ا يمثِّلني أحدُ
ضاقَ منفايَ والبلدُ
ضاقَ بحريَ واتَّسعَ الزَّبدُ
لا يمثِّلني غيرُ هذا السرابِ الذي
يتقرَّبُ منِّي ويبتعدُ
كنْتُ أحلمُ بالحجلِ الجبليِّ
بأنثى القصيدةِ
فاجأني القِردُ
سرقوا كلَّ عقلي
وكلَّ جنوني
أفرغونيَ منِّي
ولم يجدوا
لا يمثلِّني أحدُ
لا الطبيبُ الذي يُتوفَّى لديهِ المريضُ..
السياسيُّ وهو يعلِّمُني ما بِهِ ليسَ يعتقدُ
أنا في زمنٍ ما لديهِ غدٌ
غدُهُ فاسدٌ
سيقومُ بإصلاحِهِ كلُّ مَنْ فسدوا
لا يمثِّلني هؤلاءِ الذينَ
على دميَ اختلفوا
وعلى دميَ اتَّحَدوا
...
في الفجرِ أحدِّقُ في ذاتي
فأرى نجماً منطفئاً
وأرى عصفوراً ميْتاً
وأرى امرأةً
في أسفلِ خيْباتي
..
في الفجرِ أكتبُني
في الليلِ أمحوني
كأنَّني شاعرٌ
أو نصفُ مجنونِ
مذ كنتُ منتظراً
لم يأتِ من أحدٍ
قد كنتُ أضحكُني
أصبحتُ أبكيني
في القلبِ قافيةٌ
في جيدِها قمرٌ
تشدُّ أزريَ
بينَ الحينِ والحينِ
لكنَّني
وسراجُ الوقتِ منطفئٌ
ألوذُ بالعدمِ الأعمى
ليهديني
لا الحربُ تقتلني
لا الحبُّ ينقذني
والأرضُ حولي
بلا دنيا ولا دينِ
...
أنا عاجزٌ عنْ أنْ أحرِّرَ نفسي
وأصابعي مبتلَّةٌ باليأسِ
...
كلماتيَ الخرساءُ لا معنى لها
حتى ولو بلغَتْ أقاصي القدسِ
آهِ
ماذا إذا ما صحوتَ بلا بلدِ؟
ورأيتَ صباحك مستجدياً
بعضَ موجٍ من الزَّبدِ ؟
ورأيتَ الغريبَ يصادرُ حلمَكَ
يرميه في هوّة الأبدِ؟
كيفَ يغدو الزّمانُ
وليسَ لهُ من غدِ؟
هل تفكّر بالموتِ
أم بالحياةِ
وهل ستظلُّ تغنّي
وترقصُ "بالبلدي" ؟
نبقى كما كنّا وأكثرْ
نبقى نعاني ما نعاني
أو نرمِّمُ ما تصدَّعَ أو نُدمَّرْ
نبقى كما الجرحِ القديمِ..
كما أنينِ العشبِ
تحتَ السَّيفِ
وهْوَ ينحرْ
نبقى على أرضٍ
نمتُّ إلى سواقيها
ولا نحظى سوى بالرّملِ
نبني ما نشاءُ
نفسِّرُ اللغز الذي لا..
لا يُفسَّرْ
نبقى كما الغرباءِ
ننتظرُ الرُّجوعَ إلى الطفولةِ
ربّما سنصيرُ أصغرْ
نبقى ولا نبقى هكذا
مثلَ الذي من دمعِهِ الفياضِ يسكرْ
نبقى إذاً
ونغيبُ في جرحيْنِ:
مكشوفٍ ومضمرْ
سرتُ معْ غيري وراءَ العربَهْ
لأرى ماذا وراءَ الهضبَهْ
لم أشاهدْ غيرَ طفلٍ ميِّتٍ
وبكاءَ امرأةٍ مغتصَبَهْ
عدتُ أدراجي حزيناً
بخطىً مضطربَهْ
ودمي يضحكُ كالمجنونِ
عندَ العتبَهْ
عنكبوتُ الفجرِ أهدانيَ
خيطاً واهياً
تمتمَ لي: رتِّقْ رؤاكَ الخربَهْ
ليسَ يُجدي أيُّ قولٍ صادقٍ
معْ هؤلاءِ الكذبَهْ
زمنٌ مغتربٌ
أمكنةٌ مغتربَهْ
بيدِ الريحِ لا يدي خطواتي
فجهاتي منفيةٌ في جهاتي
...
