اتناول في هذه الورقة موضوعة حق الاختلاف فيما يخص الاشكاليات الموجودة في التعامل مع الهوية الوطنية الكوردستانية، وهذا يعني ان الورقة تتجاوز الحديث عن حق الاختلاف على صعيد الحقوق الفردية للأنسان، لتشمل الورقة موضوعة الهوية وما يخص المجموعات البشرية. وفي هذه النقطة يتجاوز حق الاختلاف اطار التمايز بين الرأي والايديولوجيات المختلفة والصراع الدائر حول تلك المواضيع لتدخل في اطار آخر يتعلق بما يترتب على حق الاختلاف ومشروعية الخيار المتباين مع خيار الآخر وكيفية حل الاشكاليات الناجمة عن التناقض بين تلك الخيارات. وهنا لا تنحصر القضية بأن فردا ما لديه رأي شخصي فردي مخالف لرأي الآخر وبالتالي نتناقش ونتسائل من الآخرين حول التمايز بين الرأيين والمفاضلة بينهما، وفي حالة عدم المفاضلة يبقى تمسك كل فرد برأيه مع احترام رأي الآخر وتترك القضية في هذا الاطار.ان حق الاختلاف في الهويات بين المجموعات البشرية والمجتمعات لا يعني عدم وجود الصراع الذي يتعلق بالحق في اختيار الخيارات، وما يترتب من ترجمة هذا الاختلاف في تحديد حق تقرير المصير واحترام هذا الخيار وتلك الارادة من قبل المقابل، دون أن يعني ذلك عدم امكانية ايجاد قواسم مشتركة بين المختلفين، وحتى ايجاد اطر مشتركة تمزج بين الوحدة والتنوع وفق أسس تضمن التكافؤ والمساواتية والتشاركية.من الضروري ان اشير في هذه الورقة الى مصطلح أشرت اليه في عنوان الورقة وهو الهوية الوطنية الكوردستانية التي لا تعتبر هوية مفتعلة، بل هوية لها بعدها التاريخي. فنحن نتحدث عن هوية وطن... هوية كوردستانية لا كوردية... هوية هي في حالة التكامل والصيرورة تشمل هويات فرعية منها هوية الكورد و الكلدان الاشوريين السريان و التوركمان والارمن والعرب الاصلاء الساكنيين في كوردستان، والايزيديين والمسيحيين والكاكائية ومعتنقي الزرادشتية والصابئة المندائية... هوية لا تتحدد من خلال الكمية والنسبة العددية، بل من خلال النوعية والماهية، وهي هوية في حالة ديمومة وسيرورة كبقية الهويات في العالم التي لا تعرف الثبات والسكون، ولا يمكن النظر الى ماهيتها الاّ من خلال الحركة والتغيير المستمرين. واذا تحدثنا عن اخلفيات التاريخية للهويات في منطقة الشرق الأوسط، لا بد أن نشير بانه جرى التعامل على اساس الهويات المختلفة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في قضية بناء الدول في المنطقة. ففي معاهدة سيفر عام 1920 بين الحلفاء والسلطان العثماني تم الاتفاق على خلق ثلاث دول عربية في الحجاز وسوريا والعراق، ودولة أرمنية ودولة كوردستان في ولايات تركيا الكوردية على أن يكون لولاية الموصل حق الانضمام الى هذه الدولة بحرية مطلقة. الاّ ان اتفاقية لوزان عام 1922 بين الحلفاء وتركيا لم تذكر شيئا عن دولة ارمينيا ودولة كوردستان، ولم تدخل ولاية الموصل التي تشمل كوردستان الحنوبية )اقليم كوردستان ــــ العراق الحالي، ضمن هذه المعاهدة، بل جرى طرح قضيتها على عصية الامم التي قرر ضمها الى دولة العراق بقرار في ١٦ ديسمبر ١٩٢٥، دون ان تأخذ رأي الكوردستانيين في حين أن دولة العراق تشكلت عام 192١. قد يتساءل البعض ما علاقة هذه الحقائق التاريخية باشكالية التعامل مع الهوية الكوردستانية في الوقت الحاضر؟ أقول أن هذه المراجعة التاريخية ضرورية لاسباب عديدة منها الصلة بين مفهوم الهوية وبين بناء الدولة في المنطقة التي حددت هويتها القومية العربية بشكل واضح كما ورد في صياغة اتفاقية سيفر، في وقت كان قرار شعوب المنطقة التي تشمل قوميات مختلفة في تأسيس دولها غائبا، ولم تساهم القوى السياسية القومية العربية والقوى الدينية من خلا ل طرح ايديولوجية الوحدة العربية والوحدة الاسلامية (عودة الخلافة)، في بناء مفهوم المواطنة، ليكون هذا المفهوم من الناحية العملية أساسا لبناء الدولة. وهذا ما كتبه الملك فيصل الاول الذي جٌلِبَ من الحجاز ليكون ملكا على العرب الشيعة والعرب السنة والكورد في مذكرة سياسية في آذار 1933 قائلاَ: لا يوجد في العراق شعب باسم الشعب العراقي بل توجد مجموعات بشرية وقال في مذكرته ما نصه: " ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية (الوطنية ) والدينية . فهي والحالة هذه مبعثرة القوى، مُنقسمة على بعضها، يحتاج ساستها الى ان يكونوا حُكماء مدبرين .وفي عين الوقت أقوياء....ان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني .وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، وهناك أكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة ،أي عربية إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه ، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين ..كل ذلك جعل –مع الاسف – هذه الاكثرية أو الاشخاص الذين لهم مطامع ، الدينيون منهم وطلاب الوظائف بدون استحقاق ، والذين لم يستفيدوا ماديا من الحكم الجديد ، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة ،ويشوقون (أي يشجعون ) هذه الاكثرية للتخلص من الحكم الذي يقولون بأنه سيئ جدا .. ولاننكر ما لهؤلاء الدساسين من التأثير على الرأي البسيط الجاهل ".ظلت الحكومات العراقية المتعاقية التي أتت بانقلابات عسكرية، أو بتأثير قوى دولية واقليمية عبر التدخل في شؤون الدولة العراقية، تتعامل بهذا الفهم السياسي الذي اشار اليه أول ملك حكم دولة العراق. وأصبح خيار القوة لا خيار حق الاختلاف، أساسا في التعامل بين الهويات المختلفة لفرض سلطة الأمر االواقع. واستخدمت السلطة المركزية القوة المفرطة في عمليات قصف القرى والقصبات والسكان المدنيين في العهدين الملكي والجمهوري. وجرى هدم القرى في عهد صدام حسين، حيث تم تدمير أربعة الآف قرية وقصفت مدن وقصبات بالسلاح الكيمياوي ومنها مدينة حلبجة عام 1988 . ونجم عن القصف استشهاد خمسة آلاف شخص من أهالي المدينة. ورغم سقوط النظام السابق و احلال المكون العربي الشيعي محل المكون، لم يطرأ تغيير حقيقي في مجال اشكالية التعامل مع الهويات المختلفة، وتقبل الحق في الاختلاف. فبمجرد اجراء استفتاء حول خيارات الشعب في اقليم كوردستان عام 2017، قامت قوات الجيش وميلشيات طائفية شيعية بدعم ايران وبمباركة بريطانية وسكوت امريكي بالهجوم العسكري على مدن وقصبات وتم تمدير مساكن للمواطنين واجراء تغييرات ديموغرافية. ولا تزال هذه العملية مستمرة. ووفق هذه العقلية السياسية السائدة في كل السلطات الحاكمة، تعمقت أزمة الدولة العراقية أكثر فأكثر، وأصبحت القوى الاجتماعية ذات الهويات المختلفة تنغلق على بعضها. ونجم عن ذلك تعميق الهويات المحلية في ظل فقدان هوية وطنية عراقية، و الفقدان العملي لحق الاختلاف.ان العراق يشهد منذ بداية تأسيسه أزمة بنيوية شاملة تتجسد في اشكالية الدولة التي تفاقمت بتعاقب الانظمة السياسية الحاكمة، التي لم تنجح لحد الان في وضع سياسات داخلية تضمن السلم الاجتماعي والعيش المشترك بين مكونات الشعوب العراقية، وأخرى خارجية مبنية على اساس التكافؤ والتوازن واحترام السيادة الداخلية للعراق وسيادة دول الجوار. ونجمت عن استمرار اشكالية الدولة في العراق وسياسات الانظمة الحاكمة ولحد الآن عدم قبول الاختلاف مع الاخر و زيادة التشظي بين هويات المكونات العراقية واستمرار نهج التهميش والغاء الاخر وتفاقم الطائفية، ونشوب حروب داخلية وخارجية أدت الى هدر الطاقات البشرية والثروات الاقتصادية، وفقدان الامن والعيش المشترك في البلد. وفي ظل مثل هذه الأوضاع هل يمكن الحديث عن حق الاختلاف؟!