مسرح سعد الله ونوس .. تنويعات فنية على إدانة القهر
مسرح سعد الله ونوس .. تنويعات فنية على إدانة القهر
1 قراءة دقيقة
مسرح سعد الله ونوس .. تنويعات فنية على إدانة القهر/ أحمد اسماعيل اسماعيل في ذكرى وفاته في 15 مايو 1997
لا يختلف اثنان من المعنيين بالثقافة العربية على المكانة الكبيرة التي كان، وما يزال، يحتلها المسرحي السوري سعد الله ونوس في هذه الثقافة، وعن طبيعة كتاباته وتوجهاتها المناهضة للقهر والقاهرين. الأمر الذي يثير سؤالاً لا يخلو من فضول: ماذا لو كان هذا المبدع حياً ولم يغادرنا إلى مثواه الأخير يوم 15أيار سنة 1997، وعايش ما يحدث اليوم في أجواء الربيع العربي، منذ البداية، بل وحتى بعد أن أفسدت روائح براميل البارود نسائمه، وغيبت مشاهد الأشباح الملثمة مهرجان الألوان في حياتنا؟
أحمد اسماعيل اسماعيل
إن العودة إلى كتابات سعد الله ونوس ومواقفه، بدءاً بتجربته الكتابية الأولى، والمتمثلة في مجموعة “حكاية جوقة التماثيل” الصادرة عن وزارة الثقافة السورية سنة 1965 وكذلك مجموعة مسرحيات “فصد الدم” الصادرة في ستينيات القرن الفائت، سيلمس بقوة نزعة التمرد لدى هذا الكاتب على السلطات القامعة وسياسة قهر المواطن وإهدار كرامته، والتي صاغها في قوالب فنية وأشكال رمزية وتجريدية مستوحاة من طبيعة تلك المرحلة التي كان للمسرح الوجودي والعبثي فيها حضوره القوي، فكان من الطبيعي، والحال هذه، أن ينعكس أثر ذلك؛ من سيادة الذهنية وغلبة المونولوج على الحوار الدرامي، على عدم تحقيق التواصل المنشود مع المتلقي المحلي، الشريك الذي سيوليه ونوس جلّ عنايته في المرحلة الإبداعية التالية (الملحمية) من تجربته، بدءاً بمسرحيته (حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) والتي توقع لها ونوس الشاب أن تحدث تغييراً مباشراً لدى الجمهور المتلقي ليخرج من فوره من العرض في مظاهرة ضد أبطال الهزيمة المتربعين على عرش السلطة، ولكن ذلك لم يحدث لأسباب ستتجلى في كتابات سعد الله ونوس الكهل.
وبعد فترة زمنية غير طويلة يدخل سعد الله ونوس مرحلة إبداعية ثانية، وذلك بعد أن تخلى، حسب قوله، عن نهج برجوازيته الأفعوانية والمتملصة، وأيديولوجيتها، لينحاز إلى الطبقة العاملة وجمهورها العريض، ويختار الملحمية قالباً فنياً مناسباً لتوعية وتحريض جمهور هذه الطبقة المرشحة لإحداث التغيرات المأمولة، فيكتب لها مجموعة من المسرحيات مثل: “الفيل يا ملك الزمان” عن حكاية طريفة مستوحاة من التراث، أراد من خلالها فضح سياسة السلطة وشرائح الانتهازيين المتكاثرة، هذا التوجه الذي سيتكرر، موضوعاً وأسلوباً، في غير مسرحية، والتي ستتكرر فيها الثيمة ذاتها: تشريح السلطة القامعة والسخرية من ربيبتها الانتهازية كما في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر”، ثم الكشف عن بنية السلطة القمعية في مسرحية “الملك هو الملك” والتي، رغم ثوريتها الظاهرة، والتي عكست بداية وعي جديد لدى الكاتب يتعلق بالسلطة وآلياتها، حتى ظن بعض النقاد أنها دعوة للتسليم بأمر ديمومة السلطة.
دخل ونوس بعد هذه المسرحية في صمت يمتد قرابة ثلاثة عشر سنة، قضاها صامتاً متأملاً، ليتأكد له خلال هذه المدة عجز التسييس الذي دعا إليه في المسرح، إبداعاً وتنظيراً، عن إنجاز ما كان مأمولاً منه، وإن السلطة أكثر دينامية من الجميع، فقد استطاعت، بالترغيب والتهميش، وحتى بالترهيب، من تدجين المسرح في مؤسسات ومنظمات حزبية، كما فعلت في كثير من مجالات الحياة السورية، وإجراء عملية تماهي خبيثة بينها، وبين الوطن، وذلك بمباركة وتواطؤ من قوى العشائر التقدمية وقبائل مثقفين..ها.
