1 قراءة دقيقة
الرسالة التاسعة عشر   ((   ١٩   ))

عزيزي ساندريللو كنت قلقة جدا عليك في الآونة الأخيرة حتى وصلتني رسالتك التي تخبرني بها عن تفاؤلك باطلاق سراحك قريبا ..نعم نعلم كلانا أن الصوت قد يكون طلقات من ريش أبيض تتفتح كما براعم زهور بيضاء في فضاء الحرية لتغزو السماء بآلاف من الطيور البيضاء تحلق كوشاح أمان وسلام ..لا تريد أكثر من هذا ...وهل هنالك من لم يرغب بهذا ؟ ...عزيزي اعتبروك بوقا قاذفا للهب في حين أنك لم تكن إلا داعي سلام ووعي وتنوير ...حين يكمم  الفم  يا ساندريللو من السذاجة أن تعتقد أنه بمجرد إزالة الكمامة سينطلق الصوت ، ستفاجئ بأن الشفاه قد خيطت بخيوط الخوف وأن الإبرة التي أخاطتها لا تزال موجودة مع الخيط على طرف الشفة ..لا  هي لم تقطع ...لا تحملق بعينيك تعجبا ...لم يقطعوه ذاك الخيط ...لا ...خيط الرعب ذاك ما قطعوه ، كأنهم أرادوا به صلة وجود حياتهم هم ،كما لو كان حبل السرة الذي يتغذى منه الجنين ..هم يتغذون على رعبنا وصمتنا وخوفنا .ساندريللو هل تساءلت يوما عن الفرق مابين البوق الناطق الحامل للصوت وما بين الصافرة ؟ الحامل والقابض واحد هو الفاه ...لكن ؟ تساءل عن الفرق .. تساءل معي ياعزيزي ..كثيرا ما كان يضحكني شكل الصافرة في طفولتي... كنت أشاهد تلك الكرة الصغيرة كيف تدور بداخلها أثناء التصفير... أنفاس تنفخ في ذاك الفراغ الصغير فتدور الكرة ويرتفع صوت الصفير..أنفاس وكرة... وصفير... وينتبه العالم كله... تكون اليقظة... والإستغراب... والترقب.. والتحفزوالآن... تتدافع الأنفاس وهي تزفر وتنفخ... والكرة... ؟ ماذا عن الكرة؟ في أي الملاعب تدور؟ بل في أي الفراغات؟... تلهث أنفاسنا لندفع بها؟ ليس هنالك من كوة فراغ صغيرة.... بل هو عالم بأكمله....!! أتراه هو السبب؟ لا صوت... رغم كل الحناجر لا صوت... رغم كل الأنفاس... لا حياة. والكرة..... ماتزال... تهرول.....صافرة تنبيه كان يستخدمها الحراس الليليون للمطاردة ...أذكر هذا في طفولتي ..أذكره تماما ...مثلما كنت أذكر مسلسل حكايا الليل ...بذاك الشرطي وصديقه الزبال جامع القمامة ...كانت الشرطة حينها في خدمة الشعب كنت أرى هذا من تآلف هذان الإثنان ومودتهما بعيدا عن السلطوية  ، كنت أجده في تلك العلاقة الطيبة مابين السلطة العليا وقاع المجتمع ...تماه بعيد عن الإرهاب .....حكايا ....إصغاء ...صوت وإصغاء ...الآن لا صوت ولا إصغاء ...عزيزي ...علينا أن نفهم أن القواميس ستختزل كلماتها ، إذ أن الكثير من الكلمات ماعاد لها من جدوى في هذا العصر ، رغم أنها مطلب حياتي مشروع وحق إنسان على الأقل يستطيع الإنسان ممارسة قراءته وفهم معناه ، وهذا أضعف الإيمان .ماذا عن الأجيال القادمة ؟ ماذا عن الناشئة ؟ هل ستمر أمامهم كلمات إن اضطروا لقراءتها في كتبقديمة ، كلمات مثل :   عدل، صوت ، رحمة ،  حق .....والكثير الكثير من غيرها ..هل ستراءى لهم أنها كلمات من غير لغة ؟ .....ربما .ليست الصافرة وحدها تلك التي كانت تطارد اللصوص والمجرمين بل ثمة صافرة أيضا  ...صافرة الحكم ....الذي يعطي تنبيهات البداية والتحذير والطرد والنهاية    .ساندريللو ؛ لم نمتلك الإرادة لنصمت .الصوت رسول الإرادة .. فالعدل لا يتكلم همسا .ًلكنها مساءلة الحياة عن اختفاء هذه الكلمة من قاموسها ولا غرابة في هذا فقد قيل أن العدل هو الكلمة الوحيدة من  أسماء الله الحسنى التي يجري البحث عنها في الحياة بين حشايا الإنسانية ...ومازال البحث قائما حتى الآن .ربما علينا أن نبحث عنها في زمن النسبيات حيث للأمور أيضا موازينها .في كفتي ميزان من قشجثم العدل على حطام الإنسان...قالوا يومها أن العدل أثقل من أن تحمله كفة ميزان.... ربما لهذا ...  ربما .حزين أنت لسجنك ...أن تسجن الثقافة بين ذات الجدران التي تضم الإجرام ؛ هو الإجرام بعينه ...ألم أقل لك أنه ما من عدل ؟  يضحكني أن  يجيب أحدهم بأن الكل سواء في تطبيق العدالة ..