كنتُ أشرت في الحلقة الخاصة بالفنّانة كلبهار إلى أنّ الفنّانة فوزية محمد التي ذاع صيتها لفترةٍ طويلة في عالم الغناء الكرديّ هي شقيقة كلبهار استناداً إلى ما أورده الكاتب فريدون هرمزي* في إحدى مقالاته: (......وهي أنّ الفنّانة الرّاحلة فوزية محمد التي ظهرت على السّاحة الغنائية الكردية أواسط القرن الماضي مع عدد آخر من المطربات مثل نسرين شيروان وعائشة شان والماس هي أخت كلبهار، لكنّها اعتزلت الغناء بعد زواجها وطواها النّسيان حتى عندما توفيت عام 1992 لم يعرف بموتها أحد خارج العائلة والأقرباء.. ولم تشر وسائل الإعلام إلى رحيل تلك الفنّانة)).
وبعد نشري لتلك الحلقة وردتني رسائل عدّة ولكنّ أبرزها كانت تلك التي وردتني من الأخ الأستاذ طارق الباشا عمادي المقيم في لندن حول هذه الفنّانة وأختها فوزية، وقد أحببتُ أن أستعينَ ببعض فقرات وردت فيها لتكون خير شاهدٍ على الفنّانة فوزية وأختها كلبهار اللتين لقيتا مع أسرتهما الكثير, الكثير مع تقديم الشّكر والامتنان سلفاً إليه وإلى كلّ الأخوة والأخوات القرّاء والمهتمين الذين يرفدونني بكلّ ما يمتلكونه من معلوماتٍ حول فنّاناتنا الكرديات.
يقول الأستاذ طارق الباشا:
((.....وهنا لابدّ أن أذكر لك بعض الجوانب من حياة كول بهار وذلك حسب معلومات سمعتها من أجيال أكبر منّي سنّاً، فهي وأختها فوزية محمد من عائلة مهاجرة من تركيا إلى ئاميدي في بداية القرن العشرين وسكنت ئاميدي التي كانت عاصمة إمارة بهدينان ( ئاميدي ))، وهذه الهجرة زادت بعد سقوط الإمارة سنة 1843م، ولم تكن هناك أيّة سلطة في المنطقة، بل سلطة الأغوات وأصحاب الملكية الكبيرة التي كانت سائدة بأفكارها المتخلفة المتزمتة والمعرقلة لكلّ محاولةٍ نحو التّجديد والإبداع، وبرزت محاولات لكسر هذا الطّوق, ولربّما كول بهار وأختها فوزية كانتا الرّائدتان في هذا المجال حيث هويتا الغناء وكان لهما صوتٌ رخيم، فأرادتا أن يستغلانها في مجالس النّساء وفي الأعراس والمناسبات التي كان يحييها أهل المدينة، لكنّ بعض العقول المتخلّفة من المتنفذين من أهل المدينة لم تسمح لهاتين الفتاتين من ممارسة هوايتهما وإدخال السّرور والفرحة إلى قلوب أهل المدينة وخاصة النّساء منهم وزاد الّلغط وأثيرت الشّائعات ما اضطر الأهل إلى إرجاع الفتاتين إلى مدينتهم في تركيا التي هاجروا منها أصلا , وهكذا حرمت المدينة من هاتين الفتاتين الرّائعتين، ولو كانتا لقيتا الرّعاية والتّشجيع من أهليهما أو من بعض أهل المدينة لأصبحتا نجمتين في سماء الغناء يكتب لهما بالبنان، ولكنّهما لم تتوقفا عند هذا الحدّ بل عاودتا الكرّة، لتهاجرا مرّة أخرى ولكن ليس إلى مدينتيهما ئاميدي بل إلى بغداد ولتحققا طموحهما في أرض غير أرضهما و بلغة غير لغتهما، ولربّما وجدتا بعضاً من الحرّية لتنطلقا نحو حياةٍ جديدةٍ، ولتحقّقا طموحهما في مجال هوايتهما المفضّلة وهي الفنّ بأشكاله المختلفة ومنها الغناء . بقيت عائلتهما في ئاميدىوبرز منها مناضلون في الحركة اليسارية في الخمسينات من القرن الماضي، وليتصدوا للأفكار البالية التي عانى منها عائلتهم وما حصل لها من تشتّت ودمار إلى أن وافاهم الأّجل في السّنوات الأخيرة .
