1 قراءة دقيقة
25 Apr
25Apr

عامر فرسو
                                                     ” الدّلف الأحمر ” قصة قصيرة
ذاك الدّلفُ المتساقط من صدوع الكهف القديم بغزارة بدت وكأنّها نجومٌ تندلق من عتمة السّماء لتشعّ مثل بيارقَ لجحافلَ غريبةٍ تغزو الأرض..
هذا ما كان يتراءى لتلك العائلة العفرينية الّتي التجأت إلى قلب هذا الكهف محتمية من قصف التّرك و الهمج الذي سار في هواه، فكلّ قطرةِ دلفٍ متساقطةٍ كانت تشقّ صمت خوفهم وهلعهم كأنّه بارودٌ ينفجر و يتشظّى بين تلك القلوب الصّغيرة المنكمشة على بعضها في أحضان الكبار المنكمشة بدورها على احتمالاتِ فجائع الغد القريب بكل غضب و حزن..
كان الصمت، السّكون، الخوف، الألم، و الترقّب المميت يلفّ ذاك الاحتضان العائلي، و لكن فجأةً شقّت ضحكةُ الجدّةِ السّكونَ الطّاغي كسيفٍ يصارعُ الهواءَ وقالت: ليتَها تدلفُ إلى الأبد!!!! وحين قرأت الدّهشةَ في وجهِ أحفادها ووالدِهم المتحفّز منذ أن وطؤوا هذا الكهف؛ أضافت مع دمعةٍ سالت على خدها المتغضّن: قبلَ خمسٍ و ستّين عاماً أمضيتُ أوّل ليلةٍ لي مع جدّكم في هذا الكهف مختبئين من غضبِ والدي و أعمامي الثّائرين للانتقام، سادَ الصّمتُ فأردفت الجَدّة موضحةً و هي تنظر في عينيّ ابنها السّتّينيّ ذو اللّحية البيضاء: كما تعلم.. طلبني والدُك للزّواج أكثر من مرة، وحينما فقدَ الأمل هربتُ معه، و تزوّجنا هنا في هذا الكهف في ليلةٍ ماطرة والدلف مثل الآن يتراقص حولنا، تجمّع الأحفادُ أكثرَ على جدّتهم متغافلين عن أزيز الرّصاص و دويّ القنابل على عفرين بشراً وتاريخاً وشجراً مباركاً.. فأكملت الجدّةُ حديثها بنبرةٍ حالمة: قضينا بضعة أيامٍ ووالدُك لا تغمضُ له عين، فاقترحْتُ عليه أن نتناوبَ النّومَ و الحراسةَ إلّا أنّه بعدَ لحظةِ صمتٍ طويلة أطلق ضحكةً تناقلت مساربُ هذه الهضاب صداها، و قفز نحو خنجره المجدلاني و قال بصوتٍ لامس برودتُه كلَّ كياني, اللّيلة ستظلّين وحدك هنا و أشارَ بحركةٍ من خنجره إلى أرجاء هذا الكهف, حينَها بقيتُ صامتةً و قشعريرةٌ باردةٌ جرت على كاملِ جسدي، فوضع يديه على كتفي و قال بكلّ ثقة: و سأترك هذا المسدّس معك و أيّ مخلوقٍ يطأ هذا الكهف تُرديه بطلقةٍ واحدة بعد أن تنبّهيه بصيحةِ تحذيرٍ واحدةٍ لا سواها..
غابت الشّمسُ و العتمةُ تمدّدت مع بردٍ ساكن على الأرجاء، فتسلّل جدّكم نحوَ القرية دونَ أن ينبس بكلمةٍ من شفتيه سوى الكلمات الكثيرة التي قالتها نظرتُه الأخيرةُ و هو يهبطُ الوادي، تلكَ اللّيلة حتى السّاعات الأولى من صباح اليوم التّالي أمضيتها وحدي هنا، و قلبي يقطر دلفاً أحمرَ خشيةً على جدكم لا خوفاً من وحشة المكان، كنت أحسّ بأنّ الشّمسَ قد تلكّأت ذاك الصّباح في قدومها إلا في اللّحظة الّتي تراءى خيالُه من بعيدٍ أيقنْتُ حينَها بأنّ يوماً جديداً قد بدأ، لم يحدّثني جدّكم بأمرِ غيابهِ إلا مساءً قال: لقد كلّفتُ بعضَ الرّجال التّوقّف على مطالبِ والدِك لتسوية الأمر ثمّ أغمضَ عينيه و غرق في نومٍ و يدُه لا تفارق الخنجر.
