السادس من آذار
التقيت البارحة صدفة في إحدى محطات برلين بعازف القانون التركي "Hakan " الذي استوحيت من معزوفته قصتي "ذهاباً الى اسكودار".. وطلبت منه عزفها ولبى طلبي بكل لطف.. 🌷
"ذاهباً إلى اسكودار"*
الغيم يحاصر كل زاوية من السماء في مدينة المغترب مانعاً أي نور أن يضيء العتمة، في وسط هذا الغرق علت دندنة موسيقى أغنية يعرفها جيداً، وكلما كان يقترب خطوة كانت الموسيقى تعلو وتعلو لتخترق زاوية تقبع فيها خيبة طفل.
اللحن الذي لم يكن يعرف له اسماً والذي كان عازفاً محترفاً يعزفه على زاوية الطريق، أعاده إلى مدرسته الإبتدائية، بالتحديد إلى حصة الموسيقى المنفذ الوحيد للروح خارج عالمه الضيق، وتذكر أستاذ الموسيقى القاسي صاحب الصوت الجهوري يصيح بالطلاب:
- "إذا أحسنتم التصرف خلال الدروس القادمة، سأسمح لكم مشاركة الجوقة الموسيقية للصف السادس".
وتابع إعطاء بعض التعليمات وعزف بعض الألحان البسيطة، مكرراً وعده بأنه وخلال شهرين سيشارك كل طلاب الصف العزف بالآلات الموسيقية مع الجوقة الناشئة للصفوف العليا.
في اليوم التالي، وفي حصة الرياضيات غاب تركيزه فجأة بعدما سمع لحن أغنية يصدح من الصف المجاور، ففقد إصغاءه للرياضيات وحساباتها، ولهذا العالم الجامد، داخلاً في عالم عجيب آخر حملته إليه ألحان تلك المعزوفة التي لم يكن يعرف لها اسماً، لكنها تشربت ذاكرته وحنايا روحه.
تتالت الأسابيع بعدها، وفي كل درس موسيقى للصف المجاور، كان الأستاذ يعيد تدريب طلابه على نفس اللحن الساحر.
أما هو الطفل الصغير نحيل الجسد ذو العشرة أعوام، كان يترك جسده ملتصقاً بالمقعد ويطلق العنان لروحه لتحلق بعيداً في فضاء آخر بعيداً عن الواجبات، الدروس، وكل الأشياء التي أرغم على القيام بها.
بعد فترة وجيزة، وفي درس الموسيقى حصل ما لم يكن يحلم به، فقد وعد أستاذ الموسيقى طلابه بتعليمهم المعزوفه نفسها التي يدرسها للصف السادس، أدرك مباشرة أنها معزوفته المحببة القادرة على أخذه إلى عوالم سحرية، وبفرحة طفل صار يعد الأيام ووعود الأستاذ المقترنة بتصرف الطلاب الجيد تزداد .
بعد عدة أسابيع وبشكل مفاجئ دخل أستاذ الموسيقى مع عدة أطفال تعلو وجوههم الإبتسامات محملين بآلاتهم الموسيقية، وفي غمرة الفرح الطفولي بدأ الأطفال بإصدار ضجيج تتخلله ضحكاتهم المرحة، فجأة علا صوت الأستاذ على صوت الضحكات مطالباً طلابه بالهدوء، لكن نداءه ذهب هباء منثورا فاستشاط غضباً وبدأ بالصراخ والتهديد:
- "قسماً بالله إن لم تصمتوا سألغي الدرس".
لكن فرحة الأطفال لا يمكن كتمها بالصراخ والغضب الذي لم يحملوهما على محمل الجد، وبعناد شديد وقف الأستاذ كجبل وهو يرعد ويزبد شامخاً منتقماً من كل شيء، وبكلمتين ألغى الدرس وأخرج أطفال الجوقة الموسيقية بهدوء، عندها فقط صمت الأطفال صمتاً مروعاً.
شيء ما سقط من عالمه الجميل إلى أرض الواقع، الحلم الذي طالما انتظر أن يعيشه انتهى بقرار تعسفي من السلطة العليا بالصف.
كانت هذه أول خيبة قد عايشها في الحياة..، ستتوالى بعدها الخيبات لترمي به لاجئاً في مدينة ضبابية معتمة يحاصرها الغيم، ليجد نفسه يقترب من مصدر خيبته الأولى المعزوفة التي لم يعرف لها طوال حياته عنواناً، وبهدوء تقدم نحو العازف، وانتظره بشغف حتى أنهى مقطوعته، ثم سأله بصوت هادئ منخفض:
- ما اسم هذه المعزوفة؟
أجابه العازف الشبيه بالمسيح بعينين ضاحكتين وابتسامة لطيفة شاكراً اهتمامه:
- ذهاباً إلى إسكودار.
وبقلب فرح مبصر لنور قريب، أخرج كل ما امتلك في جيوبه من مال ووضعه بلطف في علبة معدنية كانت موضوعة أمام الفنان، وتابع مشيه مبتسماً يدندن:
"ذهباً إلى اسكودار..، ذهاباً إلى اسكودار"
.........................................................................
*أغنية شعبية تركية، "Üsküdar’a Gider İken"،
“و انا ذاهبة الى اسكودار ”:
هي قصة إمرأة تمشي مع كاتب تحبه تحت زخات المطر متجهين نحو اسكودار "وهي منطقة في الجزء الآسيوي من اسطنبول".
الأغنية مغناة بعدة لغات منها العربية ( غزالة غزالة)، وعدة أغاني أخرى.
أشهر إصدار للأغنية يعود للعام 1949 للمطربة صفية إيلا (Safiye Ayla).