كلما ضاقَ عالمي اتّسعَ القلبُ
لموتٍ مضرّجٍ بالحياةِ
...
منذُ الصباحِ وقلبي رائحٌ غادِ
يعانقُ الريحَ من وادٍ إلى وادِ
...
منذُ الصباحِ وشمسي غيرُ عابئةٍ
فليسَ تسطعُ إلا فوقَ أوغادِ
...
أليسَ من نبأٍ عنِّي على عجَلٍ
يقولُ: تحتَ رمادِ الموتِ ميلادي
لا أحبُّ البكَّاءَ والشَّكّاءَ
لا ولا الهمّازَ والمشَّاءَ
...
لا أحبُّ الأحجارَ ترجمُ قلبي
وتراني دريئةً عمياءَ
...
لا أحبُّ الكلامَ دونَ أساسٍ
وعليهِ تبني الظّنونُ البناءَ
...
هؤلاءِ الذينَ أهربُ منهمْ
وعليهمْ أفضِّلُ الصَّحراءَ
...
كلما لاحَ لي سرابٌ بعيدٌ
قلتُ لي: ها إني وجدْتُ الماءَ
...
"حضور الغياب"
...
رحلتْ وقد تركتْ فيوضَ جمالِها
فالقلبُ منتعشٌ بماءِ زلالِها
...
وكذلكَ الأمطارُ تتركُ خلفَها
روضاً تعبِّرُ عن جميلِ فعالِها
...
حتى الغيابُ يضيقُ عن تغييبها
حتى الحضورُ يموجُ في خلخالها
...
لم أغفُ بعدُ
ما زالَ في العينينِ أمطارٌ ورعدُ
جاءَتْ رسالتُكِ الأخيرةُ
لم أجدْ فيها سوايَ
أنا الذي لا..
لا يُحدُّ
أطِلِّي... للشاعر القدير محمد سمحان:
أطِلـِّـــي كالرَّبــِـيع ِعـَلى قـِـــفـَاري // وَكـُونِي بَـعد تِشْــــريني اخـْضِـــــراري
أطِلـِّـي فالـْحَـــياة ُعـَلى رَحِـــــــيل ٍ // وَلـَيْسَ لـَدى الـْمُسَــافِر مِنْ خـَــــــيار
كـَفـَاني ما انـْتـَظـَــرْتُ وَلـَمْ تـطـُـلـِّي // وَحَـسْبُكِ قـَدْ مَلـَلـْتُ مِنَ انـْتـِظـَــاري
فـَما عـَادَتْ مُــــــــرُوجي ناضِـــــــرات ٍ// وَقـَدْ لـَبـِسَــتْ جَـلابـِـــيبَ النـُّــــضَار
وَلا رَقـَصَ الـْفـَــراشُ عـَلى زُهُــــــوري // وَلا اسْـتـَنـَدَ الـْهَــنــاءُ إلى جـِــدَاري
وَلا مَـــــرَّ السَّــحَابُ عـَلى حُـقـُـــــولي // وَلا امْتـَـــلأتْ بـِخـَمْــَرتِــها جـِــرَاري
كـَأنـِّي قـَدْ خـُلِـقـْـــــتُ مِـن الصَّــــحاري // وَسَوْف أظـَلُّ في صَهْـدِ الصَّحـاري
فـَكـُونِي واحَــتِي في قـَيْـــظ عُـــــــمْري // تـُظِــــلُّ الــــرُّوحَ مِنْ لـَـــفـْح ِالأوَار
أطـِلـِّـــــي قـَبـْـل أنْ يَـــــذ ْوي سِـــراجي // وَتـُمْسي مِنْ رَمَـاد النـَّار نـَـــاري
أنا الأسَــــــدُ الـْمُـــكـِبُّ عـَلى جـِـــــراحي // تـُحَاصِـرُني الـْجَوَارحُ والضَّـــواري
وذاتَ غـَـدٍ سَـــتـَفـْتـَـــقـِدينَ صَــــــــــــوْتي // وَلا يُـبْـقِي الزَّمانُ سِوى غُباري
