اللقوه...
أحسنتَ ظنّكَ بالأيّامِ إذ حسنَتْ
ولم تخفْ سوءَ ما يأتي به القدرُ.
الإمام الشافعيّ
تهالكن كالعقبان الجريحة يصدرن قعقعة على تلك الأسرّة، يتكوّرنَ بعيداً عن أعين الأحبّة.
فاطمة تتأمّل حولها، وجوه متعبة، كلّ واحدة تجترّ أوجاعها، لا تبدي أيّ شكوى، فالكلّ على يقين أنّ الألم عادل في توزيع الحصص، فالخوف واحد، والألم واحد.
كنّ كقطيع خراف هاجمه ذئب مفترس على حين غفلة، وقد قضم من كلّ واحدة قطعة، وهو متربّص بهنّ، ومتأهّب للهجوم على أيّ منهنّ ليأتي عليها كليّاً.
على سريرين متوازيين تتأمّل فاطمة وجه هيفاء بحنان مشوب بالشفقة، تراقب السائل الذي يتقطّر ببطء شديد مـن
الكيس الشفاف يسري في الوريد محرقاً مساره دون رحمة، تتحمّله بصبر مرّ.
تحلم بالطيران في أعالي القمم، فقد كانت تعيش بعظمة، تحيط صغارها بالرعاية والاهتمام، لكن ما حلّ بها جعلها في حاجة إلى الرعاية.
بدأت فاطمة مع هيفاء رحلة المئة والخمسين يوماً كالنسر تماما عندما ينقر الصخر بمنقاره ومخالبه لتتساقط وحينما ينتهي من ذلك يمكث حتى تنمو له مخالب ومنقار من جديد، وفي أثناء ذلك يبدأ في نتف الريش القديم الواهن حتى يبدو عاريا تماما كالفرخ المولود للتوّ، فمن لا يتجدّد يتبدّد، وبعد مضي خمسة أشهر من هذه العملية الشاقة والصبورة يطير النسر مجدّدا.
عزيزتي.. بعد هذه العزلة سنتجدّد، ونستعيد ما فقدناه. ردّت هيفاء بكسل مشوب بالألم:
وهل لنا خيار آخر؟ أتمنّى أن تعودي معافاة إلى زوجك، حتماً هو مشتاق إليكِ.
قالت ذلك بطريقة لا تخلو من الحزن، وكأنّ هذا الكلام حرّك سكينا مغروسا في قلبها، تأوّهت بحرقة، فهو يتّصل بك كلّ يوم، ويطمئنك على أولادك، أما أنا .... عادت الشهقة أعمق.
تكورت هيفاء خجلة من نفسها، وكأنها متهمة بفعل مشين ومع كلّ حركة تتنهّد.
زوجها حين علم بمرضها هجرها متحجّجا بالفقر وضيق الحال، وقد تكفّل بها أخوها الذي لا يختلف وضعه عن وضع زوجها إلا بالمستوى الأخلاقي، وكانت هيفاء منهارة حتى التقت بفاطمة.
اسبوعاً كاملا قضت فاطمة في محاولة إقناع هيفاء لتتلقّى العلاج، فقوة الإرادة عند فاطمة تميزها، فهي محاربة بكلّ معنى الكلمة، متفائلة تبثّ الرسائل الإيجابية لكلّ من حولها.
منذ شهور وهما تسافران معاً من القامشلي متحديتين الموت المتوقّع ليس من السرطان فقط بل من هجوم مباغت لإحدى الفصائل.
ها هما تتلقيان الجرعة الأخيرة من العلاج الكيمائيّ بمستشفى البيروني، الاثنتان صدراهما مسطح من جهة وذو حجم من الجهة الأخرى، عقود ثلاثة منذ أن سجلتا على قيد الحياة، لكن عدوّ شرس تربّص بهما منذ سنة وقضم جهة من صدريهما، ومع ذلك ما تزال مسحة الجمال واضحة في محياهما.
جلستا على الكرسي الخلفيّ لسيارة الأجرة والسائق يستعجلهما.
الخوف أن تتكرّر الاشتباكات مجدّداً بين النظام وفصائل المعارضة، وكأنّ الخوف يترصّد حديثه، ليسمع دويّ قذيفة مجنونة مرّت من جانب سيارته، فسمح للوقود بالتدفّق بضغطة من رجله، وطارت السيارة باتجاه المطار، فالطريق عاصف بغبار الحرب، وشظايا القذائف تحاول قطع شريان الحياة ومنع مرضى السرطان من الوصول إلى ملاذهم في بداية أوتوستراد دمشق - حمص بحرستا.
كان الملاذ كقلعة صامدة رغم انتشار الدمار القريب منها، يستوعب المستشفى ستمئة مريض، وقد تخصّص بهذا المرض الذي بدأ يفتك بالناس دون تمييز.
استغرب السائق من الصمت المريب الذي ساد داخل السيارة بعد الصراخ والعويل، التفت إليهما فإذا بإحداهنّ قد وضعت رأسها المضرج بالدماء على فخذ الأخرى، والصدمة أخرستهما.
الصاحية تحدّق بالدماء وقد تجمد فيها كلّ شيء إلا تلك القطرات التي تنساب على خدودها دون أن يعيقها أيّ شيء.