3 قراءة دقيقة
الشهيد صالح اليوسفي الحلقة 131_135 والاخيرة

الحلقة: الواحد والثلاثون بعد المائة


بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي


تصريح لمام جلال عبر الإذاعة..خلال هذه الفترة وفي أحد الأيام صرح مام جلال من خلال إحدى الإذاعات مشيراً إلى أسم والدي سكرتيراً للحزب الإشتراكي الديمقراطي الكوردستاني.. وقد سمعها بالنص أبن عم والدي (الأستاذ خالد اليوسفي) فجاء في اليوم الثاني قلقاً وأبلغ والدي قائلاً: صالح.. لقد صرح جلال من خلال الإذاعة أنك سكرتير الحزب الأشتراكي الكوردستاني.. أرجو أن تخرج من بغداد في أقرب فرصة قبل أن يحصل لك شيء. أجاب والدي بهذه الجملة التي ما زالت أصدائها خالدة في مسامع عائلته وأقربائه: من جئ منئت ب مرنئ نينه.. أي لا أهتم بموتي مطلقاً..) ولا أريد أن أشير إلى رأي والدي حول هذا الموضوع الذي كان قد سمع بها، ولا أريد أن أفتح المواجع القديمة.. فيما إذا كان هذا التصريح متعمداً أو غير متعمد.. مقصوداً أو غير مقصود.. فالله أعلم.. ولكني أعلم جيداً كان الصراع على السلطة والنفوذ بين الأحزاب الكوردية حينها في أوجها..! إذاعة الـ BBC تعلن عن خبر أغتيال والدي قبل أغتياله..!  بعد أيام قليلة وفي إحدى الأمسيات، كنتُ برفقة والدي في غرفة الجلوس (الهول) أتذكر الموقف بكل تفاصيله، كنت أرسم بعض الرسومات ووالدي جالساً على الأريكة والمذياع في أحضانه يستمع إلى الأخبار العالمية كعادته دائماً في هذا الوقت من المساء، كانت إحدى الإذاعات العالمية تبث الأخبار وعلى ما أعتقد أنها كانت إذاعة الـ BBC التي تبث من لندن.. وإذا بالمذيع يعلن توارد أخبار عن أغتيال الشخصية الكوردية العراقية صالح اليوسفي..! تفاجئنا أنا ووالدي عند سماعنا لهذا الخبر الغريب والمفاجئ ومن خلال إذاعة عالمية..! لم يبدو علامات الأستغراب على والدي من الخبر مطلقاً فشخصية مثلهُ لا شك يتوقع كل شيء من مثل هذا النظام..! ولكن أستغرب أبي كيف وصل هذا الخبر إلى مثل هذه الإذاعة العالمية..؟! ومَن الجهة التي ورائها..؟! فمن المستحيل أن يصرح النظام العراقي لجهة ما بمثل هذا الخبر قبل تنفيذه..! ولكن دائماً يكون هناك عدة أحتمالات أو فرضيات.. فأما أن يكون قد تسرب الخبر بشكلٍ ما ومن خلال أحد مسؤوليّ النظام.. أو تقصدت الحكومة على نشر الخبر من قِبل المخابرات العراقية لإستطلاع ردود الأفعال المحلية والدولية من خلال هذا الخبر.. ولكن وفي كل الأحوال يبدو أن النظام كان قد خطط لعملية الأغتيال منذ فترة بعيدة..!! أخذت أنظر إلى والدي وقد ساورني القلق والشك بعد سماع هذا الخبر وشعرتُ بالحزن وأنا أراقب أبي الحبيب بصمت فلاحظ أبي أنتباهي للخبر.. فأبتسم لي بأبتسامته المعهودة وقال لي: أنظري زوزانكئ.. الإذاعة تعلن أن الحكومة أغتالتني.. وأزدادت أبتسامته أكثر مع جملته الأخيرة.. كانت تلك الأبتسامة توحي إلى الكثير من معاني الشجاعة والثقة والتحدي دون خوفٍ أو وجل، إلى درجة جعلني أبادله الأبتسامة فشعرتُ ببعض الأطمئنان، وأقنعت نفسي إنها ربما مجرد خبر مفربك ليس إلا وها هو أبي الحبيب أمامي وبقربي.. ولكن ظل شعوراً غريباً يداهمني من أن يتحقق صحة هذا الخبر المشؤوم..! ولكن ومع أنني كنتُ بذلك العمر، لكنني كنت أدرك بأنهُ من الغباء أن يفكر النظام بأغتيال أبي تحت أية ذريعة.. حيث كنت أظن أن النظام على يقين بمدى أهمية البقاء على حياة شخصية مثل صالح اليوسفي.. فلو كان صدام لبيباً كان أدرك جيداً أن مثل هذه الشخصية من الضروري جداً الحفاظ على حياته، فيما إذا أنقلبت الموازين يوماً (مثلما حصل لاحقاً) وأحتاج إلى مشورته ودوره المهم.. ولكن يبدو أن غرور صدام ونظامه وصل إلى درجة الهوس دون أن يدركوا بأن إرادة الله عزّ وجل فوق كل شيء وإن حبل الظلم قصير مهما طال..!  