنا في بداية تخرجنا، وتدريبنا، وتدرجنا الطبي أي فترة القرى واألرياف، وكان هناك أيضا طبيب أسنان أو طبيبة أسنان وصيدلي ومساعد صيدلي ومحلل يقوم بتحاليل بسيطة في مختبر مستشفى زاخو، يصل عدد المراجعين اليومي لكل طبيب حوالي100 مريضة أو مريض من الساعة الثامنة صباحا وإلى الساعة الثانية ظهرا، كانت المراجعة مجانا والدواء مجانا، وعند انتهاء الدوام كنا نلاحظ كثير من الأدوية مرمية في ساحات المستشفى مع الورقة الملفوفة بشكل مخروطي على الدواء الموصوف من قبلنا لهم. أبتسم لرؤيتها وأتذكر الإزدحام الصباحي والسرعة التي أعمل بها مع محاولة السيطرة على هدوئي رغم الإزدحام والتعب المستمر، وأمام باب كل غرفة من غرف الأطباء كان يقف شرطي واحد لينظم دخول المراجعين لغرفة الطبيبة أو الطبيب ويمنع التجاوزات . صبيحة يوم الحادث دخل الشرطي الذي كان يقف على باب الغرفة العائدة لي في المستشفى لإعلامي بوجود قضية شرطة تعود لفتاة أتى بها شرطيين من مركز شرطة زاخو، كانت ورقة الشرطة فيها طلب إجراء الفحص على الفتاة التي كانت بصحبتهم لأثبت لهم إن كانت باكر أو لا ، طلبت إدخالها لوحدها وإبقاء الشرطين بالباب دخلت لغرفتي فتاة جميلة بطولها الفارع الجميل وعضلات جسمها المتناسقة التي تنطق بقوتها وحيويتها، مرتدية بدلة من اللباس الكوردي الجميل بلونه وخياطته للمناسبة التي هي متحضرة لها وهي الزواج، كانت سافرة دون عباءة أو غطاء للرأس ، حيث القرى المحيطة بزاخو كانوا مستمرين وملتزمين بارتداء اللباس الأصلي للمرأة الكوردية ، وكانت الفتاة ذات ضفائر طويلة بلون السنابل ووجه برونزي محترق بشمس الربيع. احمرار خديها زاد من جمال وجهها ونظرات عينيها الواسعتين العسليتين تائهتين ومليئتين بالخوف والقلق وفيهما حزن دفين .
أجلستها لترتاح ثم سألتها بلطف شديد، ما هو موضوعها؟ ولماذا هي هنا اليوم مع طلب إثبات بكارتها؟ أعلمتني بحزن شديد وهي تنظر من شباك غرفتي إلى شيء مجهول لم أفهمه منذ البداية، حيث بدأت قصتها بهروبها ليلاً مع عشيقها وأخوه األصغر معهم لتضمن عدم تحرش الحبيب بها رغما عنها وعنه من شدة الحب الذي بينهما، لحين وصولهم إلى زاخو وعقد قرانهم في محكمة زاخو والأخ يكون عليهم حارسا لمنع الخطأ وشاهدا على زواجهم الصحيح مع شخص آخر يجدوه وقتها. كانت قصتها مثيرة جدا. أول مرة أسمع بهكذا قصة حقيقية وبطلة القصة معي وأمامي استمرت بسرد قصتها بأنهم خرجوا من القرية بحلول الليل وكانوا ثلاثتهم متهيئين لها. كان لقائهم في منطقة معينة من قريتهم وتحت ظلام الليل بدأ مسيرهم على الأقدام في الحشائش والأحراش تارة والصخور والرمال تارة أخرى وبين الركض والمشي السريع ليصلوا سريعا إلى مبتغاهم وهدفهم المرسوم بالتقائهم السريع كحبيبين بالزواج الحالي رغم المعارضين. ظهرت لهم خيوط الصباح وتقربوا من زاخو لكن حية سامة كانت لهم بالمرصاد تتمايل بزحفها السريع نحوهم في ذلك الصبح الباكر بين الحشائش التي سلكوها في طريقهم إلى زاخو ولدغت حبيبها التي تركت عالمها الخاص بين أهلها من أجله وكانت دمعة كبيرة تنسكب من كلتا عينيها وهي لا تزال تنظر من خلال الشباك. سألتها مجددا وماذا حدث بعدها؟ لأمنعها من الإستمرار في البكاء، أكملت بأن الأخ لم يستطيع حمله بعد لدغ وهروب الحية. لكنني اضطررت لحمله على ظهري لأستطيع إنقاذه وجئت به للمستشفى والآن هو راقد في إحدى ردهات مستشفاكم وأخوه معه والمستشفى أبلغت عني الشرطة لحمايتي وهم الآن طلبوا فحصي من قبلكم لكنني أقسم بأنه لم يمسني وكنا ننتظر زواجنا بالحلال. أخبرتها بأن الفحص ضروري لحمايتها، وقمت به بحضور ممرضة دعوتها للبقاء معي، وجود الممرضة ضروري جدا في هذه الحالات، كشاهد لحماية الطبيبة التي تقوم بالفحص من الإدعاءات الكاذبة بأنها تسببت في تمزق غشاء البكارة لدى الفحص في حال يكون غشاء البكارة متمزق بسبب ممارسات الجنس. وعلى الطبيبة الفاحصة التأكد من وجود تمزقات غشاء البكارة القديم منه والجديد مع الوصف الدقيق لأن هذه الفروقات مهمة جدا لقرار الحاكم بإدانة أو تبرئة المتهم .
