انتفاضة اللبن ١.
كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة، انه وقت وصول الغداء.
حدث ذلك في فصل الربيع و اذا أسعفتني الذاكرة كان في يوم ١٩٨٩/٤/٢٤ . نحن في مضافة المقبور حافظ الاسد سجن صيدنايا الطابق الثالث الجناح / أ /يسار .
كنت جالسا أمام المهجع الأول كوني كنت من قاطنيه استمتع بالهواء العليل الداخل إلينا من الشبابيك المقابلة للمهاجع بارتفاع ما يقارب المترين عن ارضية الجناح و بعرض ٤٠ سم و طول ١ م ، الممتدة على طول الجناح البالغ طوله ٦٥ م و كريدور بعرض ٤ م ، و اكثر من ١٩٠ من الرفاق مجموع سكان عشرة مهاجع على امتداد طول الجناح الذي يحتوي في نهايته على كريدور بعرض ٦ م، يربط الجناح / أ /يسار مع الجناح / أ /يمين الذي كان سكانه من حزب البعث القيادة القومية (بعث العراق) المنقولين من سجن تدمر الرهيب الى سجن صيدنايا الحديث البناء، و كانوا جميعاً أشباه رجال اجسامهم هزيلة من شدة الضعف و المرض وجوههم شاحبة جلودهم صفراء عظامهم بارزة كانوا يرتعدون خوفاً لمجرد سماع صوت اقدام شرطي يقترب من باب الجناح .
وصل الغداء يحملنه عساكر (السخرة) انهم عساكر يقضون محكومياتهم لارتكابهم جنح و جرائم اثناء خدمتهم في جيش الدكتاتور حافظ الاسد، و هؤلاء ممنوع عليهم التحدث الى السجناء او حتى النظر الى وجوههم.
فتح الرقيب ثابت السيء الطباع برفقة شرطي باب الجناح، ادخل الغداء من قبل مهجع الخدمة، و للاسف لا اتذكر اي مهجع كان يقوم بأعمال الخدمة ذلك اليوم، و على ذكر الخدمة كل يوم كان يقوم مهجع بأعمال الخدمة، شطف الجناح و توزيع الفطور و الغداء و العشاء و فاتورة الخضرا و الندوة على المهاجع بأشراف لجنة من ثلاث أشخاص منتخبين و رئيس الجناح المنتخب أيضاً و الفائزين ب ٥٠+١ من مجموع الأصوات .
كان الغداء في ذلك اليوم التاريخي بلو مفلطح من /الرز /مخلوط بكمشة (حمص) و بلو طويل الرقبة من /اللبن/ .
و هنا تجدر بي الإشارة الى سرقات إدارة السجن بقيادة رئيس الإدارة العقيد بركات العش السيء الصيت و السمعة قيامهم منذ ثلاثة اشهر الى يوم ١٩٨٩/٤/٢٤ بسرقة مخصصاتنا من الخبز . كانت حصة كل سجين ثلاث خبزات كبيرة من النوعية الجيدة، تم سرقة رغيف لتصبح رغيفين حجم صغير من النوعية الرديئة، و كانت الإدارة و بكل وضاعة تسرق من مخصصات مادة الفطور و الغداء و العشاء و الشاي و الصابون أيضاً .
كان السجن، الاعدام بلا محاكمات، القتل والتجويع الممنهج و حرمان الاهل من رؤية ابناءهم، جرائم ارتكبها حافظ الاسد و نظامه الأمني بحق عشرات الآلاف من ابناء الشعب السوري بكل مكوناته و لا زال حافظ الاسد حياً يعيش في قلب و عقل وريثه سفاح سورية بشار حافظ الاسد .
بدأت جلبة وصول القصعات، من كل مهجع قصعتين و قبل البدء بتوزيع الغداء نادى شباب الخدمة رئيس الجناح و كان حينها الرفيق علي رحمون اطلعوه على شكل اللبن . تبين انه قريب الى الشنينة ( لبن عيران) منه الى اللبن كان قد تم اضافة الماء له و هذا ما لم يحصل قبل ذلك . بعد المشاورات تم رفض استلام الغداء و في الحقيقة كان رفض استلام الغداء احتجاجاً على تخفيض مخصصاتنا و سرقتها، و كان سوء نوعية اللبن الشرارة التي أشعلت فتيل انتفاضتنا . يتبع
ملاحظة: جميع ارقام القياسات تقديرية .
انتفاضة اللبن ٢.