فغرور النظام جعله يتغاضى عن مدى المكانة المهمة لوالدي المحبة للسلام ومدى خبرته وحنكته السياسية وعلاقاته الوطيدة مع كافة شخصيات القومية والمذهبية والدينية في العراق، وشعبيته الكبيرة والمميزة عند شعبه الكوردي وحتى لدى العديد من الشخصيات والشعب العراقي، وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن صدام أرتكب خطأً تاريخياً من خلال أغتيال صالح اليوسفي. شعرت وآمنت بعد سماع والدي لهذا التصريح من خلال هذه الإذاعة العالمية وهذا الموقف الصلب لوالدي أن الأستشهاد من أجل قضية شعبه ومن أجل السلام هو الطريق الذي بدأ يسلكهُ بل ويتوقعهُ في أية لحظة، بعد أن ذهبت كل محاولاته من أجل السلام إلى طريق مسدود ومغلق مع النظام..! بعد أيام قليلة من هذا الخبر الذي سمِع به عدد من الأقرباء والأصدقاء من خلال الإذاعة العالمية تلك.. منهم من أستفسروا وقلقوا وأستغربوا ومنهم من ألتزم بالصمت وأصبح يخشى على نفسه، شعر والدي خلال هذه المدة أن النظام قد وصل إلى قرار ما وإنها تخطط أما لأغتياله أو أعتقاله، ففي الأيام اللاحقة بدأت الحكومة تكثف من مراقبتنا وبطريقة مكشوفة، فكانوا يتبعون خطواتنا حين خروجنا من البيت حتى إلى الأسواق القريبة من بيتنا..! يبدو وأنهم كانوا يخشون من فرارنا من بغداد.. لهذه الدرجة بدأت الحكومة تخاف وتحسب لوالدي ألف حساب إذا ما ألتحق بالمناطق المحررة.. أصبحنا محاصرين تماماً وكأنهم يخططون لساعة الهجوم في أية لحظة..! عشنا خلال تلك الأيام فترات من التوتر وأجواء من الحذر والترقب، كل واحد منا يحمل معاناته في قلبه دون أن يبوح بها حرصًا على أن لا نشتت مسيرة حياتنا العائلية.خلال هذه الفترة وفي أحد الأيام سلمني والدي مجموعة من مسودات رسائله ومذكراته وطلب مني الأحتفاظ بها في مكان آمن، فأدركتُ في هذه اللحظة بأن هناك شيئاً يلوح في الأفق دون أن أفهم..! فأخذتها من والدي وأحتفظت بها في غرفتي (1). الأيام الأخيرة والتحضيرات الأولية لجريمة الأغتيال..نقلاً عن الأستاذ هارون محمد:(( صدر الأمر بقتل صالح اليوسفي من أعلى الجهات وتزايدت الضغوط على اليوسفي وأستدعى أكثر من مرة إلى دائرة الأمن العامة وتلقى تهديدات بالسجن والأعتقال خاصة في أعقاب ورود معلومات غير موثقة من أنه على أتصال مع جماعات كُردية أنشقت عن الحزب الديمقراطي الكوردستاني وبدا نشاطاً مسلحاً ضد الحكومة من قرى وجبال قلعة دزه وحلبجة وبنجوين والعمادية ونسب إلى ضابط أمن متقاعد إن الأمر بأغتيال اليوسفي صدر من صدام شخصياً بعد أن وقع بيده منشوراً أصدرته حركة كردية أنتخبت اليوسفي رئيساً فخرياً لها وأضاف أن الواء فاضل البراك جمع ضباط الأمن البارزين ورؤساء الأقسام والشعب بدائرة مديرية الأمن العام وقرأ عليهم كتاباً موقعاً من حامد يوسف حمادي (سكرتير صدام للشؤون الأمنية) وجاء فيه: نسّب السيد الرئيس القائد إلى آخر الديباجة (الخطاب).. بالتخلص من المدعو صالح اليوسفي وإن سيادته خصص مكافئة مجزية لمن يتولى الأمر.. ويضيف ضابط الأمن المتقاعد: (لفت نظري أمران في الإجتماع أثار حيرتي حقاً.. الأمر الأول إنها المرة الأولى في عمل مديرية الأمن العامة أن يعقد أجتماع بهذا المستوى ويتلى فيه قرار صادر من رئيس الدولة بتصفية أحد السياسين. الأمر الآخر أن الرئيس يعلن عن تخصيص جائزة لمن ينجح في أغتيال اليوسفي علماً بأن أغتيالات سابقة جرت لعدد من السياسين المعارضين بلا تكليف معلن من الرئيس ودون منح المنفذين أو المخططين مكافأت منه شخصياً وإنما كانت الجائزة التي تمنح عادة لمن ينجح في مهمته ترقيات في الوظيفة أو ترفيع رتبته في أحسن الأحوال.ولاحقاً أعترف البراك بعد عزله عام 1989 إلى أحد أصدقائه الكورد أنه حاول ثني صدام عن قتل اليوسفي ولكن صدام أستدعى أخاه غير الشقيق برزان رئيس جهاز المخابرات وقال له أن الرفيق فاضل يقول أن اليوسفي لا يستاهل القتل، فماذا تقول أنت، فضحك برزان وقال لشقيقه الرئيس: سيدي القائد إذا كان الرفيق فاضل يعتذر عن العملية وهي من صلب واجبات دائرته (دائرة الأمن الداخلي) فأنا جاهز.. (وأدركت والحديث لفاضل البراك): أن المسألة إحراج لي وتحد من الرئيس وشقيقه وإلا ما سبب أن يرد كتاب من مكتب الرئيس يطالب بإتمام عملية أغتيال هذا الرجل وصدر الأمر إلى مفوض في الأمن ورتبت العملية بهدوء ولفظ اليوسفي أنفاسه في مستشفى اليرموك متأثراً بالإصابات التي أحدثتها في جسمه الطرد البريدي الملغوم..(2))).... يتبعهوامش: (1) لم أخبر أحد من عائلتي بما سلمه لي أبي من أوراق إلى بعد مرور عشر سنوات على أستشهاده حينما قامت أنتفاضة عام 1991 وحينها فقط سلمتها لأخي شيرزاد.. ظناً مني بأنهُ بعد أن يطلع عليها سوف يواصل مسيرة أبي.. وقد تعجب أخي كيف أحتفاظت بتلك الرسائل والمذكرات المهمة كل تلك المدة وكيف أخفيتها..؟! فأحتفظ بها أخي ولم أعلم بمصيرها بعد ذلك حيث توفي عام 1993 في حادث غامض، ولم أعلم ماذا جرى لتلك الرسائل المهمة حيث كان يغادر أخي شيرزاد بين عامي 1991 و 1993 إلى سوريا طلباً للجوء السياسي في سفارتي بريطانيا والكويت، كما وألتقى مراراً خلال هذه الفترة بالمناضل عزيز عقراوي وبالعديد من الشخصيات الكوردية البارزة، وفي أحد الأيام بعد وفاة أخي داهم بيتنا لصوص في منتصف الليل دون أن نشعر، وفي الصباح حينما نهضت والدتي شاهدت بابنا الخارجي المشرف على الحديقة كان مفتوحاً وهناك من قصد غرفة أخي وتلاعب بأغراضه وكانت حقيبته الخاصة مفتوحة..!   (2)الكوردي الصوفي الذي قتله بطرد بريدي ملغوم - لندن - هارون محمد - 18 / 10/ 2003 .



 الحلقة: الثانية والثلاثون بعد المائة


بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

يبدو أن نظام بغداد قد أدرك مدى جرأة وشجاعة صالح اليوسفي وأنه أستطاع أن يتحدى جبروت النظام رغم قبضتهم الحديدية على زمام الحكم، وأثبت المناضل صالح اليوسفي إنهُ ضد رغبات وتطلعات نظامهم، فبعد أن عجزت السلطة عن إغرائه أو زحزحته عن نهجه القومي والوطني قرر التخلص من هذه الشخصية التي باتت تقلق مضاجع النظام.تفاصيل عملية أغتيال والدي.. وشهادة العقيد حسين بامرنىجاء يوم 25 حزيران/ يونيو1981 كانت ساعات الصباح الأولى منه مثل أي يوم عادي بالنسبة لنا، بدأ ذلك الصباح هادئاً، كلنا في البيت ما عدا أخي شيرزاد الذي كان في عمله في منطقة المسيب جنوبي بغداد، والدتي كانت قد بدأت بغسل الملابس.كان والدي كعادته في صباح معظم الأيام يبدو عليه النشاط والحيوية ويستقبلنا بأبتسامته المعهودة ويسرد لنا الأحاديث الشيقة مهما كان يحمل في قلبه من معاناة، فقد منحه الله روحاً من التفاؤل والأمل، بعد تناولنا الإفطار، وقبل أن يخرج والدي إلى الحديقة مثل كل صباح للأهتمام بها، أخبرني في ذلك الصباح أنه رأى حلماً غريباً ليلة أمس وقال: أتوقع زوزانكئ أن يحدث أمراً إما أن يكون مفرحاً أو عكسه تماماً، وقد أخبرني بالذات لأنني أيضاً سردت لهُ عن حلم مزعج راودني في المنام قبل يومين من ذلك اليوم المشؤوم.. حاولت أن أستدرج أبي وهو يتوجه إلى الحديقة وأنا أتبعهُ وأترجاهُ أن يروي لي حلمه.. لكنهُ أبتسم وأخبرني سنرى ماذا سيحدث.. ثم تركني ومضى إلى الحديقة، بدأت أشعر في ذلك الصباح ببعض القلق أجهل سببه..؟!