وَهـَذا الـْعُــــــــــمْرُ نـَلـْبَـــــــسُهُ قـَلِـــــــــيلا //لِنـُخـْلـَعَهُ كـَـثـــــوبٍ مُـسْــتـَعار
أطِـلـِّــــــــــي لـَمْ تـَــــــزَلْ عِنـْدي بَقـَايَــــــــا // وَنـَاري لا تـَزَالُ عـَلى اسْتِـعَار
******
معارضتي لقصيدة "أطِلِّي" للشاعر القدير محمد سمحان:
لقد أجَّجْتني في عقرِ داري.. فهذا الشِّعرُ نارٌ تلوَ نارِ
وهذا الشِّعرُ كالقدرِ المسجَّى.. وكيفَ يكونُ من قدري فراري
لقد كانَ الربيعُ رفيقَ دربي.. ولكنْ قد تخلَّى عن مساري
وكانَ الماءُ والوجهُ المرجَّى.. وقد فرغَتْ من الدنيا جراري
يمرُّ الوقتُ أسرعَ من خطاهُ.. وقلبي خلفَهُ حافٍ وعارِ
غنيَّاً كنتُ والأحلامُ مالي .. تبدَّدَ فوقَ طاولةِ القمارِ
تغلغلَ في فؤادي كلُّ ليلٍ .. كأنّي لم أكنْ بطلَ النهارِ
عصايَ الآنَ تسندُني وكمْ قدْ.. سندتُ السيفَ في عزِّ اقتداري
ومنذُ البدءِ أنتظرُ الأماني.. وقد طارَتْ وما زالَ انتظاري
كما حجرٍ غدوتُ فلا سلافٌ.. يحرِّكني ولا ذاتُ الخمارِ
كأنْ بيني وبين الوقتِ ثأراً.. فكم أفنى ولمْ آخذ بثاري
أروحُ إلى السماءِ لعلَّ نجماً.. يلوِّحُ لي ويُبدي ما يواري
أنا نسلُ الهزائمِ وَهْيَ تَتْرى.. وأبعدُ من خيالاتي انتصاري
منذُ خمسينَ أمشي
ولم أرَ إلا الفقاقيعَ والزَّبدا
كلما اقتربَ الشعرُ من ظلّيَ ابتعدا
كلما لاحَ لي أحدٌ
لم أجدْ أحدا
في ذكرى السياب
بدر شاكر السياب طائر الشعر، غرد كما لم تغرد طيور، أخذه الموت بعد ثمانية وثلاثين عاماً، ولد في عام 1926 وكان الموت له بالمرصاد، في الرابع والعشرين من كانون الأول ديسمبر 1964 .
قرية صغيرة بحجم قصيدة اسمها جيكور وغابات نخيل بحجم القوافي الشاردة، وقمر الجنوب الذي ودعه السياب إلى أضواء المدينة الزائفة ولياليها الغامضة الثقيلة، تلك كانت القرية التي فتح فيها الشاعر عينيه، واحتضن ترابها جسده، فقد ودع السياب شماريخ الرطب وصلاة الأزاهير وبويب، في المدينة، بعد أن فقد التوازن النفسي، وتكسر في روحه غصن الفرح وهو الريفي اليتيم الناحل الدميم أمام رجال أنيقين يتأبطون فتيات جميلات، عاد إلى جيكور-نفسها- وتزوج من إحدى قريباته، وكانت الصدمة إذ أصيب بالسل وهكذا صار طائر الشعر طائر الحديد يتنقل من سرير إلى سرير، وحين مات في الكويت لم يكن أحد قربه جاؤوا بجثمانه إلى جيكور ولم يسر خلف جنازته إلا نفر قليل، وبكى عليه الشعر .
