فيروز هي الأغنية الّتي تنسى أن تكبر، هي الَّتي تجعل الصَّحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر، فيروز تشرق كل صباح، لتمنح أرواحنا زهر المحبّة وعطر الحنين. إنّها الطَّاقة الّتي تنقّي وتهذّب أرواحنا من أيّ تلوث، إلهة الجمال ورمز العشق والرومانسيّة، معها ومع شدوها نسافر إلى أماكن لم نسمع عنها أبدًا، إلى سماء السِّحر والشِّعر والموسيقا. هي حنجرة الياسمين في سماء ليلة حالمة بالهواء العليل، منذ الطّفولة دغدغت فينا الرُّوح. فيروز هي من أخذتني إلى النُّجوم، كلّ صباح أكون على موعد معها ، لتعيدني إلى الأرض، لكن الوقت لم يحُنْ بعد، فهي كالدُّماء تسري في شراييننا. فيروز يعني الحبّ، فيروز يعني الوطن، فيروز يعني المشاعر الإنسانيّة. تطلق نغماتها خارج نطاق الزَّمان والمكان، مع صوتها تفوح رائحة القهوة وعبق الياسمين وشموخ الأرز، من حنجرتها نستنشق سرّ العشق، فمع كلّ أغنية بوح بسرّ امرأة عاشقة قصدت العين لتعبّئ الجرّة، ومع صوتها يهطل المطر رذاذًا ويمنح حياتنا الخضرة، هل هناك من لا يعشق صوتها، أو لم يدمنها في صباحاته؟ هي ذاكرتنا وذكرياتنا. لكلّ منّا قصّة حبّ يحيا فيها مع فيروز، فيروز الدِّفء والحنان، فيروز يا طير الوروار، و يا مرسال المراسيل، فيروز كلّما هبّ الهوى، زهرة المدائن، وليالي الشِّمال الحزينة، ونحنا والقمر جيران، ولا تسألوني ما اسمه حبيبي. فيروز هي من أعادتنا لبقايا الإنسانيّة في داخلنا، يوم وحّدتنا على مدارج بعلبك، وجمعتنا مع يا مال الشَّام، هي من أخذتنا إلى شوارع القدس العتيقة، ومن ينسى شط اسكندريّة معها؟ هدهدتنا الطُّفولة بيارا الجدايلها شقر، وتركتنا بقهوة عالمفرق مع سنة عن سنة بتكبر محبّتها بقلوبنا. فيروز الطَّرب والإحساس العميق. ما أحوج مجتمعاتنا اليوم لفنّ السَّيِّدة فيروز، ليكون تربية وأسلوب حياة، ولينمّي فينا الذَّوق والحسّ السَّليم، ففنّها حاجة ملحّة لمجتمعاتنا الّتي بدأت تفقدَّت هويَّتها ووجودها وأحاسيسها، كيف إذا ترافقت مع الهرم الأدبيّ جبران خليل جبران، وأعطني النّايَ وغنِّ؟ عندما أفتح نافذة الذّكريات يأخذني الحنين إلى: أنا عندي حنين ما بعرف لمين، أتكوّر على نفسي، وأنصت بسمعي وقلبي إلى الصَّوت الدَّافئ الَّذي يصل الأرض بالسَّماء، كيف لا وهي "الرُّسولة بشعرها الطَّويل حتّى الينابيع" أنسي الحاج. كلّ الطرق تؤدّي إلى فيروز، وفيروز تؤدّي إلى الحبّ والفنّ والحياة والله. كيف يمكن أن يعيش إنسان دون هواء وماء وخبز. فيروز هوائي ومائي وخبزي، ولذلك لا أظمأ ولا أجوع . سئل نجيب محفوظ عن أمّ كلثوم، فقال: "هي نعمة الدُّنيا" فيروز هي أيضا نعمة الدُّنيا، وما عليّ إلّا أن أشكر الله والأقدار على أنّي عشتُ في عصر فيروز الَّتي غنّت عن الوطن والحبّ والجمال . الرَّسولة الّتي وهبت صوتها لي فأصبحت متخمة بالثَّراء الرُّوحيّ الَّذي لا يضاهيه ثراء. الرَّسولة الَّتي توقظني صباحًا، وتنيّمني ليلًا في مهد الطّفولة، فهي أمّي الّتي لم تلدني إلّا من روحها الّتي تفيض خصبًا وعطاءً . اسكتوا .. فيروز تغنّي .. تصلّي .. لا تعكّروا طقوسها وطقوسي. اسكتوا، فأنا أدمنتُ صوت الحقّ وصوت الحرّيّة . اسكتوا، أريدُ أن أسمعَ جبران وسعيد عقل والأخطل الصَّغير. أريد أن أسمع صوت الله .