في حوالي الحادية عشر صباحاً، رن جرس الباب الخارجي مرتين، لم يسمعها أبي لأنهُ كان في الحديقة، فذهبت نحو شباك غرفته ومن خلالها ناديت على أبي وأخبرتهُ بأنه هناك مَن يطرق الباب فهل أذهب..؟ أجابني: لا أنا سأذهب لأرى.. تقدم أبي وفتح الباب في ذلك اليوم المشؤوم والطارق الشؤم، وأنا أنظر إليه من خلال شباك غرفة والدي المطلة على الباب الخارجي لأرى مَن الطارق..؟ حيث كنت ما زلت أشعر ببعض القلق، وأنا أنظر من خلال الشباك إلى أبي.. شاهدت شاباً يتحدث معهُ ثم رأيت أبي يستلم منه شيئاً.. وبعدها شاهدت أبي وكأنه يوقع على إيصال أو ما شابه ذلك..! خلال هذه الثواني القليلة أسدلت الستار وتركت الشباك، وما أن سرتُ عدة خطوات؛ حتى صدر صوت إنفجار قوي هز أركان البيت وتناثر زجاج شبابيك بعض الغرف خاصة غرفة الهول المطل على الطارمة والحديقة، وسقطت اللوحات والصور المعلقة من على الحائط.هرعت أختي هافين بأقصى سرعتها نحو الباب الخارجي لتتفقد الأمر وبعدها بلحظات أتبعتها وكنا في حالة من الذعر والهلع.. ويا هول ما رأينا..! رأينا والدي الحبيب ممداً على الأرض ومضرجاً بالدماء أمام الباب الخارجي، جلست هافين بقربه لا تعرف ماذا تفعل وهي في حالة من الهلع والبكاء والباب الخارجي مفتوحاً على مصراعيه، حيث أنفجرت الرسالة الملغومة في ثواني بين يدي أبي وهو ما زال أمام الباب، ويبدو فرّ الطارق قبل حدوث الأنفجار ربما بثواني، أكدوا لنا الجيران بأنهم رأوهُ وهو يغادر بيتنا راكباً دراجة ثم أستدار نحو الشارع الفرعي، كان في أستقباله سيارة بيك آب نوع تويوتا تنتظره هناك فوضع دراجته فيها وأنطلقت السيارة بأقصى سرعة، كما علمنا من الجيران بأن أحد رجال الأمن كان يسكن في ذلك الشارع الفرعي يدعى (رياض) كان يبدو وأنه على علم بخطوات الجريمة..!(1).ظل والدي في وعيه رغم جراحه والدماء تتدفق من يديه ووجهه وعينيه اللتين أخترقتهما شظايا الطرد الملغوم، وكانت يده اليمنى وعينيه أشد ما تضرر من جراء الإنفجار، رغم كل تلك الجراح كان يحاول والدي النهوض لكنه لم يقوا على ذلك من شدة إصابته، أسرعت لأنادي والدتي وهي في الحمام، وظلت هافين قرب والدي تبكي وتصيح، جاءت والدتي مسرعة وقد أصابتها الصدمة فهرعت تستنجد بالمارة وهي في حالة من الهيستريا.. ركضتُ نحو الباب الخارجي  للكراج لأستنجد بالجيران، وقد أنهارت قواي من شدة الصراخ والبكاء وجلست على الأرض أفرش عزائي وأسودت الدنيا أمام عيني حينما رأيت والدي الحبيب في مثل هذا المشهد الأليم الذي لا يفارق ذاكرتي ما حييت.تجمع الجيران والمارة حولنا بعد سماعهم صوت الإنفجار وصراخنا، وأصابتهم حالة من الهلع والرعب.. بادر الجيران بايقاف إحدى سيارات المارة بالصدفة أمام البيت، كان صاحب السيارة مُتعاطفا وبادر على الفور للمساعدة دون تردد وحملوا والدي إليها، فذهبت والدتي برفقة والدي يرافقهما أحد أبناء الجيران قاصدين مستشفى اليرموك الأقرب إلى محلتنا في حي الشرطة الأولى، ونقلاً عن والدتي كان والدي ما زال بوعيه ويحاول أن يتكلم لكنه لم يستطيع إلى حين وصولهم مستشفى اليرموك الأقرب إلى محلتنا.