تعد مجازر الأرمن التي ارتكبتها الدولة التركية عام 1915م من أبشع الجرائم في حق البشرية جمعاء، لكنها لم تكن الأولى ولا الأخيرة في تاريخ سلطنة قامت على القتل وسفك الدماء والنهب والسلب، فتاريخ السلطنة الحافل بالمجازر والإعدامات والنفي والقتل يشهد لها، وأفلح من قال عنها إنها سلطنة الجماجم وجمهورية الدم.
فمنذ أن استقرت السلطنة لبعض الوقت، وبعد فرض قوتها وبسطت نفوذها في مناطق كثيرة من الشرق، بدأت الانتفاضات والتمرد والعصيان في وجهها، إذ أنها فَرضت سلطة الأمر الواقع وحكمت بالحديد والنار تحت مسمى الخلافة الإسلامية والسلطنة والدولة العدية، وأنكرت وحاولت إبادة العديد من المكونات والشعوب التي خضعت لها كالكرد والشركس واليونانيين والسريان والأرمن، وبين عامي 1574 ـ 1919م. كانت هناك عشرات الانتفاضات والعصيانات التي قام بها الكرد، وكانت تنتهي بالكثير من سفك الدماء ولا تخمد نيرانها إلا بسيول الدم التي كانت الطغمة العثمانية الطورانية تهدرها، وقس على ذلك بقية الشعوب التي عانت الأمرين من حكم استبدادي وسياسة قمعية دكتاتورية.
وبالعودة إلى المجازر التي ارتُكبت بحق الأرمن والسريان والتي سميت بـ «مجازر السيفو، بالأرمنية: والتركية: Ermeni Soykırımı)، أو كما عرفها البعض بـ «المحرقة الأرمنية» فقد لعبت الظروف الدولية والموضوعية وقتذاك دوراً بارزا فيها، وما زالت تعرف بأنها من أبشع الجرائم بحق البشرية، ومن أكثر الصفحات دموية في تاريخ تركيا وأشدها سواداً.
الظروف التاريخية
بعد التوسع الكبير للسلطنة العثمانية وتوغلها في شرق آسيا وامتدادها في آسيا الصغرى، وضمها للعشرات من الدول والأقاليم تحت سلطتها؛ كان المسيحيون الأرمن من إحدى اكبر الجماعات العرقية فيها, وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، شكَّل بعض الأرمن منظمات سياسية في مسعى منها إلى الحكم الذاتي؛ مما أثار شكوك الدولة العثمانية حول مدى ولاء الطائفة الأرمينية داخل حدودها.
في أولى التحركات الثورية من قبل الأرمن 17 تشرين الأول عام 1895، استولى الثوار على البنك الوطني في القسطنطينية، مهددين بتفجيره وقتل أكثر من 100 رهينة ما لم تمنح السلطات للأرمن حكماً ذاتياً إقليمياً. وعلى الرغم من التدخل الفرنسي لإنهاء الحادثة بطريقة سلمية، ارتكب العثمانيون سلسلة من المذابح، ومن ثم تعددت المواجهات ليصل اجمالي من قتلى من الأرمن بين عامي 1894-1896 إلى ما يقارب الثمانين ألفاً، وكان التحول الكبير في جمعية الاتحاد والترقي التي ظهرت عام 1906 واستولت عام 1908 على القسطنطينية، ثم وضعت يدها على مقاليد الحكم وأظهرت بعض التقبل للأرمن بداية، إلا أنها أظهرت وجهها الحقيقي في أحداث 1909م، حيث قتلت من جديد ما يناهز عشرين ألف أرمني إثر مطالبتهم بالحكم الذاتي في ربيع العام المذكور.
سعت جمعية الاتحاد والترقي وبين عامي 1909 و1913م إلى ترسيخ دعائم دولة تركية عثمانية غير متعددة الأعراق، في وقت كانت فيه السلطنة في أضعف حالاتها وتفككها، واصطدمت آمالها بالعائق الأرمني؛ فكان لا بد من التشدد والاستيلاء على زمام الحكم في انقلابات كانون الثاني 1913م ومن ثم كانت بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م والتي كانت غطاءً وستاراً مكنت للطغاة في عملياتهم الدموية والإبادة الجماعية.
تصفية عرقية وحرب عالمية
ما إن بدأت المعارك الأولى في الحرب العالمية الأولى حتى بادرت الدولة التركية إلى الزج بالشعوب التي كانت تسيطر على أراضها في أتونها، ولم تنس ولو للحظة إن هناك شعوباً وأعراقا ضاقت ذرعاً بها، وفي مقدمتها الأرمن والسريان واليونانيين البنطيين وهكذا شاركت في الحرب إلى جانب دول المحور «ألمانيا والنمسا» ضد قوى الوفاق «بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا»، وبدأت في أوائل نيسان من عام 1915 بالاستعدادات لتصفية الأرمن الذين اتهمتهم بالتواصل مع روسيا وغيرها من الأعداء، وفي الرابع والعشرين من نيسان اعتقلت أول دفعة من الضباط والقادة العسكريين الأرمن ونفتهم ومن ثم بدأت بالتصفيات والمجازر والمذابح المباشرة، وتنفيذًا لأوامر الحكومة المركزية في القسطنطينية، قام ضباط الإقليم بعمليات إطلاق نار واسعة وترحيل بمساعدة مدنيين محليين، وقتلت الأجهزة العسكرية والأمنية العثمانية وساعدوهم غالبية الرجال الأرمن في سن القتال، إلى جانب آلاف النساء والأطفال.