بعد ثلاثة أيامٍ تلاقى مع رجل يمتطي حصاناً في أسفل الوادي، حينها عاد شارد الذهن و ظل لساعات يلاعب بين أصابعه الخشنة بعودٍ صغير، حينما أقبل المساء ردّدَ ما قاله فيما سبق و غاص في العتمة، كانت وجهتُه هذه المرّة مغامرةً لا يفصلُ بين الموت و الحياة فيها شيءٌ سوى لطف الله، توقّفت الجدّةُ عن الكلام حينما ارتجّ المكانُ و تعالى هديرُ الطّائرات في السّماء، ظلّوا لساعةٍ من الوقت، و قلوبُهم تترقّب الموت حتى ابتعدت الطّائراتُ و سادَ الصّمت من جديد، فأردفت الجدّة حديثها وكأنه لا موت يلفّ المكان: تلك اللّيلة قصد جدّكم الطّرف الآخر من الحدود يسعى في جلب حصانِ الوالي الترّكي، الحصان الأبيض مهراً ليقدّمه لوالدي, تلك اللّيلة بقيت ساهرةً هناك، و أشارت بيدها نحو باب الكهف.. كنت أتخيّل نجوم السّماء المتواريّة خلف الغيم الكثيف وأناشدُ الله أن يواري جدّكم بغيمة تحجبه عن أعين التّرك كما تلك النجوم، أطرقت الجدّةُ رأسَها، و بعد برهة من الوقت قالت و عيونها مغرورقة بالدّمع: في فجر النّهار التّالي لم يستفق والدي على صوت الأذان كما العادة بل قفزَ من فراشه حينما سمعَ صهيلَ الحصان الأبيض على باب الدّار، نظرت الجدّة نحو ابنها و قالت بكل فخر: كان والدُك يقفُ بعيداً حينما فتح جدُّكَ باب الدّار فبادره السّلام رافعاً يديه، وعندما قابله جدُّكَ بابتسامةٍ تشعّ بالانبهار؛ تجرّأ والدُكَ و ألقى بمسدّسٍ إيطاليٍّ مزخرفِ الجراب عندَ أسفل قدمي جدّك، وقبلَ أن يتحدّثَ أحدُهما كان رهطٌ من الرّجال قد تجمّعوا حولهم فقال والدي: أأتيتَ بمسدّس الوالي أيضاً، فردّ والدُك: و كنت آتيك برأس الوالي كذلك لو طلبت! حينها أشارَ جدُّك على والدك بالدّخول و هو يقول: ومَنْ مِنَ الرّجالِ غيرك يستحقّ كلبهار!.. فارتفعت زغاريدُ خالاتك حتّى تخيّل لي أنّي قد سمعتهم عبرَ هذه الهضاب والوديان.. كفّت الجدّة عن الكلامِ مُسندةً ظهرَها إلى جدار الكهف البارد بعد أن كان الدّلف بدوره قد توقّف منذ ساعات.. تبادلت العيونُ النّظرات فيما بينها على ضوءٍ خافت و كأنّ السّؤال الوحيد المحلّقَ في ضيق المكان من حدقاتهم هو: وماذا بعد؟ إلاّ أنّ فجر اليومِ التّالي لم يجبهم بشيءٍ سوى موت الجدّة.. ارتفعَ العويلُ وتناقلَ الفراغُ الشّاسعُ حزنَ عائلةٍ لم تطلْ بها الحيرةُ فدُفِنَت الجدّةُ في الكهف الّذي شهدَ أوّل أيّام زواجها و من ثمّ سارت مع قوافل النّازحين نحوَ القدر الّذي خطّطَ له الأخوةُ قبلَ الأعداء.

تم عمل هذا الموقع بواسطة