الكثير من قصائد السياب شعر عادي والقليل نفخ الروح في جسد الشعر العربي المريض، فكان بذلك مبدعاً خلاقاً ومؤسساً ورائداً من رواد الحداثة الشعرية وبذلك انتصر على المرض وعلى الموت بقوة الإبداع . فهو ملحمة من ملاحم الشعر والكفاح، حارب الطبقية الرهيبة، قلة متخمة بالمال والتفاهة وكثرة تتضور، تنتظر أنشودة المطر:
أصيح بالخليج . .يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى كأنه النشيج
يا واهب المحار والردى .
السياب شعرياً نجح قليلاً ككل الذين يقتحمون السبل غير الممهدة والمطروقة، لكنه يبقى سيد الريادة والتجديد كما كان البارودي في مجاله الإحيائي ومطران في مجاله الرومنسي الشاعر علي الجندي يعترف بأستاذية السياب فيقول: موهبته كانت أقوى من كل مواهبنا، كان مثل ثوب مغبر . . إذا ما هززته يسقط منه الشعر غزيراً طريفاً . كما أن علي كنعان يقول: يوم كنا ندرب أجنحتنا على الخفقان كان بدر يحلق عالياً في فضاءات الشعر ويستكشف آفاقاً جديدة . . لم تكن أعمارنا ولا طاقاتنا الغضة قادرة على إدراكها إلا بالأحلام .
عبدالكريم كاصد يقول: لقد عرفت لحظة الشعر في نفس السياب أطراف النقيضين: نشوة البطولة وانكسار المغدور البائس وانسحاقه في الموت . كما قالت سلمى الخضراء الجيوسي: أما الشاعر السياب فقد قال أمام سرير مرضه، معزياً نفسه قبيل الموت قصيدته المؤثرة المزدحمة بالألم الوصية . أجل كثير من الشعر يموت، وأصحابه أحياء، وكثير من الشعر يبقى وأصحابه أموات، يقول السياب في قصيدته الوصية .
من مرضي
من السرير الأبيض
من جاري انهار على فراشه وحشرجا
يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة
من حلمي الذي يمدّ لي طريق المقبرة
والقمر المريض و الدجى
أكتبها وصيّة لزوجتي المنتظرة
وطفلي الصارخ في رقاده أبي أبي
تلم في حروفها من عمري المعذّب
إلى الصديق المبدع بيان صفدي في ذكرى السياب :
معَ بدرٍ يطيرُ هذا البيانُ
ملءُ قلبي وقلبِهِ نيرانُ
...
لهمُ الكونُ متجراً وصلاةً
ولنا الشّعرُ وحدَهُ الإيمانُ
...
ماتَ.. لا لم يمتْ هوَ الآنَ شادٍ
ومنَ الشَّدو يُصنعُ الإنسانُ
في الوقتِ
متَّسعٌ من الموتِ
فلتذهبي في الريحِ
يا أنتِ
نايُ الصباحِ مُكسَّرٌ
وفمي
ما عادَ يصلحُ
غيرَ للصَّمتِ
حولي بقايا الحرفِ
منقرضٌ
حتى أنا لا شيْءَ
إنْ شئْتِ
أنسى محاصيلي
بلا سببٍ
فالوقتُ عندي
دونَما وقتِ
معنىً أكونُ
وقد أصيرُ سدىً
حيَّاً
ولكنْ مثلما ميْتِ
فجري بلا فجرٍ
وطيفُ غدي
ناءٍ
ولستُ أظنُّه يأتي
هل كنتُ يوماً عاشقاً
ثمِلاً
في الريحِ موعدُنا
وهل كنتِ ؟
لا تأمني حزْني
ولا فرَحي
إيَّاكِ منْ حبِّي
ومنْ مقْتي
لا ترْكضي خلفي ..
