1 قراءة دقيقة
ما أجملَ أن يُعبِر شخصٌ آخر عمّا في قلبك

Adil Nûh


ما أجملَ أن يُعبِر شخصٌ آخر عمّا في قلبك بأسلوب لا تستطيع أنت فعله
Muhammed Habash Kenno
في اليابان هناك شيئ اسمه الحوار المفيد بمعنى أن يتحاور الناس كي يصلوا إلى نتيجة أو حل أو يفرغوا ما بدواخلهم لتذهب الشحنة السلبية السيئة ويعلمون الأطفال  في المدارس منذ الصغر على الحوار والتعبير عن ذواتهم .

لكي تبني أي مجتمع يجب أن تعلمه الحوار وليس الجدل ولا حسن الجواب أو ما يسمى بالإفحام وقصف الجبهة وفن الرد فالفرق بين المجتمعات الحضارية والمجتمعات المتخلفة هي طريقتها في التعامل مع اللغة والحوار والجواب والرد .. لاحظ مثلا أن الغجر هم أكثر الناس قدرة على الإفحام وسرعة الجواب ولذلك يقال فلان مثل الغجر جوابه على لسانه .

 لفهم الموضوع أكثر سنقوم بتجربة ولنفترض مثلا أن هناك مراهقة غجرية منكوشة الشعيرات مقملة الجنبات وبالمقابل هناك مراهق ذو نظارة عريضة من عائلة محترمة وخبير بشؤون الكمبيوتر  ولنفترض أننا أسأنا إليهما بكلمات ما فإننا سنلاحظ أن الغجرية سترد بشكل سريع بجواب غير متوقع لتأخذ حقها بينما شاب الكمبيوتر لن يكون لديه نفس ردة الفعل وربما لا يجاوب أبدا .. ماذا نستنتج من ذلك ..؟؟؟؟

إذا كنت في القاهرة مثلا ودخلت حارة شعبية فإنك ستجد أهلها مشهورين بالردح والفهلوة في الجواب لكن بالمقابل ستجد العشوائيات والتخلف والمجاري الطافحة والزبالة المتكومة فإذا غادرت إلى حي أكثر رقيا وتعليما فلن تجد كل تلك الآفات ولن تجد بالمقابل وصلات الردح الشعبي وربما جميعنا شاهدنا ذلك في الأفلام المصرية لمن لم يعش واقع تلك الأجواء في بيئتها .

 في ألمانيا إذا عصبت أو أسأت إلى موظفة ما أو معلمة في المدرسة بالكلام فإنها لا تفحمك بالجواب السريع بل تصمت ثم تذهب بعد ذلك لدراسة ملفك وشخصيتك وكيفية التعامل معك مع الأخذ في الإعتبار أنك ربما تشكو من عاهة نفسية وعلى ذلك الأساس العلمي يتم التعامل معك فيما بعد بينما تعتقد أنت أنك غصنفر وقد انتصرت عليها ولكن في الحقيقة فإن أصابعك كلها قد أصبحت في فم تلك المرأة  ..!!!!

 ما أود قوله أن الحضارة لا تبنى بالجدل و قصف الجبهات والإفحام وفنون الرد ولاحظ أن كلمة إفحام مشتقة من الفحم أي أنك تجعل من أمامك هشا مثل الفحم وهو شيئ خاطئ فمن المفيد أن تخلق لغة حوار تجعل بها من تحاوره شجرة غضة حيوية تبعث فيها الحياة بدل أن تفحمه وتحوله إلى مجرد رماد والقضية قضية نفسية فالذي لا يملك شيئا يحاول أن يثبت نفسه برفع الصوت أما من يملك علما فيتمترس خلف علمه ويحاول أن يوظفه بشكل صحيح بدل إضاعة الوقت في العواء .

 العقلية الغربية لا تهتم بالكلام على قدر ما تهتم بالواقع والفعل ولذلك لم يرد أحد من المسؤولين الغربيين يوما على أرضوغان وهو يهاجم هذه الدولة وتلك ويقول لهم من أنتم ويزمجر ويتوعد لأنهم يعلمون في الحقيقة أنهم يستطيعون أن يجعلوا تركيا تنهار إقتصاديا بإجراءات صغيرة ولذلك فهم يعتبرون كلام أرضوغان مجرد نباح لا يقدم ولا يؤخر ما دام لا يؤثر في الواقع شيئا .

 لكن بالمقابل فإن خطابات أرضوغان تثير العالم الإسلامي لأنه عالم قائم على الجدل و فن الرد ولذلك فإن أكثر علم ازدهر في القرون الإسلامية الخالية هو علم الكلام حتى جعلوا له قواعد وألفوا فيه الكتب والحواشي والمتون ولا عجب أن يكون التراث الإسلامي كله عبارة عن قال فلان ورد عليه فلان وخالفهما فلان حتى غرقت الأمة في أتون الجدل  الذي يسبب الخراب للأمم مع أن نبيهم أخبرهم قبل ذلك بعدم فعل ذلك حين قال :

 ( إذا أراد الله أن يهلك أمة منحها الجدل وأبعدها عن العمل  )

الجدل يضعف الأمم ويمزقها ولعلنا جميعا سمعنا بالجدل البيزنطي ويقصد به الجدل الذي لا فائدة منه وأصله أن بيزنطة كانت قوية منيعة لا يستطيع استعمارها أحد ولكن حين تفشى فيها الجدل والصراعات الكلامية وكثرة المذاهب تدمرت وانتهت للأبد كما حدث مع الحضارة الإسلامية حين غرقت في صراعات المذاهب والطوائف والملل والنحل فتفسخت وانتهت إلى زوال وما تزال على نفس المنوال فالمسلمون اليوم لا يشاركون في صنع الحضارة بل يجادلون فيما يصنع الآخرون فحين ينشر موقع عربي خبر وصول مركبة أمريكية إلى المريخ مثلا يبدأ الجدل والنقاش وإدخال الدين في الموضوع والتشكيك في الأمر في جدل طويل لا ينتهي أبدا .

 شعوب المنطقة اليوم مبرمجة على خطاب معين وتحولت إلى روبوتات للجدل والرد و نسيت الحوار المفيد فالإسلامي جاهز دائما لشتمك واتهامك بالفسق والكفر ولا يستطيع خلق حوار مفيد معك وهذا الأمر ينطبق على الشعب الكردي أيضا فهو من أكثر شعوب المنطقة حبا للجدل الفارغ ولذلك تراهم مشغولين طوال الوقت بأحزابهم وهذا قال كذا وهذا فعل كذا وذاك عمل كذا في دائرة محصورة ضيقة هم من حشروا أنفسهم فيها حتى أصبح فكرهم وشعرهم وعلومهم ومنشوراتهم كلها في عنق تلك الزجاجة المنغلقة.

 في المحصلة يجب أن يكون الحوار وسيلة وليست غاية في حد ذاتها بمعنى أن يكون الحوار وسيلة من أجل الوصول إلى نتيجة ما وليس غاية نتخذها لمجرد الرد على الآخر وإفحامه وذلك كي نخلق مجتمعات حضارية منتجة وننهي الحروب فكل الحروب انتهت عبر التاريخ  بالحوار المفيد فالقافلة لن تسير  إلا نحو حتفها ما دامت الكلاب تنبح ..!!!!

تم عمل هذا الموقع بواسطة