أتصل الأقرباء بأخي شيرزاد في مقر عمله وأخبروه عن الحادث ليلحق بوالدتي في المستشفى، عرفنا من والدتي لاحقا أنهم أدخلوا والدي إلى قسم الطوارئ وكانت علامات الأستغراب بادية على وجوه الأطباء لهذا الحادث الغريب، وأدخلوه إلى صالة عمليات الطواريء.ونقلًا عن أبن خالي الدكتور بنكين خليل، كان طبيباً حينها في مستشفى اليرموك ذكر.. بأنه حضرت سيارة سوداء اللون إلى المستشفى وفيها بعض الرجال الذين كان واضحا على سماتهم أنهم من رجال الأمن، ولم يغادروا المستشفى إلى أن تأكدوا من وفاة والدي..!كنا في البيت بأنتظر أمي ولم نعلم شيئاً عن مصير أبي، كانت قد أتصلت أختي هافين بجميع أقاربنا وأصدقاء والدي وأخبرتهم عن حادث أغتيال والدي، ومن بينهم خالي خليل وأبن عم والدي العم خالد اليوسفي وأبن خال والدي العقيد طه بامرني، وصديقيه الأقربين إليه حسين بامرنى وعارف بامرني، فهرع الجميع إلى بيتنا وهم مصدومين وفي غاية الحزن، وجاء في مقدمتهم العقيد حسين بامرني حيث كان منزله كان في حي الشرطة على بعد مسافة من بيتنا.يذكر العقيد حسين بامرنئ من خلال شهادته:(( كنا نسكن معاً في حي الشرطة في بغداد، كانت صداقتنا جميلة وقوية جداً، في أحد الأيام ومن خلال أتصالتنا قررنا أن نلتقي في أحد الأيام نسترجع من خلالها ذكريتنا لكي ندونها، وبعدها بأيام قليلة وفي ذلك اليوم الحزين أتصلت بي أبنته هافين وهي تبكي وأخبرتني عمي هناك شيئاً أنفجر بأبي ووقع على وجهه وعيناهُ غائرتان أرجوا أن تأتي لنجدتنا.. وقبل أن أصل إلى بيتهم كان هناك أحد جيران قد أخذهُ إلى مستشفى اليرموك.. وأخبرني أطفاله لا تتركنا سوف يقتلوننا أيضاً(2))).ما بين الواحدة والثانية ظهراً أسلم والدي الروح في مستشفى اليرموك متأثراً بجراحه البالغة التي أصيب بها، بينما نحن في البيت ننتظر الأخبار حول والدي الحبيب بقلق، كنا ندعوا الله أن يعود مهما كانت إصابته.يضيف العقيد حسين بامرنى من خلال شهادته:(( أتصلنا من بيتهم بالمستشفى.. أدعوا بأنه توفي قبل وصوله إلى المستشفى..!! بعد الساعة الثالثة حضر أربعة رجال بالملابس المدنية، سألوا ماذا جرى..؟ سألتهم ومن أنتم..؟! فقالوا نحن رجال الأمن، وبعد أن علموا بوفاة المرحوم، طلبوا أن يلقوا نظرة على غرفته ليجمعوا أوراقه، فرفضت وقلت لهم.. أولاده يرفضون، أجابوا على ردي.. نحن نرغب أن نجمعها حتى لا يُنهبون..! ثم طلبت منهم.. نريد أن نأخذهُ إلى زاخو ندفنهُ هناك في مقبرة والدته، قالوا.. حسناً ولكن بشرط لا يجوز أن يذهب أحد معهُ.. قلت.. لهم أنا سأرافق جنازنه حتى لا يعطلونهم في السيطرة، أجابوني هذه مسؤولية دائرتنا نحن سوف نتصل بهم حتى لا يعطلونهم.. وكما كان واضحاً يبدو أن تلك المادة المتفجرة كانت قوية جداً.. خلال تلك الفترة جاءت أجهزة الشرطة والأمن للتحقيق في الحادث..؟!(3))).الشاهد الأول على هذه العملية كنت أنا، فحققوا معي وأخذوا إفادتي عن تفاصيل الحادث وما رأيته أمام عيني وسجلوا كل كلمة قلتها، كنت في حالة إنهيار نفسي ولم أنتبه لأسئلتهم ولم أعرف ماذا كانت ردودي عليها؟ وقد أدركوا ذلك ثم غادروا في مسرحية ركيكة بدت مفضوحة..!تعقيباً على إدعاء المستشفى للعقيد حسين بامرنى بأن والدي توفي قبل وصوله إلى المستشفى..! كان إدعاءًا كاذبًا وملفقًا..! فأذا كان والدي قد توفي قبل وصوله المستشفى.. لماذا إذن أدخلوه صالة العمليات ولماذا بترو يده المصابة..؟! يبدو واضحاً أن نهاية خطوات جريمة الأغتيال قد أكتملت في المستشفى..! عادت أمي عصراً إلى البيت واجمة وفي حالة من الانهيار النفسي والحزن والهلع الذي كان يبدو واضحاً على ملامح وجهها، وبصحبتها أخي شيرزاد الذي كان منهارًا تمامًا حزنًا ووجعًا، حيث كنت واقفة أمام باب الكراج انتظارهم بقلق، تقدم أخي نحوي وهو يرمقني بنظرات أسى وحزن، نظرنا إلى بعضنا بصمت رهيب، وكأن هناك صراخا يدوي من أعماق كلانا لا أعلم هل أواسيه أم أواسي نفسي؟! علمت من خلال صمته ونظراته أن أبي رّحل وأنتهى كل شيء..! حضنني بكل حنان، فشعرت وكأنها أحضان أبي الحبيب، وكأن روحه هي التي تحضنني لتودعني.