أنا شبحٌ
كلُّ الأماكنِ في الدُّنا
بيْتي
لا أستطيعُ معي أنا أبداً
صبراً ..
فهلَّا إنَّكِ اسْطَعْتِ
بيني وبينَ الكونِ مثْأَرَةٌ
حتَّى أفرِّغَ فوقَهُ كبْتي
قبلَ قليلٍ كنتُ أشمُّ النَّجمَ
وكنتُ معافىً
إلا من أشواقي
من يشفيني منها
ويصونُ ليَ الحلمَ الباقي
إليَّ ..إلى نفسي أحنُّ وأشتاقُ
وكلُّ سلاحي الآنَ حبرٌ وأوراقُ
...
لقد جف آباري وكلَّتْ شكيمتي
وخلفَ سرابِ الوقتِ أصبحتُ أنساقُ
...
هي الأرضُ مهدٌ للفسادِ وآلهِ
على ظهرِها يُعلى رعاعٌ وسرَّاقُ
...
فلا.. لا تلومي شاعراً كانَ آسياً
وليسَ لديهِ الآنَ للداءِ ترياقُ
كنتُ أنتظرُ الفجرَ
لكنّهُ لم يجئْ
وبقيتُ معِ الرَّملِ
أُحصي المكانَ
وأحصي الزَّمانَ الصَّدِئْ
جاءَني صاحبي المتوضِّئُ بالموتِ
وهْوَ يتمْتمُ :
فلْتنْطفئْ
بماذا أحتفي والكونُ حافِ
وفي قلبي أحاديثُ المنافي
...
شتائي دونَ أمطارٍ.. ربيعي
بعيدٌ بعدَ أحلامي العجافِ
...
وما بفمي سوى صوتٍ كئيبٍ
وما في الريحِ غيرُ صدى القوافي
...
فقدتُ حبيبتي فالشعر أضحى
وحيداً دونَ ثالثةِ الأثافي
...
مضتْ سنةٌ ..أتتْ سنةٌ وقلبي
على جمراتِهِ صاحٍ وغافِ
...
وأشواقي إلى الأقمارِ تغلي
وأنهارُ العذابِ بلا ضفافِ
...
أيا دنيا.. أيا أضغاثَ حلمٍ
أما يكفيكِ لهواً بالشِّغافِ؟
...
كأنَّ الوقتَ راعٍ جدُّ أعمىً
ونحنُ وراءَهُ مثلُ الخرافِ
حتى الرياحُ
إذا صارَتْ يداً بيدِ
تغفو على نغمٍ عذبٍ
ومنفردِ
كلُّ العصافيرِ
في عينيكِ نائمةٌ
وإنْ صحتْ
قوبلتْ بالصَّدِ والحسدِ
ما راحَ من زمني
أضغاثُ قافيةٍ
فالشعرُ ورَّثَ لي
كنزاً من الزَّبدِ
مِنَ الفُراتِ
إلى العاصِي
إلى برَدَى
بَحثْتُ عنْ أصْدقائِي..
لمْ أَجِدْ أَحَدَا
بحثتُ عن نفسيَ الجرداءِ ..
عن وطنٍ
الكلُّ يهربُ مني الآنَ
مبتعدا
يا أيُّها الوطنُ المذبوحُ
من زمنٍ
البحرُ غيضَ ..
أضمُّ الريحَ والزبدا
صمتٌ يخيِّمُ
في أرجاءِ مقبرةٍ
فما هناك سوى صوتي
ورجعِ صدى
لا شيءَ بعدَ زمانِ الوصلِ
يجمعُني
إنَّ الصحابَ جميعاً
أصبحوا شُهَدا
كم من دماءٍ أريقتْ
فوقَ قافيتي
وضرَّجَتْ بسناها
الروحَ والجسدا
كم أمهاتٍ
سكبنَ الدمعَ في حرقٍ
وقد فقدنَ
حبيبَ القلبِ أو ولدا
وكم أنا في مهبِّ الليلِ
منتظرٌ
فجراً يجيءُ غداً ..
