الشّمعة العاشرة: الفنّانة عيششان
أنين الغناء الكرديّ
1938-1996 م
الشّمعة العاشرة: الفنّانة عيششان
أنين الغناء الكرديّ
1938-1996 م
1 قراءة دقيقة
نارين عمرتواعدت عيششان ومنذ اللّحظات الأولى من تشّكلها كجنين في رحم أمّها مع القدر الذي لازمها كطيفها، ولكنّه كان ظلاً ثقيلَ الظّل، بخيلَ العطاء، هوائيَ المزاج عليها، لذلك تماوجت حياتها في شتى تيّارات الألوان، ومع الأسف الألوان المبهمة القاتمة ظلّت هي المسيطرة عليها منذ السّاعاتِ الأولى من ولادتها وحتى الثّواني الأخيرة من تلك الحياة. ولدت في آمد في عام 1938م، وتعود جذور الأسرة إلى مدينة أرزروم، وكما أنّ ألوان حياتها قد تعدّدت وكثرت فكذلك ألقابها وأسماءها فكانت تسمّى: عيشه شان، عيشه خان، عيشانا عثمان، ،عيشانا علي عيشانا كرد، وعيشة، ولكن غلب عليها فيما بعد اسم "عيششان" واشتهرت به في الوسط الكرديّ ككلّ. نشأت في أسرة متديّنة، محافظة لذلك قوبلَت رغبتها في الغناء بالرّفض القاطع من جميع أفراد الأسرة على الرّغم من أن هذه الأسرة تعقدُ مجالس غناء وإنشاد يجتمعُ فيها أشهرُ مطربي ومغنّي مدينتها والمدن والقرى المجاورةِ لها، وعلى الرّغم من امتلاكِ والدها لصوتٍ عذب وأدائه لمختلف أنواع الغناء لكنّ الكاتب الكردي سيامند ابراهيم أرشدني إلى السّيّد العم ملا علي داري الذي كان أحد رفاق طفولتها وبالفعل اتصلت به وسألته عن عيششان فأجابني برحابةِ صدر أنّ : اسمها الحقيقيّ هو "نجمة" وأنّها ولدت في بلدة "داري" التّابعة لماردين وأنّ والدها هو محمد عليكو، ولمّا سألته إن كان مغنيّاً أو كان يعقد مجالس الغناء في بيته أكّدَ لي أنّه لم يسمع أنّ والدها يغنّي أو يعقد مثل تلك المجالس، ولما سألته: ربّما كان يفعل ذلك فيما بعد؟! أجابَ: ربّما لأنّنا افترقنا عن بعضنا البعض فيما بعد. وأكّد ملا علي على أنّه وعيششان كانا يدرسان في مدرسة واحدة هي"مكتبة داري" باللغة التّركية السّنوات الثّلاث الأولى من دراستهما حوالي العام/1942-1943/ وحينما سألته عن عام ولادتها هل هو /1938/ قال ربّما يكون هذا العام صحيحاً لأنّني من مواليد 1930 وكنتُ أكبرها بعدّة سنوات . عيششان كانت قد غنّت علناً لأوّل مرّة في عام 1958 كانت صغيرة جدّاْ حينما تزوّجت من "شوكت توران" نزولاً عند رغبة والدها، ولكنّها لم تستطع الاستمرار معه لأنّه كان متزوّجاً، ويكبرها بالعمر كثيراً، فانفصلت عنه على الرّغم من إنجابها ابنتها التي لم تكن حينها قد تجاوزت الثّلاثة أشهرٍ، فاضطرت للذهابِ إلى عنتاب وبمساعدة شخص كان يُدعى"نايل بايسو" غنّت باللغة.التّركية في إذاعة المنطقة لمدة سنتين، ثمّ انتقلت إلى استانبول وفيها بدأت الغناء باللغة الكرديّة إلى جانب التّركية، فكان صوتها فألَ خيرٍ على منتجي ومصدّري وموزّعي أغانيها وأشرطتها الغنائيّة، وعلى الرّغم من كلّ ذلك فإنّهم كانوا ينكرون عليها حقّها، ولا يمنحونها إلا ما يسدّ حاجتها اليوميّة لذلك عاشتِ الفقر والعوَز ، ويُذجر أنّها عانت كثيراً من الأنظمة التّركيّة المتعاقبة لأنّها تجرّأت، وغنّت بلغتها الكرديّة التي كانت ممنوعة تماماً من التّداول حينذاك، وبسبب المضايقات المتكرّرة لها اضطرت في عام 1972 للهجرة إلى ألمانيا لتعيش مع ابنتها ولكنّ القدر الذي يلازمها حتى في أحلامها طعنها في الصّميم هذه المرّة، طعنها طعنة فتّاكة اخترقتِ القلبَ والرّوحَ معاً حين قرّر أن يتسلّلَ إلى محراب حياة ابنتها التي كانت تلهو مع أزاهيرها الرّبيعية، ويختلسَ منها الرّوح، ولتظلّ عيششان المفجعة بشبابها مفجوعة على شباب ابنته ولتعيش بجسد فاقد للرّوح فقرّرَ ت الرّحيل من ألمانيا والعودة إلى ديارها. في عام 1978 يسمحُ لها القدر بتحقيق حلم كان قد ترعرعَ معها منذ طفولتها وتزورَ كردستان الجنوبيّة، وهناك تُستقبل من قِبل الجميع استقبالاً لائقاً بها، وتلتقي بكبار فنّاني الكرد هناك أمثال "محمد عارف، عيسى برواري، نسرين شيروان، گلبهار، تحسين طه... وغيرهم" وأقامت فيها عدّة حفلات لاقتِ الاستحسانَ والتّرحيب، كما سجّلت بعض أغانيها في إذاعة بغداد القسم الكردي، و أكّدت لها هذه الزّيارة على أنّ تضحياتها في سبيل إعلاء شأن الغناء الكرديّ لم تذهب سُدى، وعلى أنّها دخلت إلى قلوب الكرد بسلاسة وعفوية. منذ ذلك التّاريخ وحتى بداية تسعينيّات القرن العشرين بدت عيششان شبه معتزلة للغناء ومعتزلة للحياة الاجتماعيّةِ كذلك، ولكنّها ومنذ هذا التّاريخ بدأت بأداءِ أجمل الأغاني والأناشيد وخاصة القوميّةِ منها، وآخر ظهور فنّيّ لها كان في عام 1992 م في مدينة أزمير خلال الحفلة التي نظّمها مركز الثّقافة والفنون فيها لم يمهلها القدؤ هذه المرّة وأومأ إليها أن تعتزل الحياة الدّنيوية وإلى الأبد، وليكون تاريخ 18-12-1996 م في أحد مشافي أزمير شاهداً على رحيل هادئٍ ويتيم لفنّانةٍ كردية تحدّت المجتمع بكلّ أعرافه وعاداته وتقاليده الجبّارة . أغاني عيشانا علي: لعلّ ما يميّز هذه المطربة الفنّانة من غيرها هو تنوّعها الغنائي الثّريّ بكلّ الألوان والمقامات والمواضيع المختلفة. فكانت حنجرتها الملائكيّة تشدو بالغناءِ الفلكلوريّ الكرديّ بمختلفِ أغصانه وفروعه، وبالغناء الاجتماعيّ والوجدانيّ والعاطفيّ والقوميّ. غنّت عيششان لكلّ البشر وعلى مختلفِ شرائحهم وطبقاتهم، غنّت للمرأة وعن المرأة، ترجمت معاناتها خير ترجمةٍ، كشفتِ السّتارَ عن مكامنها الدّاخلية والسّرية كذلك غنّت للقدر الذي كان ربيب صحوتها ومنامها، غنّت للرّجل الذي تخيّلت فيه الحبّ والدّفء والأمان، غنّت للعائلة لابن العمّ وللابنةِ وللأمّ التي بلغتْ في أدائها لها ذروة عاطفتها وهيجان وجدانها كيف لا وهي المفجوعة بأمّها التي حُرمتْ منها طوال عمرها. غنّت للوطن والأرض. تغزّلت بطبيعة كردستان التي كان لها الأثرُ الأكبرُ في إبداعها. غنّت للفقيرِ والرّاعي والفلاح لتبدع مع الفنّان الكردي /بيتو جان/ ثنائياً غنائياً عن الرّاعي والحلابة (şivan û Bêrîvan). غنّت للغريبِ والحزين والبائس والعاشق والسّعيد. وأجمل ما أبدعت فيه هو أداؤها لأغاني التّراث التي حفظتها حتى أتقنتها كلّ الإتقان من المغنّين الذين كانوا يجتمعون في مجلس والدها باستمرارٍ فكانت تستمع إليهم من وراءِ باب المجلس حتى السّاعاتِ الأولى من فجر اليوم التّالي. تخيّلت نفسها غزالاً فغنّت للغزال ، وكوجريّة فغنّت للكوجر، وسهرت الليالي بطولها وعرضها وهي تتقمّصُ غنجَ "زيني" ورقتها في محرابِ "مم" فغنّت لهما بعشقٍ وصدق. عيششان تحدّت زمنها وعصرها وناسها لتكون هي "القربان الوفيّ" في سبيل فكّّ الأغلال والقيود الدّاخليّة المحاصرة للمرأةِ من كلّ الجهاتِ. ضحّتْ بهدوئها الأسريّ والاجتماعيّ ليسير الغناء الكرديّ في دروب الصّحة والسّلامة. ولكنّها عاشتْ وحيدة، وماتت وحيدة.نارين عمر