قصة قصيرة حلم بين مدينتين
يابو يابو! هكذا ينادي الكردي والده … صغيرا كان أم كبيرا…….. يابو هل سأموت أيضا؟! قالها جوان ذو الثماني سنوات؛ وهو يدسّ جسده المرتعش خوفا تحت بطانية صفراء اللون مكتوب عليها”غير مخصص للبيع”؛ بدلا من الزخارف والورود التي كانت تزيّن لحافه في منزلهم…. في خارج الخيمة كانت أصوات النازحين تعلو بشجن؛ إلا أن الوالد لم يعر بالاً إلا لسؤال صغيره، فحضنه؛ وهو يلثم جبينه، قال بصوت مخنوق: لا يا ولدي.. لن(……..)، و لم يلفظها، بل قال: ستظلّ تكبر أمام عيني، وأفرح بك شابا موسيقارا عظيما…. ثم قبّله، وعيناه تطفحان بالدموع…. ألم توعدني أنت بذلك؟ يوم أهديتك طنبورا ونايا في عيد ميلادك العام الفائت؟!
ارتسمت البسمة على وجه جوان، فقال: نعم, ثم ما لبث أن تجهم من جديد، وهو يقول: ولكن الطنبور والناي بقيا في البيت.
سنعود يوماً يا ولدي… ردد الوالد، وهو يرفع باب الخيمة المواجه للغرب في ذلك العصر؛ فاسحاً الدرب لضوء النهار للتوغل إلى آخر الخيمة، حيث ترقد والدته العجوز الضريرة؛ ذات الوشوم الخضراء على حنكها وخديها الواهنين…. لم يكن الوالد يرتدي ثيابا تقيه من البرد، فظل متدثرا ببطانية خفيفة، وهو واقف أمام الخيمة، لا يفارقه السعال منذ بضعة أيام، بعد أن فروا فقط بما يرتدونه من لباس في ذلك المساء الذي شوّهت فيه الطائرات التركية سماء مدينتهم (Serȇ kaniyê*رأس العين)؛ بقذائف لا تفرق بين مدرسة أو منزل أو مخفر، فالكل سواء أمام عدوانهم…… لم ينقض الشتاء إلا والوالد تسوء حالته أكثر، وجوان الصغير يشارك والدته السهر بالقرب من رأسه، يحتفظ بصور الوجع والحرمان في قلبه، فيغدوا رجلا يتحمل المسؤولية، ويركض من هنا وهناك، يبحث عن المنظمات الإنسانية التي تأتي نهارا تلتقط صور البؤس، ثم تختفي ليلا، حينما البؤس يصرخ ويصيح….. تعثر جوان، وغطته الأوحال، وصرخ بأعلى صوته باكيا: (يابو).
كان حينها والده قد لفظ أنفاسه الأخيرة، والجدة الضريرة تمسك بين كفي يديها المعروقتين رأسه الأشمط الناصية بالعرق البارد مع الموت…. ولج جوان الخيمة، ورهط من الجوار كذلك تتبعهنّ نسوة حاسرات الرأس؛ إثر الزعيق الذي أطلقته تلك التي غدت أرملة ثلاثينية، تشق وجها بأظافر خطت لها من يومها درب الألم الطويل في حياة فقدت فيها لذة البقاء… دُفن الأب بالقرب من المخيم الذي أطلق عليه “واشوكاني – Waşûkanȋ**” ليكون قبره حجر أساس لمدينة جديدة؛ تتحوّل حبال خيامها إلى أشجار تغور بجذورها في التاريخ عنوة.
نادت الجدة على جوان، أخذت يده النحيفة، ووضعت على معصمه ساعة والده، ثم تحسست وجه الصغير، ترى فيه والده المتوفى, انسلت دمعة مضيئة من عتمة عينيها، فلهجت بكلمات استعصت على الصغير فهمها، فابتعد؛ وهو يرفع يده؛ كيلا يسقط الوقت، كما كان يحلو له تسمية الساعة…. الساعة بقيت في يده، والوقت لم يسقط، بل انقضى سنة تلو أخرى, المقبرة توسعت، وفيها أخفت الجدة بموتها تلك الوشوم الخضراء، والوالدة على خدها الأيسر ظلت تحمل ندبة عميقة لجرح قلبها، وفي عينيها تحصد ذكريات لها من حقل شبابها؛ لتتفاجأ بكونها قد غدت جدة، ترعى آزاد الصغير الذي حمل اسم جده، وليكون دلالة اسمه الحرّ جالباً لحرية وطنه، وفألاً لمستقبل مشرق…. هكذا كان يسرّ جوان في قلبه؛ وهو يتناول قماط الصغير، ويعلن اسمه…….. بينما هو جوان الذي كان عليه بعد وفاة والده أن يصبح رجلا، ويقوم بأعباء المنزل الذي كان يومها خيمة تضمه مع والدته وجدته الضريرة، فقد رافق بداية والدته، يعاونها على بيع علب للمحارم، وقطع من البسكويت المغلّف، وهو يتجول بين الخيم، أو يبيعها إلى الزوار من موظفي المنظمات الذين يتناولون منه على عجل، وهم ساهون عن سنه الصغيرة…..
كان جوان يكبر، ومعه تتوسع المدينة، وكذلك مقبرتها، وبعض شجيرات خضراء صغيرة تستقر بجذورها، لتثبت في الأرض ولادة مدينة جديدة….. وبغفلة من زمن سريع الخطو، منعتق من ثقل الفراغ وسيرته, كانت المدينة تخلع عليها رداء من الاسمنت والصفيح، وتنبجس هنا وهناك، كل ما من شأنه منحها صفات الانتماء لمحيطها، فمكتب صغير كان كومينا، وآخر مستوصفا، وأرض فصلت ما بين المدينة والمقبرة، أُشرت عليها ليقام فيه مسجدا. ناهيك عن مركزين توزعا على طرفي المدينة، ليكونا مدرستين لأطفال غدوا يرددون اسم مدينة آبائهم Serȇ kaniyê؛ في أشعار مناهجهم ووظائفهم المدرسية.
ومع الوقت أخذ جوان يوسع من عمله وأنشطته، وانخرط في عدة أعمال تدر عليه الأرباح، وغدا له شأن في تلك المدينة الناهضة، وما عادت رؤية العزف على الناي تحت شجرة الجوز في منزلهم برأس العين تراود نومه، كما السنين الأولى التي تلت فرارهم من عدوان الترك، والفصائل المرتزقة، قبل عقدين من الزمن وأكثر. حتى أنه بدّل ساعة والده بأخرى، ليسقط معها الوقت، ويلتهب الزمن، ويتشوّه مع كل ما يحيط به، ولتغدو حياته خاوية إلا من الأرقام والحسابات، حتى أنه في غمرة ذلك الضياع المرسوم أهدى صغيره آزاد في عيد ميلاده بندقية الكترونية؛ ناسيا بأنه يوما ما تلقّى في عيد ميلاده طنبورا ونايا، وفرحة لا توصف….
عامودا – سوريا / تشرين الثاني 2019
عامر فرسو
-Serê kaniyȇ* اسم مدينة كردية عُربت إلى رأس العين تقع في شمال شرق سوريا – المدينة تعرضت للعدوان التركي في شهر تشرين الأول 2019
**- Waşûkanîكانت فيما مضى عاصمة الإمبراطورية الميتانية التي أسسها الحوريون في حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد و التي يُعتقد بأنها تل الفخيرية الواقعة حاليا بالقرب من مدينة رأس العين في شمال شرق سور