فجراً يجيءُ غدا
بلدُ الماءِ لم يعدْ فيهِ ماءُ
وبديلاً منهُ تسيلُ الدماءُ
...
هؤلاءِ الطغاةِ صالوا وجالوا
وضحاياهُمُ هُمُ الأبرياءُ
...
نهبوا الأرضَ.. والسماءَ قريباً
ولذا لاذَتْ بالفرارِ السماءُ
سيعمُّ السلامْ
سيعودُ الشهيدُ إلى دارهِ
ويعودُ الفقيرُ إلى كارهِ
وتعودُ الحروبُ إلى رشدِها
وتعود الجحيمُ إلى بردِها
وأعودُ أنا
لأفتِّشَ عن جثَّتي في الظلامْ
سيعمُّ السلامْ
لن أذوقَ سوى ظلِّهِ
فهوَ حبرٌ على ورقٍ
بيدِ الروسِ والعمِّ سامْ
رحلَ الليلُ ولم يأتِ النهارُ
ثقل الوقتُ وأضناني انتظارُ
...
في سرابي ألفُ ماءٍ ميِّتٍ
في رمادي يلتقي ثلجٌ ونارُ
...
وعلى الرَّملِ بقايا قمرٍ
وعلى القلبِ دخانٌ وغبارُ
...
أخرجُ الآنَ من الريحِ أنا
لقد اشتدَّ على ريحي الحصارُ
...
أدخلُ البحرَ ليحييني سدىً
أنكرتْني منذُ أنْ متُّ البحارُ
...
لِمَ لا أرفو جراحي ..لِمَ لا
فَرَحى الآلامِ في روحي تُدارُ
...
كم هوائي حجريٌّ جامد
ألهذا تلفحُ القلبَ الحجارُ
...
أسلامٌ ما أرى أم حفلةٌ
كلُّ وجهٍ مُستعارٌ مُستعارُ
أسمعُ موسيقا الحربْ
أسمعُ موسيقا الحبْ
أسمعُ قهقهةِ الشَّيطانْ
وبكاءَ الرَّبْ
...
أسمعُ الآنَ أغنيةً عن بلدي:
غيمِهِ
حلمِهِ
أمسِهِ
غدِهِ
ونظرتُ من الثقبِ
كي أتاكَّدَ من مطرِ الحبِّ
لم أجدِ
كم تغنَّى الشُّعرا يا بردَى
بكَ ..كمْ كنتَ تروِّي الكبدا
...
أتجفُّ الآنَ.. ما أقسى الظَّما
كلُّ ما قيلَ لقدْ راحَ سُدى
...
فهلِ الأرضُ ارتوَتْ من دمِنا
طائرُ الموتِ على الروحِ شَدا؟
...
إنَّني أبحثُ عن معجزةٍ
عبثاً أفتحُ قلباً ويدا
...
وطني هذا غدا مقبرةً
ضاقَ ذرعاً بمداها الشُّهدا
...
سنواتُ الموتِ تستدرجُنا
لن ترى يوماً قريباً أحدا
...