في مساء ذلك اليوم، حضرت مجموعة أخرى من أفراد الأمن بدعوى أستكمال التحقيق، طلبت منهم والدتي الموافقة على نقل جثمان والدي إلى قضاء زاخو ليتم دفنه هناك، وهذه كانت دائماً وصيته لها في حالة وفاته، وكأنه كان يستعد لهذا اليوم، في البداية ترددوا على الموافقة وطلبوا من والدتي أن تدفنه في بغداد، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى ثورة الجماهير في زاخو، لكن والدتي أصرت على طلبها بناءً على وصية والدي، وأعلمتهم أنهم في حالة رفضهم فإنها ستذهب بجثمانه إلى كربلاء لدفنه هناك، أمام إصرارها وافقوا على نقل جثمانه إلى مسقط رأسه في زاخو... يتبعالهوامش:(1)لاحقاً إحدى جارتنا (من مدينة عانه) ذات الشهامة لم تتحمل هذا الظلم وهذه الحادثة فرمت بوجه ذلك الشخص الذي يدعى رياض وقالت له بكل جرأة.. تعملون عملتكم وكأن شيئًا لم يحدث.. وكانت تشيد المديح بأبي وتذكر مآثره وطيبته، عند هذا المشهد أقول.. شتان ما بين الثرى والثرايا وشتان ما بين هذه المرأة ذات النخوة والشهامة التي تحدت الظلم ودافعت عن والدي وقالت كلمة حق في وجه الباطل ولم تخشى وهي في ظل جبروت النظام.. بينما رؤوساء كورد حكموا العراق بعد السقوط ولم يفكر واحد منهم أن يسأل كيف ولماذا أغتيل المناضل الكبير صالح اليوسفي..؟؟!! وهم يتغافلون أن عرش هذا الكرسي كان ثمنه دماء أبي ودماء الآلاف من شهدائنا الأبرار.(2)(3)مقتطف من مقالة باللغة الكوردية للعقيد حسين بامرنى - سالح يوسفي كى يه؟ و ئه ز جوا دنياسم (من هو صالح اليوسفي؟ وكيف أعرفه).





 الحلقة: الثالثة والثلاثون بعد المائة

بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي


بعض من التصريحات وشواهد عيان..نقلاً عن الأستاذ هارون محمد:(( في الخامس والعشرين من حزيران (يونيو) 1981 توفي السيد صالح اليوسفي السياسي الكردي والوزير السابق متأثراً بالجروح والأصابات التي لحقت به أثر أنفجار طرد بريدي سلمهُ أياها يداً بيد (موزع البريد) عرف فيما بعد أنهُ ضابط في مديرية الأمن العامة برتبة مفوض يعمل في الشعبة الثالثة المخصصة لمكافحة النشاط الكُردي.. وأن موزع البريد سلم الطرد بيد اليوسفي والتوقيع بقلمه بأعتبار أن الطرد مُرسل إليه من نجله الذي يدرس في الخارج.. بعد أن وقع على مستند التسليم الرسمي وغادر الموزع المكان بسرعة وما أن أستدار اليوسفي دوى أنفجار هائل هز أركان البيت وسقط الرجل على الأرض والدماء تتدفق من أنحاء جسمه الذي أخترقته شظايا الطرد الملغوم وكانت يده اليمنى الذي تسلم قبل لحظات الرسالة ووقع بها إيصال التسليم قد تضررت كثيراً.. ورحل صالح اليوسفي الرجل الكُردي الصوفي الهادئ المتواضع والزاهد الوزير السابق وأحد أبرز مساعدي الملا مصطفى البارزاني ). نقلاً عن السيد وريا محمد أمين زنكنه من كركوك:(( كان والدي محمد أمين زنكنه أحد المناضلين مع والدك الشهيد، حيث كان والدي مسؤول التنظيم الداخلي في الحركة الاشتراكية الديمقراطية (بزوتنةوةى سوشياليست) في كركوك وكان متأثرا بشخصية والدك كثيراً ويجود به ويعلم الكثير من الأسرار في