وصل خبر رفضنا لادخال وجبة الغداء و امتناعنا عن تناول طعامنا الى الإدارة لتبدأ المفاوضات، باءت محاولات الرقيب المجند ثابت و العريف المتطوع النزق و المتنمر زياد الذي كان قد تلقى تواً خبر ترقيته الى رتبة رقيب لإقناعنا بالعدول عن قرارنا بالفشل، و كذلك مساعي المساعد علي الذي أرسل الرقيب ثابت و معه بعض من عساكر السخرة و طلبوا من الصديق علي رحمون النزول معهم الى الطابق الأرضي و معهم الرز و اللبن كي يتأكد من وزن اللبن المخصص لكل فرد، و حدث ان طلب الرقيب ثابت الحاقد من الصديق علي رحمون ان يدير وجهه الى الحائط كنوع من الإهانة رفض علي ان يقف و وجهه الى الحائط، و اُعتبر هذا رفض لاوامر ضابط امن السجن مما استوجب منهم معاقبته و ضربه و اهانته . عاد الصديق علي رحمون و وجهه مكفهر و عيناه مثل فنجانين مملوءين بالدم و هذا يعني انه قد عوقب و تمت إهانته .
بعده بقليل وصل المساعد علي و الحق يقال كان تعامله افضل من باقي اقرانه من المساعدين و منهم المساعد محمد و المساعد نزيه الشرس و الحاقد جداً على كل معارض لبيت الاسد و المسؤول عن موت العشرات من سجناء سجن تدمر العسكري و كان من بين المشرفين على مجزرة تدمر في العام 1980 الذي راح ضحيتها ما يقارب ال٨٠٠ سجين خلال اقل من نصف ساعة بحسب سجناء كانوا في مهاجع أخرى لم تكن ضمن مخطط القتل .
حاول المساعد الذي كان على غير عادته في ذلك اليوم مرة أخرى ثنينا عن قرار رفضنا إلا ان المسألة تعدت قبول او رفض وجبة الطعام فما لحق بالصديق علي ابو زياد ذاد الأمر تعقيداً و ذاد من اصرارنا على الرفض و التمسك بقرارنا .
امر المساعد علي ان ندخل الى مهاجعنا و اغلق علينا الابواب و اعتبرنا مضربين عن الطعام . بعد ان انتهى من إغلاق أبواب المهاجع العشرة طلب من ابو زياد ان يخرج و معه فرشته و هذا معناه السجن الانفرادي (الزنزانة) نزل ابو زياد الى الأسفل و لم يمضي الكثير من الوقت حتى سمعنا جلبة وصل اكثر من عشرين من العساكر و معهم المساعد الأحمق علي فتح باب الجناح و من خلال شراقة المهجع الأول و هي عبارة عن مربع صغير في الباب يفتح من الخارج طلب الشرطي ان نقف تنين تنين مثل طلاب المدرسة ثم فتح الباب .
كان من بين العساكر شاب كردي من قامشلو عبدالغفور من حي الهلالية، كان خائفاً جداً من العقوبة التي ستحل بنا و قد عبر لي بعد لقاءنا في قامشلو عن الرعب الذي عاشه ذلك اليوم خوفاً علينا .
وقف المساعد علي أمامنا و بكل هدوء قال : من يريد منكم تناول وجبة الغداء عليه الوقوف في الزاوية لم يتحرك احد من مكانه و كل ما حصل ان الصديق مناف حمزة ناوله مسبة باللغة الكردية رسمت ابتسامة خفيفة على شفاه كل من يفهم اللغة الكردية و منهم العسكري عبدالغفور .
دار المساعد علي على كل المهاجع و لم يلقى آذان صاغية و لا من يستجيب لطلبه بقبول تناول اللبن و الرز، ليعود الى المهجع الأول فتح الباب و طلب ان يخرج اثنان من المهجع خرج الصديقين عبدالرحمن سليمان و مراد عباس و خلال لحظات وصلت الى مسامعنا أصوات سياط الجلادين تقع على اقدام عبد و مراد، بعد ما يقارب ثلاثين جلده توقف الجلد، ادخلوهم الى الجناح و اجلسوهم أمام المهجع الخامس. عادوا لفتح باب المهجع ثانيةً . قفز الجميع نحو الباب كان الصديقين سمير كيال الذي غابت أخباره بعد خروجه من السجن و ابراهيم زورو الأسرع في الوصول الى الباب المفتوح بشكل موارب مسنوداً بعشرة عساكر خوفاً و تحسباً لخروجنا جميعًا دفعة واحدة و يحصل ما لا تحمد عقباه. خرجا الاثنين لملاقاة الجلادين و ما هي إلا لحظات حتى ارتفعت أصوات السياط تسقط على قدم رفاقنا. كان سمير كيال يعاني من نقص في مادة الكلس مما كان يسبب له الم في العظام و كان يطحن قشر البيض و يبلعه مع الماء كعلاج . كان العريف زياد الحاقد و النزق من بين من يجلد رفاقنا، قام هذا الحقير بضرب سمير بالكبل على رأسه فصرخ من شدة الألم، كانت صرخت سمير كالنابض الذي دفع ب ٣٨٠ يد و ٣٨٠ قدم ل ١٩٠ شاب بالطرق على الأبواب و تخيل عشرة يطرقون الباب بجبروت ليتراجعوا مفسحين المجال لعشرة من رفاقهم لإعادة الطرق موزعة على ١٠ مهاجع و هذا ما لم يكن يتوقعه المساعد علي .
