نسيت كيف تُشعل الشموع
********************
في محاولتي لإغلاق نافذة الصف ،حيث كانت الريح قوية سقط بلورها ،وأصدر صوتا قوياً ، بعض التلاميذ ضحكوا وبعضهم خرج من مقعده ، وبعضهم صرخ خائفا ، لكن أحداً منهم لم يغادر ، إلا طفلاً ضخم الجثة كان يبدو أكبر من اقرانه ،خرج من الصف راكضا كالبرق نحو البوابة حاملا حقيبته المهترئة ،جلس على الدرج ورمى الحقيبة بنزق و وضع كلتا يديه على أذنيه ، كأنه كان يعيش حدثا غريبا ، أغلق عينيه، لكن ملامحه كانت تصرخ دون صوت ، عندما لمحني انكمش على نفسه وتقلص جسده حتى خُيل إلي إنه أصبح أصغر من عمره بكثير ،حاولت أن أقترب منه، لكني تراجعتُ دون إرادتي تحت تأثير يد قوية سحبتني للوراء ،
أنسة عبير: أنت جديدة هنا ولا تعرفين أهل كوباني، أتركيه لن يرد عليك ،
- أيتها المديرة : هل هو أخرس ؟
- أخرس وأطرش ومجنون ،
- لكني لاحظت إنه كان يكتب في الصف ،
- أنصحك بالابتعاد عنه ،
في تلك الليلة لم أنم ، بقيت أفكر بذلك الطالب كثيراً وأصابني الأرق ،في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة متأخرة وكنت اترنح لأنني لم أنم بشكل كافي ، فوجئت بالمدرسة مغلقة ! سألت أحد المارة عن سبب إغلاقها ،رد علي باستهجان،
- معلمين آخر زمن ،ألا تعلمين أن اليوم هو ٢٥ حزيران ؟
- وأن يكن فهذه دورات صيفية شبه ترفيهية ولا يوجد فيها عطل رسمية ، مطى الرجل شفتيه مستنكرا جوابي ومضى ، ثم بعد عدة خطوات التفت إلي وقال :أذهبي إلى المقبرة ،
جمدتُ لحظات ،فكرت بكلامه ثم مشيت نحو المقبرة ، يا ألهي كل أهل كوباني هنا ، ما أوسع هذه المقبرة ! مشيتُ بين القبور، الكثير، الكثير على شواهدها نفس التاريخ ٢٥ -٦- ٢٠١٥ آه يا لغبائي كيف نسيت ؟ إنها ذكرى ليلة الغدر في كوباني ،للحظات حاولتُ التراجع والعودة إلى البيت ،كأنني أحمي نفسي من جنون الصدمة ، لكن مشهداً واحداً جعلني أتقدم ، إنه هو ، هو نفسه ذلك الطالب الذي هرب من الصف ،اقتربت منه، كان يبكي بصوت مخنوق ،تتناثر دموعه، تفرّ من عينيه كنافورة صغيرة ، وهو ينتقل بين عدة قبور يقبل شواهدها ،سألت وأنا أشعر بحرقة تملكتني حتى النخاع ،منْ الذي يستحق كل هذا الحزن من هذا الطفل ، سألت بخجل وبلغة أقرب للإشارة وأنا أشير إليه ، جاوبتني امرأة كانت تحاول أن تحتضنه، وآه ليت الأرض ابتلعتني ولم أسمع جوابها ،ليت الطرش اصابني و لم أسمع قصة طاهر ،هكذا سمته المرأة ...طاهر يا وجع قلب عمتك ، لقد رأى عناصر داعش وهم يذبحون أمه وأبوه وأخته ويذبحونه هو نفسه، لكنه نجى بأعجوبة، وهو بعمر الثماني سنوات ومنذ أن خرج من المشفى قبل أربع سنوات وهو ليس من الأحياء ولا من الأموات، مرات كثيرة يأتونا به الجيران في أواخر الليل وهو يمشي هائما على وجه ،لقد حاول مرة أن يجز عنقه بنفس المكان الذي كان الداعشي قد حاول نحره انظري إليه ، آه يا أنسة : ليتنا وجدنا دواء للموت !! ممن نطلب الرحمة ؟ من الله الذي سحب أرواحنا بالجملة تحت حد السكين ! بيد الذين يكبّرون باسمه ! آه دموعنا صارت مبتذلة نريد شيء أقوى منها كي تعبر عما نشعر به ، لا عزاء لنا ،لا عزاء ، الحسرة وكوباني اقترنتا ،
عدت ُ ادراجي وأنا متيقنة أنني أصبحت مثل طاهر، فقد تحول عالمي إلى فجوة من السواد ......