مريم خان تلك المرأة الجبّارة التي تحدّت الأعراف والعادات والقوانين التي تكبّل كينونة المرأة وكيانها وشغاف عواطفها ولدتْ في
" Dêregola Botanê, Bakurê Kurdistanê"في عام 1904، وقد أكّدَ الفنّان الكرديّ سعيد يوسف أنّها كانت جارية لدى عائلة "علي رمو" رؤساء "عشيرة "جيلكي علي رمو" و"عشائر هفيركا"، ويأتي تأكيد الفنّان سعيد استناداً إلى ما أخبرته به السّيّدة والدته، وقد غنّت مريم خان أغنية "محمد سليم" ترثي فيها عائلة علي رمو بوفاته، وتنتحب على ما حلّ به وبالعائلة ثمّ ونتيجة ظروفٍ قاسية اضطرت لمغادرةِ موطنها وتوجّهتْ نحو دمشق الشّام.
تؤكّد بعض المصادر على أنّها حين غادرت موطنها إلى دمشق تعرّفت إلى أمير من عائلة بدرخان اسمه محمد، ونشأت بينهما قصّة حبّ عميقة تكلّلت بالزّواج أخيراً، ما جعلها تشعر أنّها إحدى أسعد نساء الكون، ولكنّ قصّة حبّهما لم تدم إلا لأشهر وانتهت بالطّلاق نتيجة رفض العائلة زواج محمد من مغنية، فاشترط عليها زوجها وتحت ضغط أهله أن تترك الغناء لكنّها رفضت، وهذا الطّلاق هو الذي سيغيّر مجرى حياتها تماماً نحو الأسوأ. تفنّد مصادر أخرى هذا الخبر، كما تفنّد أنّها كانت جارية عند عائلة علي رمو، بل كانت سيّدة من سيّدات عائلتها حينئذ وعلى أنّ رثاءها لهذه العائلة ولمحمد سليم كان من باب القرابة والمعرفة.
نتيجة لهذه الأسباب وغيرها تركت الشّام وتوجّهت مدينة ديريك وعاشت فترة في قرية عين دير التّابعة لها، ثمّ توجّهت نحو العراق، فسكنت العاصمة بغداد عند بنت عمّها المطربة المشهورة حينذاك "ألماس خان" والبعض يقول إنّ ألماس عمّتها، وخلال تلك الفترةِ كان القسم الكرديّ في إذاعة بغداد قد افتتح، فشاركت فيه بجدّ ومثابرة حتى صارت فيما بعد رئيسة للقسم، ونالت شهرة واسعة فاقت كلّ التّوقّعات، وصار لها الرّأي السّديد والكلام المسموع.
حقّقت مريم خان خلال الفترة القصيرة من عمرها القصير نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة حتى صارت بحقّ وجدارة سيّدة الغناء الكرديّ وما تزال، فلم تستطع حتى الآن أيّة مطربة كرديّة أن تفعل ما فعلته هي؛ ويُذكر أنّها أوّل امرأة استطاعت أن تسجّل أغانيها على Qewanan" ê" بالّلهجة الكرمانجيّة على
ويُذكر أنّ ابنة عمّها الفنّانة "ألماس خان" ساعدتها في مسيرتها الفنيّة وفي تقديمها للقسم الكرديّ بإذاعة بغداد.
أغاني مريم خان:
إذا ما أخذنا بالرّأي القائل أنّها تزوّجت من أمير بدرخانيّ، وانتهت مسيرة زواجهما القصيرة بالفشل والإخفاقِ، ثمّ هجرتها وفرارها من موطنها إلى ديارِ الغربة وقساوة الظّروف وتقلّبات الزّمن والزّمان، إذا أخذنا بكلّ هذا أدركنا مدى المعاناة التي كانت تطغى على هذه المرأة كإنسان من لحم ودم، وكفنّانة مفعمة بالأحاسيس والمشاعر الصّادقة والرّقيقة.
أغاني مريم خان ذات طابع قوميّ واجتماعيّ وفكريّ ووجدانيّ، فغنّت للوطن والأرض والعشق، وغنّت للمرأة ومن أجل المرأة لأنّها كانت تعرف أكثر من غيرها حجم المعاناة التي تحاصر كلّ امرأة وأرّخت في أغانيها لحروب ومعارك بين الكرد وأعدائهم وبين الكرد والكرد نفسهم بدافع العشيرة والقبيلة كما أرّخت لشخصيات كردية ساهمت في صنع التّاريخ الكرديّ الحديث من رجال دين وقادة ووجهاء ورؤساء عشائر وفرسان وعشّاق ومغرمين .
ظلّ الحزن الذي رافقها كظلّها يطاردها باستمرار في صحوتها ومنامها على الرّغم من كلّ ما كانت تبديه من قوّة وإرادة صلبة، أهّلتها تنافس أمهر فنّاني الكرد في ذلك الوقت، فليس سهلاً على امرأة عاشت في أربعينيّات القرن العشرين حيث المرأة كانت حبيسة الجدران الأربعة وحيث الرّجل يسيطر على كلّ ما هو داخل هذه الجدران وخارجها استطاعت أن تصبح رئيسة القسم الكرديّ في إذاعة بغداد، وقبل ذلك تمارس الفنّ الذي لم تكن ممارسته حظراً على النّساء فقط بل حتى على الرّجال أيضاً، وبذلك تكون من النّساء الأوائل في العالم اللاتي تحدين المجتمع بكلّ قوانينه ومفاهيمه الصّارمة في العصر الحديث.
نهايتها ورحيلها:
مع الأسف يبدو أنّ روحها المفعمة بالحبّ الصّادق والولع الشّديد للعشق والعشّاق وقلبها المغلّف بصدق المشاعر والأحاسيس الرّقيقةِ عجزا عن مقاومة الظّروف التي كانت أقوى وأكثر شراسة ما سمحت للمرض كي يتسلّل إليهما بشراسة وعنف ويعلن نهايتها المبكرة جدّاً ورحيل جسدها الطّري في عام 1949م ولكن دون أن يتمكن من التّسلّل إلى حنجرتها الذّهبية التي ما تزال تصدح بأعذب الأنغام والألحان.
ويبقى السّؤال الذي لابدّ من أن نطرحه:
هناك إجحاف بحقّ هذه المبدعة ومثيلاتها الّلواتي ضحّين بشبابهنّ وسمعتهنّ وعلاقاتهنّ الاجتماعيّة في سبيل خدمة الفنّ الكرديّ وتطويره والحفاظِ عليه من الضّياعِ والتّشتّت فعلى مَنْ تقع مسؤوليّة هذا الإجحاف؟ وما واجب الفنّانين والفنّانات الكرد الشّباب تجاه أساتذتهم الكبار؟ والمؤسّسات والفرق الموسيقيّة والفنيّة الكرديّة ماذا عليها أن تفعل؟ والفضائيّات الكرديّة التي يزداد عددها عاماً إثر عام ما عساها تفعل لهؤلاء العمالقة؟