في هذه المرحلة بالذات، يخرج ونوس عن صمته الطويل بمسرحية “الاغتصاب”، المستوحاة من مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمي) للكاتب باييرو باييخو. والتي أثارت جدلاً حاداً في الوسط الثقافي والسياسي حينها، لما اتسمت به من طرح جريء يتعلق بموضوع شديد الحساسية طالما استفادت منه السلطات العربية القمعية إلى حدِّ الاستهلاك، ألا وهو العلاقة مع إسرائيل، العدو التاريخي للعرب، وبغض النظر عن صحة هذا الطرح، أو عدم صحته، من هذه الناحية أو تلك، فإن ونوس لم يتوان عن وضع السلطات العربية والصهيونية في خانة واحدة. وذلك في مشهد سفر الخاتمة من المسرحية المذكورة حين يسأل منوحين المُعتقل من قبل أجهزة الموساد محاوره سعد الله ونوس:
منوحين: وأنت ماذا ينتظرك؟
ونوس: عداوة الصهاينة الإسرائيليين والصهاينة العرب (ص108)
في بداية هذه المرحلة، وفي عام 1992 يصاب سعد الله ونوس بمرض السرطان في البلعوم، ليبدأ بعدها، ومع خضوعه للعلاج، بتشريح الأورام التي استشرت في جسد الوطن، وراحت تفتك بروح المواطن، وهي المرحلة التي لم يعد ونوس فيها ذلك الثوري التقليدي المحرض على التغيير كما كان يفعل في كل ما سبق من كتاباته، متوسلاً مفردات التراث والإسقاط في تجربته الملحمية، واللجوء إلى التجريد في كتاباته الأولى، بل بدأ يكتب نصوصاً ذات مواضيع آنية منتزعة من الحياة اليومية للمواطن، باستثناء مسرحية “منمنمات تاريخية” التي أدان فيها المثقف الانتهازي متمثلاً في شخصية ابن خلدون، والتي أثارت بدورها تساؤلات مريبة حول موقفه المناصر للسلطة، وإن بشكل خفي، والقابل لأكثر من تأويل، ومثلها مسرحية “الأيام المخمورة” التي تنتمي إلى عهد الانتداب الفرنسي:أحداثاً، وإلى الزمن الحالي: موضوعاً ومعالجة، من خلال مصائر الشخصيات التي لم يكن ونوس في مرحلتيه السابقتين يوليها ما تستحق من عناية، إذ كانت الشخصية لديه مجرد رمز لشريحة أو طبقة، ويُعد هذا التحول واحداً من أهم سمات التغيير في تجربة ونوس الأخيرة.
ومن يتصفح مسرحيات المرحلة الأخيرة لهذا الكاتب، سيجد روح التمرد، الأكثر عقلانية ونضوجاً هذه المرة، تبرز في كل مفردة وتفصيلة من تفاصيل أعماله، أحداثاً وشخصيات ومعالجات.. بل وحتى عناوين المسرحيات، عنوان مسرحية “يوم من زماننا” نموذجاً، وكذلك “ملحمة السراب”، و”طقوس الإشارات والتحولات”..والتي يُشرّح فيها جسد السلطة من خلال ممارساتها ومنظومتها التربوية والثقافية.. وانعكاس ذلك كله على دواخل وسلوكيات المواطنين وعلاقاتهم.
إذ أن القوادة فدوى في مسرحية”يوم من زماننا” أكثر قرباً، بل اندماجاً بالسلطة من المدرس والتربوي النزيه الأستاذ فاروق، الذي يكتشف في يوم واحد يزور فيه مراكز السلطة: المدرسة والقائممقام وحتى الجامع: إن وطناً ساسته قوادون وسماسرة وانتهازيون، لا يصلح للعيش فيه، فقد نخر الفساد كيانه حتى كاد يصل إلى العظم، ومن الخير له أن يغادره، ولكن بالانتحار لا بالهجرة، فينتحر وزوجته التي مسها هذا الفساد هي الأخرى.
قال ماركس عن بلزاك بما معناه : إن بلزاك ملكي ورجعي في مواقفه السياسية وتقدمي في كتاباته.
وإذا كان هذا القول ينطبق على كثير من كتابنا، الكثرة الكاثرة منهم، فإن ذلك يكاد يكون جدّ مستبعد عن كاتب هذه هي طبيعة كتاباته، وهذا هو همه الذي ظل وفياً له طوال مسيرته الإبداعية ووفائه لفن المسرح، رغم كل ما تكفل السلطة بمصاريف علاجه في فرنسا.
قد لا نغالي حين نقول: إن مسرحيات ونوس الشاب، وكذلك ونوس الكهل، ليست سوى تنويعات مسرحية على ثيمة واحدة هي: تشريح القهر والتحريض على مقاومته. بالتثوير مرة، والتنوير والتوعية مرة تالية. وهي بذلك تُعد، وبلا مبالغة، إرهاصات ثقافية لهذا الربيع.