جثثٌ تطفو عليها جثثٌ
وترى الماضي سيرثي الغدا
بينَ لحظتينِ
" ربَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلمّا...صرتُ في غيرهِ بكيتُ عليهِ "
إلى العامِ الجديدِ الذي سيغدو قديماً:
رحـــــلَ الـقــديــمُ بـعــذبــهِ وعـــذابـــهِ ...وأتــى الـجـديـدُ وهـــا أنـــا فـــي بـابــهِ
كــم كـنـتُ أسـعـى أن أمــسَّ سـمـاءهُ...لـكـنـّنـي مــــا زلـــــتُ طـــــوعَ تــرابـــهِ
كــم كـانـتِ الأحــلامُ ساطـعـةَ الـــرّؤى...حـتــى تـــوارَتْ فـــي كـهــوفِ خــرابــهِ
وسـألـتـُهُ عــنــي وعــمـَّـا حــــلَّ بــــي...أصبـحـْتُ ريـشــاً فـــي مـهــبِّ جـوابــهِ
لــــم يـكـثــرثْ بــذبــولِ عــمـــرٍ آفـــــلٍ...ومـضــى يـــردُّ الـمــوتَ عـــن أسـلابــهِ
الـعـذبُ عــاشَ ومــاتَ ولــم أهـنــأْ بـــهِ...وظـلـلــتُ مــأخــوذاً بــزيــفِ سـحــابــهِ
أمـــــا الــعـــذابُ فــرحــلــةٌ قــســريــةٌ...فـــــي بــرّهِ..فـــي بـــحـــرهِ وعــبــابــهِ
فـكــأنَّ هــــذا الـقـلــبَ صــــبٌّ هــائــمٌ...فـيـعـيــدُ مــجـــدَ هـيــامــهِ وشــبــابــهِ
كــانَ الهـشـيـمُ حـصــادَ قـلــبٍ خـائــبٍ...و لـكـم رعــى الأحــلامَ فــي أعشـابـهِ
الأمـــسُ غـــابَ.. وجـــاءَ يــــومٌ غــيــره...وكـلاهــمــا بــالـــروحِ لـــيـــسَ بـــآبـــهِ
مــــا أقــصــرَ الـعـمــرَ الـطـويــلَ فــإنـــهُ...كـدقـيـقــةٍ فــــــي حـــلــّـهِ وذهـــابـــهِ
وتـكـسَّـرتْ كـــلُّ الـنـوافـذِ فـــي يـــدي...لـم أجــنِ مــن عمـلـي ســوى أتعـابـهِ
الـعــمــرُ مــــــاضٍ والـــزمـــانُ يــحــثــهُ...ويــكـــادُ أن يـــــودي بــكـــلِّ صـــوابـــهِ
كـــم كـــانَ حـلـمـي ثـائــراً لا يـرعــوي...ويـــؤجـّــجُ الــدنــيــا بـــعـــودِ ثــقــابـــهِ
والآنَ قـدخــمــدَ اللهيــــــبُ جـمـيــعــه...لــــم يــبــقَ غــيــرُ رمـــــادهِ وهـبــابــهِ
كـــم تـسـخـرُ الأيـــامُ مــــن شـرفـاتــه...أو تــُســدلُ الأكــفــانُ فـــــوقَ قـبــابــهِ
فــي نـصـفِ هــذا اللـيـلِ يـرحـلُ عـالـمٌ...ويـجــيءُ آخـــرُ فــــي جـمـيــلِ ثـيـابــهِ
وأظــــلّ أبــــدأُ مــــن جــديـــدٍ رحــلـــة...عــبـــرَ الــزمـــانِ بـشــهــدهِ وبـصــابــهِ
عـانـيـتُ مـــن زمـنــي الـوعـيـدَ فــإنــهُ...مــا كـــفَّ يـومــاً عـــن قـبـيـحِ خـطـابـهِ
لا فـــــرقَ بــيـــنَ قـديــمــهِ وجــديـــدهِ...فـكـلاهـمــا يـقــتــاتُ مـــــن إرهـــابـــهِ
الـصـبـرُ ولــّـى.. لــــم يــعــدْ مـتـحـمـّلا...للـصـبـرِ حـــدٌّ فــــاضَ فــــي تـسـكـابـهِ