حياته السياسية، وكان محتفظ بها قبل إشتشهاد والدكم بأيام، وكان هناك في البدايات أتصال بين والدكم والشهيد علي عسكري عن طريق والدي، وقبل أستشهاد والدكم كان هناك أوامر لوالدي بإخراج الشهيد من بغداد.. لكن مع الأسف عندما وصل الخبر إلى والدي بيوم واحد أغتيل والدكم الشهيد.. بعد استشهاد والدكم ألقوا القبض على والدي وسجنوه وعذبوه أشد التعذيب لكي يعترف على الخلية الداخليه في كركوك وبغداد، ولكنه لم يبوح بأي كلمة، ولايزال آثار التعذيب شاهدة في جسم والدي لحد الآن..). من خلال تصريح الأخ وريا محمد أمين يبدو واضحاً أن الواشين والمندسين بعد أغتيال والدي أخذوا يمولون النظام بأسماء الشخصيات القيادية في الحزب الأشتراكي الديمقراطي الكوردستاني.. كما حصل مع القيادي محمد أمين زنكنه من جراء أعتقال وتعذيب على أيدي النظام البائد. نقلاً عن الأخ سردار سنجاري أبن المناضل الكبير علي سنجاري يذكر عن لحظات سماعهم بأغتيال والدي في دمشق قائلاً:(( أختار المناضلون الكورد الشرفاء درب الشهادة وسعوا إليها دون تردد وقارعوا أعتى الأنظمة إجراما وديكتاتورية ومنهم من نال هذا الشرف العظيم والشهيد الحي والدكم في مقدمتهم ليكونوا نموذجاً من الصمود والتضحية في سبيل أمتهم التي عانت الويلات وما تزال تعاني، مهما كتبنا عن الشهيد الخالد صالح اليوسفي فأننا لن نوفيه حقه.. ولكن أكتب للتاريخ كيف أستقبلنا نبأ إستشهاد الشهيد الخالد صالح اليوسفي.. كنا في دمشق آنذاك وكان والدي يتابع كل تفاصيل العملية السياسية بدقة، وعاد يوماً إلى المنزل وهو في غاية الحزن والإنزعاج سألناه عن سبب حزنه قال:(( لقد أغتالو معلمي وقدوتي في النضال.. الأوغاد أغتالو رجل السلام صالح اليوسفي..)) كان خبر إستشهاد والدكم البطل وقع علينا كالصاعقة.. عندها عرفنا حجم الحزن الذي في داخل والدنا لمعرفتنا بمكانة الشهيد ومنزلته المميزة عند الوالد رحمهما الله، وساد صمت رهيب للحظات ونحن نتأمل وجه والدنا الذي ساده الحزن الشديد لفقدان أحد أهم الشخصيات القيادية الكوردية التي كان يؤمن بنهجه وفكره وللتاريخ أقول لم أسمع والدي يقول عن قيادي كوردي معلمي وقدوتي إلا عن الشهيد صالح اليوسفي.. وفي ذلك اليوم أقسم والدي أن الأمر لن يمر مرور الكرام وأن النظام يجب أن يدفع ثمن عملته الجبانة هذه وتم بالفعل توجيه ضربات قاسية إلى قوات النظام بعد أيام من إستشهاد والدكم الشهيد..)).ذكر الأستاذ شيرزاد شيخاني: (( لقد فجعنا بفقد هذا المناضل الكبير في مثل هذا اليوم.. أتذكر أنني كتبت رسالة رثاء في ذكراه الخامسة ونحن في جبل قنديل، عام 1986 وأذعتها في إذاعة الثورة للحزب الاشتراكي الكردستاني.. وكان رحمه الله يعرف تمامًا أن السلطات الدكتاتورية سوف تغتاله، لكنه لم يبالي وراح شهيدًا.. مثواه الجنة إن شاء الله..)).صرح لي الأستاذ (ج. ر): (( أختی الفاضلة والمناضلة.. هناك حقائق لكن صعب إعلانها أو نشرها والله لدينا تحفظ وشك بأستشهاد الوالد.. نحن في كركوك والسليمانية وهضبة شهروز والحلبجة الشهيدة كلنا تألمنا وتأثرنا كثيراً بأغتياله حينها، إخواننا الپشمرگە الأبطال نفذواعمليات كبيرة إنتقاما لإستشهاد الوالد، كان إستشهاده وما زال جرح في داخلي لم ولن يعالج والله بدون مجاملة مع العلم أنا كنت من تنظيم (كۆمەڵەی ڕەنجدەران)، وما زال البعض لحد الآن يغارون حتى من ذكر أسم الوالد الشهيد..))..!!