يتم الفحص من قبل لجنة من الأطباء أو بوجود الممرضة مع الطبيبة الفاحصة عند عدم توفر اللجنة، وبارتداء الكفوف المطاطية فقط يتم الفحص، وعدم استعمال أي آلة حديدية ثم تدون الملاحظات بأمانة في ورقة الشرطة.
لدى إجرائي الفحص على هذه الفتاة الجميلة وبحضور الممرضة لم أر أي أثر لممارسة الجنس معها. كانت الفتاة باكر ، كنت حزينة من أجلها وهي فتاة عاقلة موزونة قوية صادقة وجميلة ، ظلمت من أهلها بسبب حبها ورفضهم اختيارها لشريك عمرها مما أدى خطأ أهلها وتصرفهم الغير مدروس لرفض اختيارها لهكذا حل خاطئ لمعالجة موضوع حبها والدفاع عنه، حيث واجهت في النهاية كل هذه الإحراجات والآلام القاسية والمصير المجهول ، ساعدتها للنهوض وارتداء ملابسها كما كانت قبل الفحص بعد أن أعلمتها بأنها صادقة وإنها باكر ضحكت وقالت أعلم دكتورة ، لم أنطق بشيء يخالف الحقيقة . أكملت كتابة التقرير للشرطة التي يتم من خلاله ويؤكد تبرئتها وتبرئة حبيبها من أي فعل خاطئ، وإذا بها تتوسل بشدة أن أساعدها قبل أن أسلمها للشرطة لأنهم سيأخذونها لمركز الشرطة، وطلبها كان أن أرافقها للردهة التي يرقد فيه حبيبها لأدعها تلقي نظرة أخيرة على حبيبها. بقيت حائرة لأن المراجعين أمام غرفتي كانوا ينتظرون وهم غير متعودين على الإنتظار لفترة طويلة لكنني أيضا رأيت أن لا أكسر قلب هذه الفتاة أكثر.
نبهت الشرطي الواقف ببابي من خلال جرس للحضور عندي وسألته إذا كانت هناك حالة طارئة. نفى وجود الحالات الطارئة . أخبرته بأنني سأرافق الفتاة صاحبة قضية الشرطة لفترة قصيرة ليعلم المرضى المنتظرين وبعدها أقوم بفحصهم ومعالجتهم .
بوصولنا للردهة التي يرقد فيها حبيبها كان فكري مشغول بشيء واحد ومنصبا للتركيز على حجم ووزن حبيبها وكيفية استطاعتها حمله على ظهرها بعد أن لدغته الحية . رأيته شابا في متوسط عمره ، معتدل الطول والبدانة ذا ملامح لطيفة . كانت اللدغة واضحة في ساقه الأيمن، وساقه تلك كان فيها ورم شديد وحسب ملاحظتي فترتها كان محيط ساقه الملدوغة مقارب الى محيط خصره. كان الفتى في حالة صدمة شديدة وطبيبه المعالج د. يونس
كان قد أمر بإعطائه المغذي من خلال أوردة كلتا يديه وكانوا قد ربطوا ساقه بـ "باندج" فوق منطقة اللدغة ومستمرين بتهيئة سيارة الإسعاف ليتم إرساله بها إلى مستشفى دهوك الجمهوري وكذلك تهيئة مضمد لمرافقته في الإسعاف لحين إيصاله إلى مستشفى دهوك ليتم معالجته فيها بصورة أحسن حسب رأي طبيبه المعالج د. يونس وليتم إعطائه الدواء المضاد لسم الحية الذي لم يكن متوفرا لدينا في مستشفى زاخو وقتها. وهو دواء يمنع سم الحية بالإستمرار لتكسر وتحلل خلايا الدم والتي تسمى Haemolysis
وكذلك إتلاف خلايا عضلات الجسم وتأثيرها على جميع خلايا وأجهزة الجسم بصورة عامة ، والذي يؤدي للموت . وكان من الضروري معرفة نوع الحية لمعرفة نوع السم لديها وما هو الدواء المضاد له، وعند عدم معرفة نوع الحية، يكون الدواء المضاد لمزيج من السموم وحسب أشهر أنواع الحيات في تلك المنطقة التي يحصل فيها لدغ الحية للإنسان . وإذا بالفتاة تركض إلى حبيبها وتقبله في جبينه لتودعه وكان هذا آخر لقاء بينهم وهو في حالة فقدان الوعي الكامل ولا أظن بأنه شعر بها . ثم تبعت الفتاة الشرطة الذين كانوا على عجلة من أمرهم لأخذها للمركز . رجعت الى غرفتي لأكمل فحص المرضى الذين ينتظرونني وبعد فترة وجيزة سمعت بوفاة حبيب الفتاة حتى قبل نقله بالإسعاف إلى مستشفى دهوك. عشت يومي كله حزينة. أتذكر حبهم ونضالهم من أجل إنقاذ حبهم الذي لم يكتب له النجاح ، وفكرت كثيرا بدور الأهل ورأيهم المتعصب والغير المدروس الذي يسبب تحطيم وتعاسة أولادهم .


تم عمل هذا الموقع بواسطة