عــمــرٌ تـنـصّــلَ بـغـتــةً مــــن عــمـــره...وبـقــيــتُ مـرمــيــّاً عـــلـــى أعــتــابــهِ
حـــلّ الـغــرابُ فـــلا حـمــامَ بـعـالـمـي...شــتـــّانَ بــيـــنَ حــمــامــهِ وغـــرابـــهِ
عــامٌ مـضـى.. عــامٌ يـجـيءُ.. كلاهـمـا...مـسـتـهــتــرٌ بـزمــيــلــهِ الـمـتـشــابــهِ
ويـقـولُ لــي عـامـي الجديـدُ:هـلا هــلا...فـأقـولُ:هـل سـأعـيـشُ فـــي جلـبـابـهِ
فـغــداً ..غــــداً ضــيــفٌ ثـقـيــلٌ قــــادمٌ...أهــــلاً بــــهِ وبــمـــرِّ.. مـــــرِّ شــرابـــهِ
مـــاذا سـأفـعـلُ غـيــرَ دفــــعَ شــــرورهِ...لا خـيــرَ يـبــدو فـــي شـريـعــةِ غــابــهِ
مــــاذا سـأفـعــلُ والــزمـــانُ يـحـثّـنــي...لأكـــونَ رغــــمَ الأنــــفِ مــــن أذنــابــهِ
لـكــنــنــي لا أســتــطــيــعُ رضــــــــاءه...وعـلــيّ ألــّــبَ كــــلّ جــيــشِ كــلابــهِ
صــــدري يـضـيــقُ ولا تـضـيــقُ بـنــاتــه...حـتــى غـــدا يـبـكـي طــلــولَ رحــابــهِ
كــم كــانَ يطـلـعُ مـنـهُ نـجـمُ قصـائـدي...تـتــرى ويـغـفـو الـحــبُّ فـــي أهــدابــهِ
لا نــجــمَ بــعــدَ الــيــومِ يــبــدو تِــربـــهُ...فـلـقـد تـخـلـّـى الــيــومَ عــــن أتــرابــهِ
كـلّ الـذي فـي جعبتـي مــا عــادَ لــي...روحٌ مـــحـــطـّــمــــةٌ وراءَ إهــــــابـــــــهِ
بـيـنـي وبـيــن الـوقــتُ ســـوءُ تـفـاهـمٍ...إيـــّـاكَ... والـتـســآلَ عـــــن أسـبــابــهِ
فـالـوقــتُ يـأخــذنــي عــلـــى تــيــّـاره...مـا زلــتُ أحـسـو الشـعـرَ مــن أنخـابـهِ
وأنــا الــذي لا بــرَّ لــي.. لا بـحــرَ لـــي...إنــــي أرانــــي فــــي خــضــمِّ يـبـابــهِ
الـوقــتُ يـمـضـي مـذعـنـاً مستسـلـمـاً...لا فـــــرقَ بــيـــن حــضـــورهِ وغــيــابــهِ
كم قد ضحكتُ وكم بكيتُ سدىً سدىً...لــم يـبـقَ لــي غـيـرُ الـصـّدى ورهـابــهِ
مــــــرّ الــقــديــمُ بــعــذبــهِ وعـــذابـــهِ...وأتــى الـجـديـدُ وهـــا أنـــا فـــي بـابــهِ
قـــد كـنــتُ آمـــل أن يـؤجّــجَ نجـمـتـي...مــا زالَ نجـمـي مطـفـأً.. مـــاذا بـــهِ..؟
جامـلـتـهُ.. وفــرشــتُ أشــعــاري لــــهُ...ورجــــعــــتُ دونَ ثــنـــائـــهِ وثــــوابــــهِ
بــل رحــتُ أحـلـمُ كـيـفَ أنـجـو سالـمـاً...فـوجـدتُ نـفـسـي لـقـمـةً فـــي نـابــهِ
يـجـتّـرنــي وكــأنــّنــي عـــلـــفٌ لــــــهُ...ولــكــمْ خـُـدعـــتُ بـلـطـفــهِ وعـتــابــهِ
يـا أيّهـا العـامُ الجديـدُ ..ولا جديـدَ...لــديــكَ غــيــرَ تـفــاؤلــي وســرابـــهِ
وغـــداً سـتـغـدو مــثــلَ غــيــرِكَ آفــــلاً...وأســـيـــرُ كــالأعــمــى وراءَ ضــبــابـــهِ
31/12/2010