للماضي العريق، لنغمات أصيلة وفنٍ راق نَحِنُ دائماً، ففيهِ تتجلى خصوصيةُ وتفردٌ للكثير من جوانب الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية، وللفن والتراث الكردي القديم خصوصية يُجلُّها ويقدرها الكثيرين؛ لأن أولئك الفنانين والعاملين في مجال الفن والأدب والثقافة آنذاك كانوا رسلاً وسفراء وأرشيفا حياً للفن الكردي الأصيل.
شفيق حميد عيشو "بافي رعد" قامة من قامات الفن الكردي الأصل، وبخاصة فيما يخص الغناء الذي كان يغنى للرقص وبعض المناسبات والنشاطات الاجتماعية والأعراس، شفيق من مواليد قرية كيستك في ريف قامشلو عام 1948م. انضم إلى حلقات التعليم الديني لعدة سنوات ثم إلى المدرسة الرسمية لعام فقط وضُمَّ للصف الرابع وقتذاك. متزوج وله خمس أولاد وابنتين، ويعمل عدد من أولاده في مجال الفن. وعرف من شبابه بعشقه وحبة للعزف على آلة ""الطنبور"" والغناء الفلكلوري، عاصر وصادق العديد من الفنانين الكرد الكبار. ولمعرفة المزيد عن الفنان القدير كان لنا معه هذا الحوار:
ـ للبدايات ذكريات لا تنسى وبخاصة بدايات الفن ماذا تحدثنا عنها؟
أرى نفسي مطرباً شعبياً، ولي الفخر بذلك، لم أدرس الموسيقى أكاديمياً، كانت بدايتي مع الفن في بداية الستينات، كنت أحب العزف وأتمنى تعلمه، كان المرحوم المعروف العازف والفنان الشعبي "حمو شر" صهر العائلة وممن يصنع آلات "الطنبور" في المنطقة ويبيعها، وكان في ضيافتنا ذات ليلة، وارسلني لرجل من الجيران كان قد باعه واحدا منها بمبلغ 17 ليرة، لأجلب ثمنها، وعندما امتنع الرجل عند سداد الثمن حملت "الطنبور" وأتيت به للمرحوم حمو شر، وعندما خرج للسهرة برفقة والدي بدأت بالعزف على "الطنبور" وعندما عاد وشاهد عزفي تعجب كثيراً، وأهداني "الطنبور"، وبعد ثلاثة أشهر كانت حفلة زفافي، وكان بعض الأقرباء يعرفون إنني أجيد العزف والغناء وألحوا عليَّ بالغناء ففعلت ونلت استحسانهم وثناءهم، فعزفت وغنيت أمام الناس في حفلة عرسي لأول مرة.
ـ من عاصرت وعاشرت من الفنانين والمطربين الرواد وكيف كان التأثير المتبادل بينكم؟
كانت بداية تعرفي كما أسلفت على الفنان "حمو شر" الذي كان يعزف أمامي لأتعلم منه وتعلمت. لكن؛ التأثير الكبير كان للمرحوم رائد الاغنية والعزف "يوسف جلبي" وكان فناناً بمعنى الكلمة، ويحفظ المئات من الأغنيات وآلاف العشرات منها، وكان يتميز بأسلوبه المتفرد في الغناء والعزف وبأصابع يديه، أيضا كان يميزه الأغنية النقدية التي كان ينتقد فيها التقاليد البالية كتقاليد الزواج بالإكراه ونبذ الفن والموسيقا من قبل البعض وغيرها، وكان سريع البديهة، مرحاً، وله أغنيات عدة اشتهرت كردستانياً؛ ومنها أغنيته المعروفة "هما ليخن خرفاني" وهي من أغاني الرقص ويعدد فيها القبائل والعشائر الكردية وما تتميز به كل عشيرة من صفات وخصال اجتماعية في طابع فلكلوري وفكاهي، رسخ الأغنية في أذهان الملايين من الكرد، كانت أصابعه تتكلم أذ يعزف!، كما إنني أذكر بدايات المطرب والفنان الراحل محمد شيخو وكان لي شرف احتضانه في البدايات، ولمحت فيه النبوغ والفراسة وكنت ممن شجعه على دراسة الموسيقى والغناء والتوسع فيها وفعلاً كان الخالد كذلك فقد كان عبقرياً ومميزاً وبخاصة بعد أن اختار الغناء من شعر العباقرة جكر خوين ويوسف برازي وغيرهما، وكان من أبرز تلاميذ "يوسف جلبي" الفنان الراحل المرحوم "حزني ابو عادل" الذي كان يكبرني بعدة سنوات وغنى قبلي وأبدع، وغنيت معه ومع الفنان سعيد كاباري أيضاَ. ولا أنسى يوم سمعت عبر الاذاعة أغنية "كليزار" بصوت الفنان الخالد محمد شيخو لأول مرة..
