دولة قديمة وعريقة حكمها ملك عادل مع وزير ومستشار حكيم كان الملك لايستغني عنه أبداً .
في أحد الأيام أمر الملك وزيره الحكيم أن يرافقه للصيد . أثناء الصيد شاءت الظروف أن يفترقا عن بعضهما لبعض الوقت وذهب كل واحد منهما في مسار مختلف . أهتدى الوزير في مساره الى بركة ماء هرع إليها مسرعاً ليرتوي منها لكنه وقف مشدوهاً لدى تقربه منها وذلك لرؤية معركة دائرة بين غلامين داخل بركة الماء أحدهما أبيض اللون والآخر أسود اللون بدأ يراقبهما بتعجب لتصرفهما الغريب وعدم توقفهما عند تقربه منهما . أنتهت المعركة بإنتصار الغلام الأسود وركوبه على ظهر الغلام الأبيض وعندها نادى الغلام الأسود على الوزير بأسمه وقال له أرأيت أنا حظك الأسود غلبت حظك الأبيض وسأبقى غالباً عليه مدة عشرين عام . فتحضر لأستلام النحس والحظ العاثر طيلة تلك الفترة . أندهش الوزير مما رأى وسمع وشلَّ تفكيره كلياً حتى كاد أن ينسى بأنه قد رافق الملك من أجل الصيد .
لكنه تمالك نفسه بصعوبة وحاول جاهداً إستعادة رشده إليه والتوقف عن التفكير بالكلام الذي سمعه ورؤية غلبة حظه الأسود على حظه الأبيض .
ثم بدأ يسرع الخطا ليهتدي للمسار الذي أتخذه الملك لصيده . عندما ألتقيا قررا الرجوع للقصر لأنهما كانا منهكين من تعب الصيد ولم يفلحا الطرفان في صيدهما لذاك اليوم . ولقرب بوادر مجيئ الليل وظهور خيوطه الداكنة اللون والكئيبة التي بدأت تملأ الأفق بعد تقهقر ورجوع الشمس بضوئه ودفئه الى الوراء والسماح لهيمنة الليل وطغيانه التدريجي على كافة الأجواء والتغيير الذي سببه بتبديل النسيم الدافئ والمريح والمنعش للجسم مع تزامن وجود الشمس الى نسيم بارد يلسع البدن ويشعره بالقشعريرة والتعب مع تراجع الشمس .
مما دعاهما لإسراع الخطى والرجوع للقصر الملكي المريح . بعدها أستأذن الوزير من الملك أن يسمح له بالذهاب الى بيته ليرتاح بعض الوقت . لأن شعوره بالتعب كان في أوجه وفكره لايبرح منه ما رأى وما سمع اليوم من العجائب والغرائب في رحلة الصيد ولرغبته العارمة بإعلام زوجته بكل ماجرى له ليخفف عن نفسه وطئ الحدث وشددته .
لكن الملك لم يسمح للوزير بالذهاب للبيت لأمر هام تخص الدولة أراد أستشارته بها .
الملك لدى جلوسه على عرشه وأسترخائه شعر بنوم مفاجئ أغمض معها عينيه والوزير كان جالساً في كرسيه بإنتظار مايطلب منه الملك من إستشارة ؟ إذا به يرى عقرب أسود اللون تتجه بإتجاه الملك لتلدغه فشهر الوزير خنجره وتقرب من الملك ليسدي ضربة قاتلة ومحكمة للعقرب قبل لدغه للملك . بنفس اللحظة فتح الملك عينيه ورأى أستعداد الوزير ووقوفه بالقرب منه والخنجر بيده تعجب الملك وأبدى أستيائه الشديد في حين برر الوزير فعلته للملك ووضح السبب بأنه أراد قتل العقرب الذي تقرب من الملك ومنع لدغه . لكنهما لم يعثرا رغم التفتيش الدقيق لا على العقرب الأسود ولا على آثاره لسوء حظ الوزير .
مما جعل الملك يغضب بشدة وأعتبر الموضوع فيه خيانة وإن الوزير كان ينوي قتله . فأسدى بحكمه على الوزير بترك البلاد فوراً والعيش في بلاد غير بلاده ولم يحكم بقتله للصداقة الحميمة التي كانت تربطهما ببعضهما . لم ينطق الوزير بشيئ ولم يدافع عن نفسه لصعوبة الموقف الذي صادفه وعدم تمكنه من إثبات براءته وموقفه الحقيقي ونواياه الصادقة لإنقاذ الملك وليس العكس .
ذهب الوزير للبيت بقلب مكسور ، وأعلم زوجته بجميع الأحداث والمجريات التي مرت عليه في يومه المشؤوم هذا وتهيئا معاً لترك البلاد وأخذا كل مالديهما من أشياءٍ غلا ثمنها وخفَّ وزنها ليعينهما في عيشهما في بلاد الغربة .
