1 قراءة دقيقة
04 Jul
04Jul

مذكرات حبة قمح ناجية.
حدثتنا أمي السنبلة يومها وهي تحتضننا أنها لم تشهد خيرا كهذا منذ زمن طويل! فالغيث لم يفارقنا، يقبل ثغر الأرض صباح مساء لأشهر توالت، لننبت من رحم الأرض الضاحكة، بنقرات أمطاره، ونملأ البيادر ربيعا. متراقصين مع نسمات الريح، مغنين مع الفلاح العجوز ألوان الفرح. كان الفلاح يزورنا كل حين، يداعبنا يقبلنا بحب ويزرع فينا الحب، مستبشرا بقادمات الأيام. مرت الأيام وبدأ الغيم يجر ذيوله تاركا الشمس تدنو بحنو وألفة، ننضح على دفء أشعتها، ونلون الأرض بأمواجنا الذهبية، نعزف على وتر الريح أعذب ألحان الأمل. حتى كان ذاك اليوم.! خطوات غريبة اقتربت منا!. ملأت المكان خوفا. لم تكن خطوات الفلاح العجوز،لم تكن حنونة وحالمة، بل مرتبكة خبيثة تفوح منها رائحة شواء قلب يحترق بحقده. خطوات لاهثة تركت خلفها شيئا ولاذت بالفرار، مالبث أن تناهى إلى مسامعنا صرخات واستغاثات إخوة لنا لبت بهم النار. تتأجج كلما اشتدت الريح "حتى الريح غدرت بنا" تزداد ضراوة تحرق كل ما يصادفها.
ألسنة اللهب وسحب الدخان لا شيء سواها تحيط بنا وتحاصرنا، هب الناس يتراكضون وبكل صوب وحدب يستغيثون، اختلط الدمع بالدم. الكل يحاول تحجيم ذاك المارد لكن دون جدوى، البكاء والعويل ،الدعاء والمناجاة ملأت السماء، منعتها سحب الدخان من الوصول إلى الله لم يسمع الله يومها صرخات العجوز، فخر على ركبتيه يتأمل حياته وهي تحترق. بكانا يومها كما يبكي فلذة كبده المحترق بين تلك النيران، حاملا ندبة في قلبه المحترق مثلنا.
ضمتنا أمي وأخذت تهدىءمن روعنا ، وتطلب منا ألا نستسلم ونبقى احياء "لابد أن نعيش ولا نستسلم للنيران المحيطة بنا، نحن قوت الفقراء وخبزهم وهذا عهدنا معهم ،لابد أن يبقى منا احياء ،لن نموت سويا "
طلبت أمي أن نحاول النجاة، وعدم الاستسلام، وكان ذلك آخر حديث بيننا قبل أن تبلغنا ألسنة اللهب لاسقط بقرب شق أرضي، أسرعت للاختباء فيه.
رأيت وأنا أسقط كيف كانت طيور القطا تحتضن بيضها ثم تركض لتطفئ النار بأجنحتها ثم تعود إليهم إلى أن احترقوا جميعا .
في الشق رأيت خنفسة تحتضن صغارها تحكي لهم فرحتها بيوم اسعدها الله بقدومهم محاولة إشغالهم عن الموت 
المتربص بهم ولم يرحمهم فتحولوا الى رماد بعدها.
بقيت مختبئة في الشق لليوم التالي حيث عم السكون المكان وتلاشت الأضواء. أخرجت رأسي لأرى المكان ...لاشئ غير السواد على مد النظر ورماد يتطاير مع حركة الريح سواد يغطي الحياة لا شيء غير السواد شعور من الرهبة والخوف والألم غمرني تمنيت لواني احترقت معهم لكني تذكرت العهد ووعدي لأمي، فعدت لاختبىءفي الشق منتظرة غيث يغسل الحزن عني ويطرب قلبي فأحيل الرماد ربيعا من جديد.
رسالة حبة القمح الناجية هذه وصلتني صباحا.
لتكون شاهدة على حقبة سوداء وحقد اسود يلاحق روجأفايي كوردستان عمدت إليها الأنظمة السابقة والقوى الظلامية اللاحقة ،فكانت هذه المرة محاصيل الفقراء وقوتهم. نيران حاقدة التهمت قرى وبلدات كاملة دون رحمة في الجزيرة الخضراء ، التي ما برحت تمد ما حولها بالحياة ،واخرى في كوباني المنكوبة التي لم تضمد جراحاتها بعد، فبكت السنابل الخضراء المحترقة وبكتها أشجار الزيتون المكلومة في عفرين،ليكون الدمع رسائل تصفع وجه الديمقراطيات المزيفة في عالم عاهر يحرق بنيران تحالفاته الحياة .


تم عمل هذا الموقع بواسطة