كلّما نبشنا في تاريخ الفنّ الكرديّ أكثر تعرّفنا إلى المزيد من الفنّانين والفنّانات الذين خدموا الفنّ الكرديّ، وساهموا في إحياء التّراث الكرديّ من خلال تأسيسهم لفنّ كرديّ دخل كتابَ الدّيمومة بمداد الخلود والأبدية، ولكنّهم وللأسفِ الشّديد لم ينالوا جزاء جهودهم هذه إلا الإهمال واللامبالاة، وانتهوا نهايات أقلّ ما يُقال عنها إنّها تعيسة ومأساويّة، وعند معرفتنا بفنّانة هذه الحلقة سنشعر بأسف وندم شديدين على ما تعرّضت إليه وهي "الفنّانة ألماس خان".
حياتها الاجتماعيّة:
هي ألماس محمد، والدتها آسيا، ولدت في عام 1894 في قرية "خاركولي "Xargulê "
، عاشت أسرتها في "جزيرة بوطان"، وهي ابنة عمّ الفنّانة "مريم خان"، ويقال هي عمتها، وكانت تكبرها بعشر سنوات.
في بدايةِ القرن العشرين وأثناء نشوب الحرب العالميّة الأولى هاجرت أسرة ألماس خان إلى كردستان الجنوبيّة وسكنت زاخو.
ألماس خان كانت تملك صوتاً جميلاً لذلك قرّرت الدّخول إلى عالم الفنّ على الرّغم من القيود القاسية على المرأة حينذاك، فتوجّهت إلى مدينة الموصل وسجلّت أشرطة غنائية، ثمّ توجّهت إلى بغداد وهناك أسّست لمرحلة جديدة من عمر الغناء الكرديّ ومرحلة جديدة لعمرها المديد .
تتعرّف في بغداد إلى دبلوماسيّ انكليزيّ، فتتنشأ بينهما علاقة حبّ تُكلّل بالزّواج ولكنّها تنتهي بالطّلاق بعدما ينهي زوجها مهمّته في العراق، ويقرّر العودة إلى وطنه بريطانيا وإلى أهله وأحبته، ويطلب إلى ألماس أن ترافقه إلى وطنه لكنّها ترفض العودة معه، وترفض ترك وطنها وأهلها، وتطالبه بالطّلاق، فيحترم الزّوج قرارها، ويترك لها كلّ ما يملك من ذهب وفضّة وأموال ويعود إلى وطنه.
تشتري بهذه الأموال بيتاً كبيراً تحوّله إلى مركز ومحجّ يؤمه أهل الفنّ والغناء والثقافة والأدب من الرّجال والنّساء حتى يعتادَ النّاس على ذلك المنزل فيلجونه وكأنّه بيت الفنانين والمثقفين، ومن أبرز الشّخصيات التي كانت تؤمه "طاهرتوفيق، محمد عارف جزيري، حسن جزيري، مريم خان، نسرين شيروان، فوزية محمد، علي مردان، رسول كردي، جميل بشير، وغيرهم الكثير، لتفتح من خلال ذلك أبواباً واسعة أمامهم، ويصبح كلّ منهم علماً من أعلام الكرد المعروفين.
خلال تلك الفترة وبعدها كان القسم الكرديّ في إذاعة بغداد يلعب دوراً كبيراً في جذب الفنّانين والشّعراء الكرد إليه، وفي عام 1945 تقدّمُ برنامجاً خاصّاً بها في الإذاعة ما يشجّع الفنّانين على المجيء إليه، وتسجيل أغانيهم في استوديوهاته .
بعد طلاقها من زوجها الانكليزيّ بفترة يُقال إنّها تزوّجت برجل آخر اسمه "حاجي عبد اسماعيلي".
استفادت من ذاكرتها القوّيّة المحتفظة بعشرات الأغاني التّراثية والشّعبيّة، وقدّمتها بسخاء إلى هؤلاء الفنّانين والفنّانات ومن أبرز هذه الأغاني :
(Qumrîkê, Lê lê Êmo, Xiftano û Dotmamê, hey Nêrgiz, Rihana min, hatim Besta Belekê,Gulşênî û lê lê Kinê).
ويُقال إنّه يعود إليها الفضل الكبير في الحفاظِ على العديد من الأغاني والمقامات الكرديّة الفلكلوريّة والشّعبيّة، وإليها يعود الفضل الأكبر في إظهار العشرات من المغنين والمغنيّات الكرد الذين صدحوا بهذه الأغاني وبأسلوبٍ حديثٍ وعصريّ، وأذيعتْ من القسم الكرديّ في إذاعة بغداد وقتئذ .
اعتزلت ألماس خان الغناء في عام 1957م وكانت بلغت /63/عاماً من عمرها وعلى الرّغم من ذلك ظلّت وفيّة للفنّ الكرديّ ولكلّ الوافدين إلى حجرتها العامرة، تمدّ إليهم يد العون والمساعدة مع النّصح والإرشادِ ليجتازوا المرحلة الأولى من حياتهم الفنيّة.
نهايتها ورحيلها:
مع الأسف على الرّغم من كلّ ما قدّمته هذه الإنسانة والفنّانة للآخرين إلا أنّ نهايتها كانت مأساوية، فبعد أن شاخت وحفرت الأعوام أخاديدها في ملامحها الأنثويّة الجميلة والباسمة أبداً هجرها الخلان والأصحاب إلا قلّة قليلة منهم، وظلّت تعيش في هواجس الوحدةِ والعزلةِ وانعدامِ الوفاءِ والإخلاص من أولئك الذين أحسنتْ إليهم، وهي تنظر إلى منزلها الذي كان يعجّ حتى الأمس القريب بعشرات المؤنسين والسّاهرين والهاوين.
توفيت ألماس في وحدتها والألم والحسرة يحاصرانها من كلّ الجهات في كانون الثّاني من عام/1974م، ودُفنت في بغداد .
نارين عمر