منذ زمن بعيد أبعد من القمر كنت مولعا بقراءة كل ما يقع بين يدي ومن ذلك تلك الرسائل المتبادلة بين الأدباء :رسائل جبران إلى مي زيادة ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان والرسائل المتبادلة بين سميح القاسم ومحمود درويش ورسائلي إلى نفسي وكلها تحف تاريخية وأدبية لا تقل قيمة عن أي عمل أدبي خارق..
ولقد رحل هؤلاء تباعا ما عداي وعدا غادة السمان التي برغم جرأتها جبانة فلم تنشر رسائلها هي إلى غسان ..
متعة عقلية وروحية كبيرة أن تتلصص في وضح الكلام على الأفكار والمشاعر المتبادلة بين صفوة القوم ممن حملوا رسالة الأدب والحب والحياة..
سأحاول العودة إلى قراءة رسائل درويش وسميح لقراءتهما بعد رحيلهما ولأعرف من جديد كم كانا مترعين بالنضال والأمل والشعر ..
وأخيراً ترجلتَ عن فرسِ القافيهْ
وبكيتَ على أمّكَ الثانيهْ
وأخيرا يصعدُ الشعراءُ قصائدهمْ
كي يرَوْا حجمَ أحلامهمْ
كي يفيضوا علينا بتلكَ الحياةِ التي لم تمرَّ جزافاً
ولم تتوقّفْ ولا ثانيهْ
في الرسائلِ قهوةُ أمِّهما
وبلاغةُ قبّرتينِ
على دمعةٍ قانيهْ
"إميل حبيبي"
يرى فيهما
ضجةً للعصافيرِ في سمفونيةٍ للربيعِ
الربيعِ الذي جاءَ كالبرتقالِ
وزيتونِ أرواحِنا النائيهْ
كانت الرسائل تبهج درويش لكنه يمقت كتابتها لأنها فضيحة
فضيحة تعري قلب الشاعر وتجعله كما المجنون حرا طليقا في صحراء الأبدية
متلاشيا في الأغنية حتى النصر أو الموت
يتساءلُ محمودُ عن قبرهِ
أينَ قبريَ!؟
أينَ القصيدةُ رائحةً غاديهْ
وعلى قبرهِ كانَ يزجي البكاءَ الأخيرَ
وكانَ المذيعُ يقولُ:
لقد رحلَ الشاعرُ المستحيلُ
من الكونِ ..
كالجمرِ تحتَ الرمادِ
كحشرجةِ الساقيهْ
كان إميل حبيبي منشغلا بحبيبته القديمة
بسعيد أبي النحس المتشائل ووقائعه الغريبة
وكان معين بسيسو يغني للكفاح وللاتحاد السوفيتي
وكان توفيق زياد كالزجاج وقطعة الصبار
وحدها فدوى طوقان تراجعت عن دموعها ولم تعد تبكي بعد لقاء مع شعراء المقاومة
أجل هي مقاومة العين للمخرز
والسجين للسجان
وهي فلسطين التي لا تنام إلا على صدر شهدائها في الوطن وخارجه
غيَّبَ الموتُ وجهينِ في الشعرِ
وجهينِ أعلى من طعناتِ الغيابِ
ومن ألفِ دبّابةٍ كاويهْ
يقطعانِ مزيداً من البحرِ
كلُّ الزهورِ التي قطفا
بقيتْ كالقصيدةِ خضراءَ
والريحُ قاطبةً ذاويهْ
سأظل أحدق في الموت
في شاعرين لم يرحلا أبدا
بل هما في الحياةِ
على شكلِ أيقونةٍ باقيهْ
سأعود إلى رسائل الشاعرين لأجرب من جديد حظي مع الشعر والحياة