1 قراءة دقيقة
«عصا الداية العجوز» من الأدب الفولكلوري الكردي

الأدب الفولكلوريّ الكرديّ

صارت العجوز في قريتها داية.. لأنّ الله وهب جميع أهل القرية الأولاد والبنات على يديها ..نعم صارت داية لقرية بكاملها، لهذا فإنهم صغارا وكبارا صاروا يدعونها " الداية العجوز" وبهذا الاسم صارت معروفة في القرى المجاورة أيضا.
يدا الداية العجوز لا تحملان الخير والبركة في الولادات فحسب.. لكنهما أيضًا تحملان الخير في تربية الدجاج والديك الرومي.. فلم يكن أطفال القرية وحدهم يتملقون الداية العجوز لنيل ما يرغبون فيه من سكاكر وقضامة وفستق سرحدا بل رجال القرية ونساؤها أيضًا لا يقطعون عنها الزيارات، لإدخال البهجة إلى قلبها وتلبية بعض طلباتها وملء بطونهم من الباستيق والباستيق المحشو بالجوز والزبيب المجلوب من طور الأعلى.
وفوق ذلك فما إن تخرج من بيتها حتى يحيط بها سرب من الدجاج" تقوقئ" طالبة طعاما.. ساعية لئلا تحرم من قطعة خبز مبلولة وحبيبات من الجريش المسلوق أو بعض البرغل الفائض..
الكلّ يحصل على مرامه بطريقة ما من الداية العجوز، لكنهم يخشونها كلهم.. الأطفال يخافون على حلوياتهم أن تضيع.. والدجاج والديك الرومي على علفها.. أما النساء والرجال فإنهم يخشون من افتضاحها لعيوب بيوتهم.. أما الشباب والبنات فللقاءاتهم..
باختصار الجميع يحسب لها ألف حساب، فلا شيء يخفى في القرية على الداية العجوز.
أحبّ فصول السنة إلى قلب الداية العجوز هو الربيع.. حيث يخفّ البرد أو يزول.. فشمس الربيع يطري عظامها.. وعلى سفح الجبل تربي صيصانها.. أما قلبها فهو أيضًا يتبرعم كأعشاب الربيع .
حلقة الداية العجوز في الربيع تعقد على سفح الربوة من فتيات القرية ونسائها.. فهي هنا تسمع الأخبار ..فثمّة نساء لا يقدرن على كتم سر.. وبعضهنّ سليطات اللسان لا يتركن شيئا تحت البساط.. وهكذا عندما تتمادى إحداهن تقول لها: يجب أن تبقى العصا مسلّطة فوق رؤوسكنّ.. رغم ذلك تبقى الداية العجوز صرة أخبار مغلقة وصندوق أنباء مقفلة ..تسمع ولا تفشي سرًّا.. وبذلك تبقى ماسكة بزمام أمور القرية.
في الربيع ترسل الشمس أشعّتها إلى الأعشاب في قمة الجبل التي تومئ إلى الشمس وتشعّ.
لقد كان يومًا معلومًا ..كانت الداية العجوز جالسة القرفصاء وحولها أسراب الصيصان "توصوص "..كانت بيسراها تبعد صحن صفار البيض المسلوق عن الصيصان.. وبيمناها تجمع الحصى، وتنظف بقعة أرض كي تقعد عليها ..وما إن تأخذ مكانها حتى تبدأ بفرط صفار البيض للصيصان الصغيرة العزيزة على قلبها، وتلقي به أمامها.
الدجاجة الأمّ فقست خمس عشرة بيضة بالكامل.. ولم تفسد بيضة واحدة قط ..لهذا كانت الداية العجوز تمتدح ديكها، وترى أنّ الجهد الذي بذلته في تربيته لم يذهب سدى.
مرّ الخريف والشتاء على" كرتيلو" وهو الاسم الذي أطلقته على ديك الحبش الذي جمع في جسمه الكثير من الدهون، وهو يستقبل الربيع.. لذلك فإنّ لحم الرقبة كان يتدلّى ..أما عرفه الأحمر فيبدو كزهرة الجلنار ..