ـ هل استطعت أن توثق وتسجل اعمالاً خاصة بك، وما هي؟
للأسف عانيت من هذه المشكلة كثيراً، كنت من الأشخاص الملاحَقين من قبل أجهزة النظام الأمنية، رغم إنني لم أكن من النشطين في هذا المجال، وتعرضت للضرب أكثر من مرة وكانت نتيجة احدى المرات تمزق غشاء الطبل من الضرب، ولخوفي من ذلك كنت حريصاً على عدم الظهور علانية كثيراً، عملت مع بعض الفرق المحلية منذ البدايات ومنها "كوما بوطان" وكان لي الشرف بذلك، وأذكر العمل في المناسبات الوطنية كعيد نوروز كان المسرح وقتها "تريلا" نعمل عليها لنوصل صوتنا لكل محبي الوطن وعشاقه، كل ما استطعت عمله هو جمع أرشيف الغناء لبعض الفنانين، رغم انني درست وكتبت باللغة الكردية لم اتعمق بها، وكنت استطيع تأليف كلمات الأغاني، بل وفعلت لكن أول أغنية غنيتها من كلماتي كانت سبب خلافات عائلية كبيرة، وكانت هناك كلمات من شعراء عظام تفي بالغرض، كشخص استطعت أن أجمع بعض الأغنيات الشعبية في عدة البومات.
ـ ما قصتك مع صنع آلات "الطنبور" وصيانتها وهل ما زلت تعمل في ذلك؟
منذ أن تعلمت العزف كنت أحاول أن أعرف الكثير عن صناعة الآلات الموسيقية وبخاصة آلة "الطنبور" ذات الخصوصية في المنطقة، وكانت محاولاتي في الصناعة والتصليح ومن ثم الصيانة، وقرابتي مع الفنان وصانع الآلات "حمو شر" افادني في ذلك، صنعت العشرات من الآلات ولفنانين معروفين، وأدخلت بعض التحسينات في الصنع لزيادة المتانة والأداء، والآن أعمل في صيانة الآلات فقط لأن صناعتها تحتاج إلى تقنية وامكانات، أما الصيانة والتصليح فتتم بشكل يدوي، لكنني ما زلت امارس ذلك كهواية وللانتفاع منها مادياً لأنني كنت وما أزال أعتمد على ذاتي.
ـ كانت لكم مساهمة ومشاركة في "كوما بالا" ماذا تحدثنا عنها وعن الفرق التراثية ودورها؟
كانت "كوما بالا" خطوة جيدة من أجل الحفاظ على الغناء الكردي التراثي الأصيل، وعملنا لفترة بشكل ممتاز وانضم للفرقة عدد من الفنانين القديرين، ولكن للأسف بعض الخلافات الشخصية السطحية وقفت في وجه تقدم الفرقة وتواصلها مع الجماهير، مازلنا نعاني من بعض الأنانية التي تقضي في بعض الحالات على الروح الجماعية وروح الفريق، والظروف العامة التي نعيشها ككل يؤثر في العمل والفن والثقافة وكل نواحي الحياة، ولازلت اؤمن بأن عمل الفرق والعمل الجماعي هو الأقدر اليوم على الوصول للجمهور المحلي والعالمي، ويحتاج ذلك إلى دعم وتكاتف للجهود.
ـ أية فرص نملكها اليوم للحفاظ على تراثنا الفني والموسيقي وما السبل لذلك برأيكم؟
يمكننا ذلك بالعمل الجماعي وتظافر الجهود، وهناك إرث ثقافي وفني هائل لا ينضب، بإمكاننا أن نستمد منه الكثير الكثير، وهناك الكثير مما تركة لنا بعض الفنانين القديرين من أرشيف عظيم يحمل جوانب من فنهم العريق، وإن كنا قد أضعنا الكثير من ذلك الفن الراقي إلا اننا مازلنا نحتفظ بالكثير، وعلينا العمل لنقل هذا التراث للأجيال القادمة وبكل الامكانات المتاحة، بالتدريب والممارسة ورعاية المواهب والاهتمام بها، وتقديم كافة أشكال الدعم المادي والمعنوي لكل من يعمل في هذا المجال.
ـ هل من كلمة أخيرة ولمن توجهونها؟
الكلمة الأخيرة لكل من يقرأ هذه الكلمات؛ الفن جانب راقي في الحياة ورسالة وصوت داخلي ومناجاة ضمير، الفن جمال وللمفكر وللقائد أوجلان مقولة بمعنى "أن نكون جميلين سنكون محبوبين" والجمال جمال القول والفعل وبكل معانيه.
وتراثنا الكردي غني ومزدهر وكما كان الكرد من بناة الحضارة الانسانية كانوا وما زالوا من بناة الموروث الانساني الفني، ويجب أن نوصل هذا الفن للعالم أجمع، ليس من باب الغرور، بل من باب الحقيقة، لم نكن صغاراً ولم نكن نكرات في التاريخ، كنا وسنبقى كباراً وعظماء عبر تاريخ طويل في الثقافة والفن والموسيقى وكل ما يهم الانسانية.
حاوره / عبد الرحمن محمد