ومن هنا تستطيع أن ترى المراوغة في موضوع القياس ... ربما علينا هنا إعادة النظر بالنسبة إلى المفاهيم التي ُتسْتغل وُتَطوَّع حسب المصلحة الموجهة لهذا ...هلا أفهموهم أن الشعوب البسيطة أيضا ...لها من العقل ما يجعلها تجيد التمييز ؟ عزيزي ساندريللو ..أغبى الحكومات تلك التي تغتال مثقفيها لأن هذا كفيل بالتأكيد أكثر على جوهر الحقيقة .يتغلغل الزمن في أوردة الذاكرة فينساب مع دماءنا بحرارة الانفعال ..تقتحمني رغما عني أصوات غناء ولحن شجي وحزين ...هي التداعيات بلا ريب يا ساندريللو ...تداعيات تسدل على عالمنا الداخلي كوشاح شفاف ذو فراغات نقترب منها بأنظار أرواحنا فتكون كما نوافذ على عوالم مررنا بمحاذاة بواباتها يوما دون أن ندخل بها ...قد يكون  الآن هو زمن التروي فنتمهل وندخل إليها ....لنرى أكثر ... لنعلم أكثر ....لنحيط بعالمنا فهما له عبر علاقته بما مضى ونكون أقرب قربا للاستدلال المعرفي ، فالأمور الحالية باتت ساحة للعبث ...علينا أن نحاول فك طلاسمها كما لو كانت خيوطا متشابكة متداخلة في كرة صوفية واحدة ....نحتاجها الآن بلا ريب أكثر من أي وقت مضى ...العالم الآن جحيم ساعر ونشعر بارتجافنا في صقيع إنسانيته البائسة ...كل الأمور متشابكة ...تحتاج إلى فض تشابكها ...كما وفض الاشتباكات الحالية الذي ما زال يبدو أمرا ً شبه مستحيل .عزيزي ساندريللو كنت قد نوهت لك عن تلك الأغنية الحزينة التي تداخلت مع تداعياتي ... أذكرها الآن جيداً ، كثيرا ً ما كانت تردد مع الخلفيات الموسيقية في أفلام الأبيض والأسود ، وكذلك في مسلسلات التلفاز أيضا مما يجعلها مرسخة تماما في ذاكرتي الطفولية حين ذاك .يازمان السجن خيّم           إننا نهوى الظلاما  ليس بعد  الليل  إلا                                        فجر مجد يتسامى    تساءلت كثيرا عن شاعر هذه القصيدة التي عاشت طويلا معي وكنت بكل مرة أسمعها أنتفض حزنا وألما ...قد كانت من أوائل القصائد التي أشعلت بي حب الوطن وأثرت بتكويني الفكري والأدبي ..وفهمت من خلالها قيمة الكلمة ومدى تأثيرها على ضمير الشعوب والأمم ...ساندريللو ...أنت الآن مثلي كما كنت سابقاً في فضول كبير لمعرفة قائل هذه الأبيات .بالله عليك هل ما  يهم هو  القائل  أو الحدث ؟ أم الكلمة ؟  ...المهم أن بعض الكلمات تصبح عالمية إنسانيا  ً  من خلال دورها في حدث ما ومن كونها حالة عامة تنطبق على كل زمان ومكان ...ساندريللو ...حتى الآن مايزال اللغط قائما حول حقيقة شخصية قائلها ..مابين قائل أنها للشهيد  محمد  خليل أبو جمجوم   قبل إعدامه في سجن عكا من قبل البريطانيين ومن قائل آخر أنها  لعبد الرحمن الشهبندر وآخر ما استقر الرأي عليه أنها  للأخ غيرالشقيق للأديب نجيب الريس  ..وهو بدر الدين حامد المناضل السياسي القومي الذي كان يناضل ضد المستعمر الفرنسي بسوريا وقد قال هذه الأبيات في سجنه  بجزيرة أرواد.آه يا ساندريللو ...ألم تفهمها بعد أننا كشعوب عربية اتفقنا على أن لا نتفق ، حتى وإن كان هذا بشأن معرفة الحقيقة لشاعر لقصيدة ..ساندريللو ...أحسست بجوع شديد الآن إذ أشم من نافذة المطبخ من بيت الجيران رائحة طهي المجدرة ورائحة البصل المقلي ، على فكرة في الآونة الأخيرة أصبحت اشم هذه الرائحة في معظم البيوت ...فالعدس والبرغل هما المادتان الأكثر توفر حاليا ً  في هذه الحرب اللعينة ...أغلب الناس باتوا يعيشون على المساعدات التي تقدم من قبل الأمم المتحدة ..والمحزن أننا نجد على البسطات في أرصفة شوارعنا ...سيدات وهن تحاولن بيع مخصصاتهن من هذه المساعدات لتستطعن شراء علب حليب الأطفال بدلا منها ...الوضع مؤلم وتعيس جدا يا ساندريللو ...طبعا بغياب الكهرباء فلن استطيع إيجاد ما أستطيع أكله من الثلاجة ...نسيت أن اخبرك أن أغلب الناس باتوا يستخدمون الثلاجة الآن في حلب كخزانة يضعون فيها ما يريدون توضيبه من أغراضهم ....الوضع سيء للغاية ساندريللو .أتركك الآن علي أن أتناول طعامي أعود إلى مراسلتك فيما بعد   نضال سواس من كتابي "" رسائل إلى ساندريللو   ضمير لا يغيب""

تم عمل هذا الموقع بواسطة