
محمد قاسم- 9 أبريل 2017 (ذكرى)
(فقلت له: إن الشجـا يبعث الشجا =فــدعني، فهذا كـــله قبر مالك)
إبراهيم الشيخ رشيد.
لا أدرى بالضبط كم كان عمري حينها، لكنني أتذكر المشهد جيدا، المرحومة "أمامه" (وربما الاسم تحوير من "يمامة" في اللغة العربية). جالسة على سرير خشبي داخل غرفتها، في ملامحها إمارات الحزن-بادية، وربما دموع تنحدر بوجع على خديها. وحولها نسوة من القرية، منهن والدتي المرحومة "حليمة عمر". رافقتها لصغر سني، أقدره بين الثالثة والخامسة. لم أكن أعي تماما ما يجري. لكنني علمت فيما بعد، أنها انفصلت عن زوجها الشيخ رشيد –يقال بتأثير من وشاة-ولم اعد أتذكر أكثر. لكن قيل لي أنها انتقلت إلى دارنا، ومنها انتقلت إلى الحدود التركية /السورية برفقة بعض أهلي-ربما المرحوم والدي وغيره-حيث كان في استقبالها ذووها، ونقلوها إلى جزيرة بوتان. كان الحدث مؤثرا جدا حينها ولا تزال تداعياتها تذكر بحزن يرافقها.
فقد كانت توصف بكونها امرأة محبوبة لسلوكها الطيب.
كان إبراهيم ابنها البكر، ولديها بنات اذكر منهن واحدة اسمها (مرشدة). وقد كبر إبراهيم في دار أبيه، كان يكبرني بسنوات لا اعلم عدها –ربما خمسة ربما ستة ...
كان شابا حيويا لم يحظ بعلم ملفت، فغياب والدته ترك أثرا –فيما يبدو-على نمط حياته. وربما للسبب نفسه، كان أكثر ميلا إلى الحياة الشعبية، قياسا لإخوانه الذين كان لديهم شعور بالتميز كونهم أبناء شيخ معروف ذي مكانة دينية/اجتماعية. وهذا جعله ذا شعبية في أوساط الفلاحين. عشق إحدى فتيات القرية لكن أهله لم يوافقوا على زواجهما، فتزوج غيرها –وكانت زوجه (وسيلة) رحمها الله امرأة طيبة، تلقفها الموت وهي لا تزال شبابا، وقد خلفت عددا من الأولاد ذكورا وإناثا أكبرهم (جواد).
وبعد سنوات جاءت المرحومة(أمامة) وسكنت مع أولادها في قرية (دلاﭬـي كرا) والتحق بها ابنها إبراهيم. ثم انتقلت الأسرة إلى قرية (ﮔركي لـﮔـي) حيث استقرت نهائيا. وترجمة اسم القرية هي:( تلة اللقلق) لكنه عرّب إلى (معبدة) ولا أدري الأساس الذي اعتمد لهذه التسمية المعربة. فلم تكن هناك ضوابط سوى تعريب الاسم الكوردي كمنهج في سياسة البعث. وهذا أحد مفرزات الأيديولوجية. حيث تقرر مصير الأماكن والبشر وفق رغبة أصحابها ، وسيلتهم في ذلك الحكم الاستبدادي... فكان هناك امرأ خافيا يجمع بين ممارسات تبدو كأنها صادرة عن مراكز مختلفة. ولها غاية أساسية زرع عدم الاستقرار والصراعات لغايات سياسية-وقد تكون ثقافية/دينية.
انتقلت إلى التعليم في مدرسة قرية ﮔركي لـﮔي حوالي العام 1975/1976، وكانت داره أمام المدرسة القديمة المبنية من لبن وطين، قبل استلام المدرسة النموذجية الجديدة (الصغيرة) والتي لم تكن تبعد كثيرا عن المدرسة الأولى. وكان بعض أولاده يدرسون في المدرسة اذكر منهم (عبد الرحمن) أصغرهم. وابنته (شريفة) إن لم تخني الذاكرة.
بحكم كوننا (كرفاء) وجيران، كنا نلتقي كثيرا، والكريف تعني أن طفلا طهّر في حضن أحد أفراد العائلة، وكان إبراهيم قد طهّر في حضن أحد أفراد أهلي، ولذلك معنى قرابة في المأثور الاجتماعي).
في السنوات الأخيرة ابتلاه الله بإصابة في حلقه اضطرته إلى استئصالها ومعها الحبال الصوتية، فحرم الحديث لكنه استطاع تجاوز محنته وهو يعيش حياة طبيعية أطال الله في عمره وحفظه.
لا زلت أتذكر جيدا المرحومة (أمامه) والدته وهي أمام باب دارها تصيح وتولول –وهي المحافظة التي لا تخرج بدون نقاب، عندما علمت بأنني تعرضت لحادثة سيارة في مكان قريب من دارهم.
كان ذلك في عام 1976. ذهبت إلى ديرك لتثبيت المباشرة بالعمل في مدرسة المأمون الابتدائية. وعدت في سيارة تاكسي ذات الثمانية ركاب –كما تعرف- توقفت السيارة ونزلت منها، وانتظرت أحد أبناء القرية الوافدين من دير الزور للعمل في رميلان. انتبهت إلى أصوات منها صوت (ام فيصل) الذي عرفته فهي جارة المدرسة ونلتقي دوما وهي تقول: "يا وللو كتلت المدير". نظرت خلفي. إذا سيارة قلاب كبيرة كانت أمام دار المرحوم (حسن كرحو) قد تراجعت ولامست زاوية صندوقها كتفي، ودفعتني مع غيري نحو سيارة تاكسي ركاب كانت أقلتنا من ديرك إلى ﮔركي لـﮔـي، يقودها السائق الأرمني (ﮔربيس) فدفعتنا مع السيارة نحو نصف متر عرضا على الطريق، وظننت بأن شقي الأيسر قد اقتطع.
لكن الله سلم. فلم تكن الحصيلة -فيما يخصني -سوى رضٍّ قوي، وكسر في لوح الكتف –نحمد الله-. والقصة طويلة لا مجال لتفاصيل أكثر عنها هنا.
كانت المرحومة (أمامه) رحمها الله. في أشد حالات القلق والتوتر إلى أن تأكدت بأنني سلمت-لم أفقد الوعي لذا كنت أدرك كل ما يجري.
والشيء بالشيء يذكر فقد يكون جديرا أن اذكر السيدة (ام فيصل) زوج السيد (رزج) وكانوا جيرانا لنا، وهي التي نبهت الأخرين إلى ما أنا فيه، وعندما عدت إلى الدوام بعد أيام، نثرت سكاكر على الحاضرين ابتهاجاـ أصابت إحداها كتفي فأوجعته قليلا...
أرجو للأحياء جميعا حياة سعيدة والرحمة للموتى ...
ويا سبحان الله! ماذا تفعل المودة بالناس، وماذا تفعل الأحقاد والضغائن بهم!
.....
ما أوجعني اليوم نبأ نقله إلي ابن أختي بدر الدين هو ان إبراهيم قد توفي .
ولا نقول إلا ما يرضي الله : لا حول لا قوة إلا بالله...
نرجو له الرحمة والجنة ولذويه الصبر والاجر.
ما أبلغ قول ابي العتاهية :
للمنون دائرات يدرن صرفها =هن ينتقيننا واحدا فواحدا
انهم السابقون ونحن اللاحقون.