ثمّ يضيفُ الأستاذ طارق قائلاً:
(.....حيث يظهر أنّ الفنّانة وكثيرين مثلها لا يزالون تحت تأثير الأفكار والمفاهيم البالية, فهي لن تفصح عن نفسها ومعاناتها ولم تتكلّم عن تجربتها بسلبياتها وإيجابياتها للآخرين، ولا عن أهلها وبدايات حياتها حيث تحاول أن تتجاوزها وذلك لفقدان الجرأة و الصّراحة ومثلها مثل معظم أفراد مجتمعنا الذين لا يحاولون أن يجعلوا تجربتهم في متناول الآخرين ليستفيدوا منها نحو الأحسن وكما هو متبع في المجتمعات الأخرى والتي سبقتنا بخطوات في مضمار الحضارة والتّقدّم .....)).
ممّا سبق نستطيعُ أن نؤكّد على أنّ الأستاذ طارق لخّص تجربة كلبهار وفوزية في معظم فنّاناتنا الرّائدات الّلواتي تحدّين المجتمع بكلّ أعرافه ومعتقداته ليساهمن في تغيير النّظرةِ الدّونيّة التي ينظرُ بها المجتمع الكرديّ بمختلفِ شرائحه وانتماءاته إلى المرأة عموماً والمرأة الفنّانة على وجه الخصوص على الرّغم من بعض التّغييرات التي حدثت وتحدثُ في السّنوات الأخيرة نتيجة التّطوّرات والأحداث التي يشهدها العالمُ بكلّيته.
تنتمي فوزية محمد إلى الجيل الذي ظهرَ فيه عمالقة الغناء الكرديّ من الفنّاناتِ والفنّانين، ولامتلاكها ملكة الصّوت والأداء فقد برزت كإحدى أفضل فنّاناتِ جيلها، وأنعشَ صوتها الجماهير الكرديّة لسنواتٍ عديدة على الرّغم من أنّها اعتزلت الغناء نهائيّاً وابتعدت عن عالم الغناء والمغنين بعد أن تزوّجت وكوّنت عائلة, وهذا ما تؤكّده شقيقتها كلبهار في ردّها على سؤالٍ موجّه إليها في حوار أجري معها ونُشِرَ على موقع "آفستا كرد":
((ابتعدت فوزية عن ساحة الغناء لأنّها تزوّجت من تاجر عراقيّ، فاعتزلت الغناء بعد أن أصبحت مسؤولة عن بيت وأولاد، ثمّ تضيف قائلة: إنّ ابنتها غزوة الخالدي تابعت مسيرة والدتها وأصبحت فنّانة...).
مهما يكن من أمر فإنّ الفنّانة فوزية محمد كغيرها من الفنّانات الكرديات الرّائدات عانت الكثير إلى أن تمكّنت من شقّ طريق لها في عالم الغناء والفنّ، ولكنّها لم تلق الاهتمام الكافي بها وربّما لهذا السّبب ولغيره من الأسباب آثرت الاستقرار العائلي لتنأى بنفسها وعائلتها عن متاعب هذا الطّريق الشّاق وغير المستقرّ، ولكنّ السّؤال الملحّ هو:
على الرّغم من اعتزالها الفنّ ومغادرتها عالم الفنّ والغناء، لماذا لم يهتمّ أحدٌ بها فيما بعد؟ ولماذا لم يعلم بأمر موتها إلا بعض الأهل والأقارب؟ ولماذا لم تشر وسائل الإعلام إليها ولو بعبارات وجيزة؟
أما آن الأوان للمؤسّسات والجهات والمنابر والفضائيّات الكرديّة الرّسمية وغير الرّسمية الالتفات إلى هذه الفنّانات وتعريف الجماهير الكرديّة الفتيّة بهنّ من خلال ندوات وبرامج ومهرجانات تخصّص لهنّ؟ ربّما نجد هذا الحلم يتحقّقُ في المستقبل القريب، وإن لم يكن فليتحقّق للأجيال التي ستخلفنا.