يتبختر" كرتيلو" ..ويفتح ريش ذيله كمظلة حتى يلامس الريش الأرض.. باختصار: إنه لا يرى له ندًّا ولا منافسًا.. وتعرف الداية العجوز بخبرتها أنّ دهون الخريف والشتاء تذوب بتأثير حرارة الربيع ..لذلك فإنها تختار صوصًا، وتجد طريقا ما لتصريف الديك القديم.. لكن ديك الدجاج ضروريّ دائما، ولا يجوز أن تبقى الدجاجات بدون ديك.. ولم تكن الداية تقدّم العلف للدجاج والديك الرومي معًا ..بل كلّ بمفرده.. وكانت تخص" كرتيلو" بنصيب وافر منه.. ولم يكن يعطي المجال للأمّهات أن ينلن شيئا من العلف.. لكن ديك الدجاج كان يدعو الدجاج في البداية، وكان يخمش الأرض بأظافره، ويعطي لقمته للدجاج.
لم يكن الديكان على وفاق ووئام.. بل كانا ينقران بعضهما دائما.. لهذا لم تكن الداية تقدّم لهما العلف معًا، وكانا يخشيان الداية العجوز، ويقيان نفسيهما من عصاها.
ديك الدجاج كان يصيح بخيلاء بين الدجاج، ويرعى في سفح الجبل ..أما" كرتيلو" فقد كان ينفش ريشه، ويصيح هو الآخر بخيلاء وبزهو، ويتوجّه إلى ديك الدجاج الذي لم يرق له هذا التكبر.. وكان "كرتيلو" وهو يزهو يتقدّم نحو ديك الدجاج شيئًا فشيئًا لينقضّ عليه.. وكان خصمه يتراجع خطوة خطوة.. وعندما ضاقت به السبل، ولم يعد ثمّة مجال للهرب نفش ريشه، وأفرد جناحيه، ونبش التراب أمامه، واستعدّ لعراك طويل وعنيف.. لكنّه لم يبدأ.. وكان "كرتيلو" في هذه الأثناء يتوجّه إليه كتنين، ويسدّ عليه منافذ الهرب.. فلم يجد ديك الدجاج بدا من الهجوم.. ووجّه مخالبه إلى "كرتيلو" وبدأ العراك.. وحمي الوطيس، واشتدّ.. وبدأ الريش يتطاير من كليهما، والدماء تسيل على وجهيهما من أثر ضربات المناقير... وبدأ الدجاج بالصياح والصراخ.. أما أمّهات الحبش فقد شكّلن حلقة حول ساحة الصراع، وبدأن بالصياح أيضا..
كانت ضربات منقار" كرتيلو" قوية وحادة.. إلا إنه تحت ثقل وزنه والدهون المتراكمة في جسمه ما لبث أن تعب، وصارت حركته بطيئة شيئًا فشيئًا ..
أما ديك الدجاج فما زال محتفظا بقواه.. ويشنّ الهجوم على" كرتيلو" ..
في إحدى هجماته مسك بعنقه، وخمش صدره بأظافره، وسرعان ما مال" كرتيلو" برأسه تحت ضربات خصمه، وانهار كجدار فوق جسد خصمه.
في هذا الجوّ بدأ صياح الدجاج وأمّهات الحبش يعلو ويعلو.. وبدأت حلقتها حول جرحى المناقير تصغر وتصغر ..وتجمّعت حول الجثتين الهامدتين اللتين بدأت تتلى عليهما مراسم الحداد والحزن ..
ديك الدجاج لم يكن قادرًا على النهوض من تحت جسد "كرتيلو" كما إنّ" كرتيلو" لم يعد هو الآخر قادرًا على النهوض بسبب ضربات خصمه العنيد في عرفه ولحم رقبته.
كلاهما بقيا بلا حول ولا قوّة... بانتظار عصا الداية العجوز.
" الكاتب" عبد الرزاق أوسي" : مهندس جيولوجي كتب القصة القصيرة بالكردية.. واهتمّ بالقصص الفولكلورية الكردية.
توفي 2010 

تم عمل هذا الموقع بواسطة