توقف الجلادون فوراً و عادوا بالصديقين سمير و ابراهيم الى الجناح الى جانب عبد و مراد .
اصيب المساعد علي و فريقه بالإرباك و راح يصرخ بأعلى صوته طالبًا منا بصيغة الأمر ان نتوقف عن طرق الأبواب إلا اننا زدنا من طرقنا مما جعله يفقد أعصابه و بدأ يصرخ قائلا: يا مهجع اول يا مهجع اول يا مهجع اول منشان الله قولوا لرفقاتكن خلي يوقفوا كان الجواب لن نتوقف حتى تعيدوا لنا رفاقنا، و بسرعة ادخلوا عبد و مراد و سمير و ابراهيم الى المهجع و صرخنا أين علي رحمون و ما هي إلا لحظات حتى وصل علي رحمون بخير الى مهجعه .
ساد الهدوء المطبق على السجن، كانت نشوة الانتصار في أوجها عندما تحول ذاك الهدوء الى جلبة و أصوات اقدام العساكر و خشخشة حملة السلاح .
وصل العقيد المجرم بركات العش الذي كان مديراً لسجن تدمر و المشرف المباشر على المجزرة الشهيرة بحق معارضين إسلاميين العام ١٩٨٢ .
تم تقديم الصف له من قِبل الرقيب الحقير ثابت و فتح له باب الجناح ثم فتح باب مهجعنا و دخل كثور هائج بكامل هندامه الحقير اتذكر جيداً كانت أزرار بدريسته مفتوحة و كرافيتته تلوح شمال و يمين و من شدة هياجه اصطدم بباب المهجع الثقيل بقوة ليترنح و كاد ان يسقط لكنه سرعان ما استعاد توازنه، و قبل ان يفتحوا الباب كان المساعد علي قد طلب ان نقف في صفين تنين تنين .
اذكر كان الصديق مراد عباس مرتدياً كنزة داخلية نوع حفر و يقف في اول الصف بجسمه الضخم و عضلاته المفتولة .
صرخ الجلاد متوجهاً بسؤاله الى ضابط الأمن المساعد علي و الرقيب ثابت . شوفي شو صار . رد عليه الرقيب ثابت قائلاً : لقد طلبت من الموقوف ان يدير وجهه للحيط لكنه لم يستجب للأمر . قال سفاح تدمر و بالحرف ( ليش ما حطيطلو طلقة ببطنو ولا) ثم استدار في اتجاهنا سائلا شوفي ولا ليش ما بتكون تأكلو ها . تحدث الصديق كاسر الصالح بهدوء انتو عم تجوعونا و اليوم كان اللبن قليل و مخلوط مع مي . رد عليه العش و بالحرف ( شو ولا بقرات أبوي وقفت و ما جبتلك لبن ) رد كاسر اذا ما فيكون تطعمونا فتحو الزيارات او راح نكتب كتاب الى إدارة السجون العامة و الجهات المسؤولة عن اعتقالنا لحل هل المشكلة، و اردف مراد عباس و هو يشير بيده لتحديد حجم الخبزه و قال سيادة العقيد كنت ما تجيبولنا تلت خبزات كبار و ما كان يكفونا و هلا ما تجيبولنا خبزتين صغير طبعاً بدنا نحتج. خلال حديث مراد مع المجرم بركات العش كان الأخير يراقب عضلات مراد الرهيبة و هي تتحرك صعودًا و نزولا . تابع كاسر كلامه قائلاً : عليك ان تأدب جنودك و تشرح لهم ان السجناء ليسوا ابناء الشوارع و المواخير عليهم ان يفهموا اننا أولاد عوائل محترمة ربت اولادها على الأخلاق الحميدة .
استشاط المجرم غضباً و نادى على المساعد علي و الرقيب ثابت و طلب منهم ان يفرغوا من كل جناح للإخوان المسلمين مهجع و قال قولته الشهيرة (شوفو ولا يا انتو بتصيرو اخوان و يا الإخوان ببصيرو شوعيين ).
و هكذا تم نقل خمسة مهاجع ممن كان يطلق عليهم الرفاق الى خمسة اجناحة مخصصة للإخوان المسلمين كعقوبة امتدت لثلاثة اشهر عادوا بعدها الى جناح أ يسار الطابق الثالث و تجدر بي الإشارة الى تدخل المساعد علي للإبقاء على المهاجع الخمسة ممن كان يطلق عليهم مهاجع الأصدقاء مع بعضهم حسب تصنيف إدارة السجن او كما كان قد أشير اليها بذلك .
بقي ان أقول لقد عادت الأمور الى طبيعتها، و عادت مخصصاتنا الى سابق عهدها كاملة دون نقصان و تم وضع لائحة من قبل إدارة السجن على باب الجناح تشير الى حصة كل شخص و بالوزن .
عذرًا للإطالة