ثم صدرت الفرمانات الشاملة الواحدة تلو الأخرى التي اعتبرت دم الأرمن مهدوراً وأموالهم مصادرة، ونساءهم وأراضيهم مباحة للترك، وإطلاق يد الجيش التركي في عمليات القتل والسلب والنهب، وتجميع الأرمن والسريان في أماكن وتجمعات عامة وسوقهم إلى أماكن مجهولة وجبهات القتال وبراري الموت، ولقي مئات الآلاف حتفهم في قوافل الموت التي كانت تسير إلى وجهات مجهولة، بينما انكب مئات الآلاف على وجوههم في مقاصد شتى هرباً من الموت بالرصاص أو السيف أو الاغتصاب أو بقر البطون، أو تجريدهم حتى من الثياب التي كان يرتدونها، وتفنن الجيش التركي والفرق الحميدية في سبل وطرق القتل والتعذيب والسلب والنهب وأبدعوا في طرق القتل والسلب والنهب وفي مبارزات الاغتصاب وبقر البطون والرهان على جنس الأجنة في بطون الحوامل.
خلال المسيرات القسرية عبر الصحراء، تعرضت قوافل كبار السن والنساء والأطفال الناجين إلى هجمات وحشية من الضباط والجنود، وبعض العصابات التي استفادت من فلتان الأوضاع الأمنية، واشتمل هذا العنف على عمليات السرقة وتجريد الضحايا من ملابسهم وتفتيشهم داخلياً بحثًاً عن الأشياء الثمينة، واغتصاب السيدات الشابات والفتيات واختطافهن والابتزاز والتعذيب والقتل، وقد لقى عدد كبير حتفه بسبب التجويع والجفاف والتعرض للمخاطر أو الأمراض وهم في طريقهم إلى المجهول وفي الوقت الذي حاولت العديد من العوائل والعشائر نجدة بعض الفارين وخبأتهم عن الأنظار إلا إنهم كانوا يخشون بطش العثمانيين بهم لإيوائهم المطلوبين.
السيفو بين الإنكار التركي والادانة الدولية
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كانت المئات من الانتهاكات قد ارتكبت بحق العديد من الشعوب وكانت عشرات، بل ومئات المجازر قد حدثت، وبرز مصطلح الإبادة الجماعية قبيل انتهاء الحرب، وعرف بين الأمم والشعوب كمصطلح جديد، وكانت مجازر الأرمن أصدق تعبير عنها، وأجمع العديد من الباحثين إن حكومة جمعية الاتحاد والترقي استخدمت على نحوٍ منهجي الوضع العسكري الطارئ، لتفعيل سياسة سكانية على المدى الطويل، تهدف إلى تعزيز العناصر التركية المسلمة في الأناضول على حساب السكان المسيحيين (الأرمن كمكون رئيسي وكذلك الآشوريين المسيحيين). وكشفت آلاف الوثائق التي عُثر عليها وتم جمعها والعمل على توثيقها ومن قبل جهات مختلفة منها الأرمنية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية والنمساوية بالدليل القاطع أن قيادة جمعية الاتحاد والترقي استهدفت عمداً السكان الأرمن في الأناضول، وإن ما قامت به وانتهجته إنما يوصف كإبادة جماعية.
فقد أصدرت جمعية الاتحاد والترقي تعليمات من القسطنطينية وتأكدت من تنفيذ تلك التعليمات من خلال عملاء في منظماتها الخاصة وإداراتها المحلية، وطلبت أيضاً الحكومة المركزية الرصد الدقيق وتجميع معلومات عن عدد الأرمن المرحلين، وعدد المساكن التي تركوها ونوعها وعدد المرحلين الذين وصلوا إلى المخيمات.
وأتت المبادرة والتنسيق من أعلى المستويات في دائرة حكم جمعية الاتحاد والترقي، وفي مركز العملية كان هناك: «طلعت باشا (وزير الداخلية)، واسماعيل أنور باشا (وزير الحرب)، وبهاء الدين صقر (المدير الميداني للمنظمة الخاصة)، ومحمد ناظم (زعيم التخطيط الديموغرافي).