لدى وصولهما للبلد الذي تم أختياره من قبلهما للعيش فيه . أستقرا في بيت يليق بمقامهما ، طلبت الزوجة من زوجها الوزير مباشرته بالتسوق وشراء جميع الحاجات الضرورية لهما في بيتهما الجديد ومن بينها المواد الغذائية الضرورية وطلبت منه أيضاً شراء اللحم ورأس غنم مع الكراعين لأنها قررت طبخ الباجة في اليوم الثاني لوصولهما . تسوق الوزير وجلب كل متطلبات زوجته ومعها أشترى اللحم ورأس الغنم والكراعين من القصاب وقبل وصوله للبيت أوقفه شرطي ليسأله لماذا ذبح هذا الإنسان الذي بيده ؟ قال الوزير بتعجب للشرطي أي إنسان ؟ ثم نظر إلى يده إذا به هو الآخر يرى بأنه يحمل رأس إنسان مذبوح أعلم الشرطي بأنه أشترى من القصاب رأس غنم مع الكراعين ولم يعلم بأن القصاب قد أعطاه رأس إنسان مذبوح . طلب من الشرطي الذهاب معه للقصاب من أجل التأكد والإستفسار ! تعجب القصاب عند رؤيته رأس إنسان مذبوح بيد الوزير وأكد بأنه باعه رأس خروف وليس لديه أي علم برأس الإنسان المذبوح ومن هو الذي ذبحه ؟ لذا أوقف الشرطي الوزير وقدم الوزير بعدها للمحاكمة وحكم عليه بالسجن لمدة عشرون عام . زوجة الوزير عاشت في البيت وحيدة غريبة ، صارعت بقوة من أجل لقمة عيشها وتحمل مصاعب حياتها ومرارتها لمدة عشرون عام .
بعد إنقضاء فترة الحكم العشرون عام أفرج عن الوزير
وفي يوم خروجه من السجن تذكر الملك وزيره المخلص وحنَّ بشدة لإستشاراته الحكيمة وحبه الصادق لعمله وللملك . نادى الملك على بعض مساعديه ليباشروا بالتفتيش عن وزيره الحكيم في البلدان المجاورة وإقناعه للرجوع إلى بلاده . ووعد الملك مساعديه بمنحهم المال الوفير والرضا لدى نجاحهم برجوع الوزير الى بلده وبيته وعمله القديم .
صادف أول يوم مكوث الوزير في بيته مع زوجته بعد سجنه الطويل ، الكبر وتعب السنين وأحزانهما المتراكمة كانت قد أخذت من صحتهما وشكلهما الكثير الكثير . كان وجهيهما قد ملئته التجاعيد وكانت رؤية البؤس طاغية على ملامح وجهيهما رغم محاولة الإثنان بالتمسك بالصبر ومحاولة عدم إظهارها بوضوح من أجل التخفيف عن بعضهما البعض ولإرجاع بعض الفرح والبهجة الى حياتهما مجدداً .
بينما كان الزوجان جالسان يتذكران ويتعايشان مع تلك الأحاسيس الصعبة والمشاعر العصيبة التي مرت بهما على مضض . إذا بأحدٍ يطرق باب بيتهم ذهب الوزير ليرى من الطارق كان مساعد الملك الذي أهتدى على بيتهما بواسطة الشرطة . قدم مساعد الملك نفسه للوزير ووضح له طلب الملك وسبب حضوره في هذا اليوم .
تذكر معها الوزير موعد أنتهاء الحظ الأسود لديه وأبتداء حظه الأبيض كما أعلمه الغلام الأسود في البركة يوم ذهابه للصيد مع الملك . وتأكد من صحة كلام الغلام الأسود ثم أبتسم مع نفسه وضيف مساعد الملك وأعلم زوجته بالأمر الجديد ليدع رجوع الفرح والسعادة لحياتهما مجدداً من دون تصنع أو تمثيل .
رجع الوزير مع زوجته إلى بلدهما وبيتهما وحياتهما السابقة . ألتقى في اليوم الثاني بالملك الذي أبدى حزنه وأسفه لحكمه الجائر والغير مدروس عليه .
لكن الوزير ذكَّر الملك بيوم الصيد معه وسرد مجمل أحداث قصته لذلك اليوم للملك ، قصة البركة والغلامان اللذان كانا يمثلان حظه الأسود والأبيض وغلبة حظه الأسود على الأبيض وأستمرارها لمدة عشرون عام وقصة العقرب في يومها وأحقية حكم الملك لأنها هكذا ظهرت . ثم أعلمه بقصة سجنه في بلاد الغربة وكيف تحول رأس الغنم في يده الى رأس إنسان مذبوح حكم من أجلها عشرون عام . كان غرضه من سرد كل هذه الأحداث التي مرت عليه من يوم الصيد والى يوم رجوعه لبلده ووظيفته ليعلم الملك بالحقائق وليخفف لوم الملك لنفسه ويؤكد للجميع بأن ماجرى له هو قدره من الكون ، ولم يكن بمقدوره التحكم به . طلب بعدها موافقة الملك لمرافقته للبركة ليرى بنفسه ويتأكد من القصة بأكملها من أجل إرجاع الثقة الكاملة بينه وبين الملك . وافقه الملك وذهبا معاً لمكان بركة الماء .
رأى الملك والوزير يومها بأن الغالب في البركة هو الغلام الأبيض والذي نادى على الوزير وقال له أنا حظك الأبيض غلبت قبل يومين حظك الأسود ولا أدعه يغلبني بعد اليوم . أقشعر بدنهما لرؤية وسماع هكذا تصرف وكلام عجيب وغريب ! بعدها بارك وبشر الملك وزيره بإنتهاء أيامه السوداء وحظه العاثر .
لدى رجوعهم للقصر عينه الملك مجدداً ليكون وزيره الحكيم ومستشاره الذي لايستغني عنه أبداً وعوضه خسارة سنينه الطويلة . وقرار رجوع الوزير الحكيم لدفة حكم البلاد مع الملك العادل دعا السعادة والفرح تعمُّ أجواء المدينة بأكملها
الدكتورة ڤيان نجار
27/4/2020