شملت عمليات الترحيل والتملك أغلب المناطق التركية، فيما استثنت منها مدينتي استانبول وازمير الرئيسيتين حتى لا تلفت انتباه الرأي العام، لأهمية المدينتين ووجود رأي وتواصل دبلوماسي فيهما، كذلك للاستفادة من الأموال الأرمنية التي بحوزة رجال الأعمال والتجار الأرمن، وفي مناطق أخرى كانت أحياناً تقوم بتوزيع أموال وممتلكات الأرمن والسريان علانية على جيرانهم من المسلمين فتزيد من سكب الزيت على النار، وتشعل المزيد من الفتن بين أبناء المجتمع الواحد.
حاولت دولة الاحتلال التركي وعلى مدى مئة وثلاث سنوات التنصل من الجريم البشعة بحق الإنسانية جمعاء، وادعت تارة إن الأرمن تعرضوا للأمراض السارية، وتارة أخرى إنهم تعرضوا لتلك المذابح من قبل الكرد وغيرهم، وحيناً آخر عزت وفاة الكثير منهم لأسباب الفقر المدقع وإن من قتل على يدها لا يتجاوز عشرات الألاف، وإن ذلك كانت أخطاء تاريخية، في حروب عالمية شملت أغلب بلاد العالم، غير أن الثابت عدة حقائق لا تقبل للشك وهي أن المجازر حدثت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني المعروف بدمويته وادعى أن روسيا أثارت الفتن، كما زعمت الدولة العثمانية أن هذه الجماعات حاولت اغتيال السلطان عام 1905م، وتم تهجير أكثر من نصف مليون أرمني من المناطق الحدودية بين السلطنة وروسيا، إضافة إلى مسيحيي مناطق شرق الأناضول وفي ظروف وشروط غير إنسانية، وإعدام الشخصيات المعروفة والبارزة من مثقفين وسياسيين مباشرة وعلناً، وادعاء تركيا أن أغلب الأرمن قتلوا خلال معارك لا وجود لها، بلغ عدد ضحايا المجازر ما يقارب المليونين من الأرمن والسريان والكلدان والآشوريين واليونانيين البنطيين.
تنفي حفيدة العثمانيين جمهورية تركيا وقوع المجازر التي تؤكدها الأمم المتحدة؛ وهناك عشرات الدول اعترفت رسميًا بمذابح الأرمن وبأنها إبادة جماعية، ويقبل معظم علماء الإبادة الجماعية والمؤرخين بهذا الرأي، وكذلك أغلبية المؤسسات الأكاديمية التي تصف ما قامت به الدولة العثمانية بحق الأرمن بأنه إبادة جماعية، ومنها الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية التي اعتبرت المذابح التي ارتكبت بين عامي «1914-1923» بحق الأرمن والآشوريين واليونان البنطيين إبادة جماعية.
ويروي أحد المراسلين الأمريكيين الذين وفدوا إلى مدينة الرها حينها: «خلال ستة أسابيع شاهدنا أبشع الفظائع تقترف بحق الآلاف الذين جاؤوا من المدن الشمالية ليعبروا من مدينتنا ـ وجميعهم يروون الرواية نفسها: قتل جميع رجالهم في اليوم الأول من المسيرة، بعدها تم الاعتداء على النسوة والفتيات بالضرب والسرقة وخطف بعضهن واغتصابهن من قبل حراسهم… كانوا من أسوأ العناصر كما سمحوا لأي من كان من القرى التي عبروها باختطاف النسوة والاعتداء عليهن. لم تكن هذه مجرد روايات، بل شاهدنا بأم أعيننا هذا الشيء يحدث علناً في الشوارع».
عُقدت محاكم عسكرية تركية بين عامي 1919-1920م، وحكمت على 122 من القادة الذين كان لهم دور أساسي في الإبادات، وبعد عام أفرج عن الكثير منهم وتم تأمين الهروب للبعض الآخر، فيما بقي الإنكار سياسة جميع الحكومات التي أعقبت ذلك التاريخ، وناصبت العداء وأدانت موقف كل الدول والمنظمات والمؤسسات الإنسانية التي وصفت المجازر على إنها جرائم حرب ترتقي للإبادة الجماعية.
التاريخ الدموي والسيرة الذاتية العثمانية تَحفل بمئات المشاهد والوقائع الدامغة، أمجاد بنيت على القتل، وتاريخ كتب بدماء شعوب احتلتها واستباحت دمها، وسَلطنة شُيدت على الجماجم، وفي تاريخها الحديث ما زالت جمرات أكثر من أربعة آلاف قرية كردية أحرقتها تركيا متقدة، وما زالت جذوة الانتفاضات التي قمعت بالحديد والنار تستعر، وأخيراً وليس آخراً ما ارتكبته دولة الاحتلال التركي في عفرين، في عدوان صارخ وتحد للعالم أجمع وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي، إنها سيفو أخرى بحق شعوب عفرين، حيث تحتل الأرض وتنهب وتسلب الممتلكات وتنتهك الأعراض وتتغير الديمغرافية، إنهم أحفاد عبد الحميد وأتاتورك ومعهم مرتزقتهم الجدد، لكن إرادة الحرية التي هزمت السيفو وجلاديه ستهزم أردوغان ومرتزقته ومنافقيه.