يذكر المناضل فاروق ئاكره يى: اليوسفي.. يبقى رمز السلام والحرية ومقاومة الظلم، لايمكن نسيان من ضحى بحياته من أجل السلام والإنسانية ورفض خدمة المحتل من أجل منصب وجاه، إحترامنا لمن مر على مذكراتكم الوفية لشهيد الأمة، كنت برفقة الإستاذ(محمد فؤاد بامرني)نتمشى في زاخو، حيث فجأة إقترب مني (أحمد تروانشى) كان من الپيشمرگة ورفاقنا في الموصل، وبصوت حزين والدموع في مقلتيه همس في إذني.. لقد قتلوا سه يدا صالح ودفن الشهيد، حاولت التماسك بصعوبة وألم ساندني (أحمد ومحمد فؤاد) وتنفست بعمق وتوجهنا إلى دار خالكم(خليل) وما أن دخلت، حتى إحتظني الراحل شقيقكم (شيرزاد) وصاح وردد (لقد قتلوا،،سه يدا،،) كان الموقف هـائل الحزن، في ذكرى أربعينية الشهيد رافقت (فيصل نزاركي،عبدالله جنيد، عمرحسن - أبو خطاب، حسن محمود- أبوخه بات...) وهم من المناضلين المعتبرين في دهوك وزرنا عائلة خالكم المحترم وتبادلنا الحديث عن مسيرة وعظيم خصال الشهيد المغدور، لنا العزاء في وفائكم ومقدرتكم لإحياء تأريخ ومسيرة الوالد.. ننحني بإجلال لكفاح ومقاومة اليوسفي..ما بعد أستشهاد والدي..بعد عودة والدتي من المستشفى ولحين قيام الإجراءات الرسمية والترتيبات اللأزمة لنقل جثمان والدي الحبيب إلى زاخو.. أسرعت والدتي نحو الطرد الأول الذي وصلنا قبل حوالي شهر تقريباً من ذلك التاريخ والذي أشرت إليه خلال الحلقة السابقة(2) وكانت والدتي في حالة من الذعر والإنهاك لما قاسته طوال النهار برفقة والدي في مستشفى اليرموك من آثار تلك الجريمة البشعة، وقد أدركت بأن ما قام به النظام ما هي إلا تصفية حسابات وبقرار شخصي من صدام ضد أية شخصية يشعر بالخوف منه، وبهذه الطريقة أنتهت خطوات الجريمة بعد أن تأكدوا أو بالأحرى أكملوا الجريمة في المستشفى..! كنت أراقب والدتي بألم وأعلم بخطوات قرارها بعد أن عثرت على الطرد الأول بكل محتواياتها وحتى بمظروفها، تمنيت في هذه اللحظة لو كنت أستطيع أن أأخذها منها وأحتفظ بها مثل بقية الأوراق التي منحني أبي، لقناعتي إنها أشياء تخص والدي وليس من حق أي أحد التصرف بها، ولكنني كنت أضعف من أن أواجه والدتي بالرفض أو أمنعها من أن تتصرف به وهي في مثل هذه الحالة من الإنهيار النفسي والجسدي. منذ طفولتي ومثل هذه المشاهد تتكرر أمام ناظري..! دون أن أكون مقتنعة بها، فهناك ألف وسيلة ووسيلة أن يحتفظ الإنسان بأرشيف وأرث تاريخي ونضالي، أخذت أمي الطرد وأشعلت النيران في ورقة تلوا الأخرى وأنا أراقبها والدموع تنهال على وجنتيّ، ثم جمعت رمادها ورمت بها في مجاري المياه حتى لا يبقي أي أثر لهذا الطرد المشؤوم، فقد بدأت والدتي تخشى علينا خاصة على أخي شيرزاد فيما إذا عادوا رجال الأمن لتفتيش البيت مرة أخرى، كما علِمت من العقيد حسين بامرنى بأن رجال الأمن كانوا ينون تفتيش غرفة والدي وقد أستطاع العقيد حسين بأسلوبه المحترم وبخبرته ورجائه بأن يؤجلوا هذا الشأن حالياً.   بعد أتمام الإجراءات والترتيبات إلى زاخو، العديد من الأقرباء وأصدقاء والدي رغبوا وألحوا كثيراً أن يرافقوا موكب جثمان والدي إلى زاخو ولكن النظام الجبان رفض رفظاً قاطعاً.. خوفاً من تقوم ثورة جماهيرية قد تنفجر في أية لحظة خلال وصول الموكب إلى كوردستان.سار موكب الجثمان مع ساعات الليل الأخيرة بعد إعداد كل التجهيزات، كنا أنا ووالدتي وأخي شيرزاد من عائلتنا، ومن أقربائنا كان معنا أبن عم والدي العم خالد اليوسفي وحرمه وأبنه المهندس يوسف وخالي خليل عبدالله وحرمه أبنه الدكتور بنكين وأبنته، من خلال سيارتين فقط سار موكبنا الحزين، بقيت أختي هافين وزوجها وأختي تورين وبعضاً من أقربائنا في بيتنا لتحضير إجراءات العزاء وأستقبال المُعزين.أماني مستحيلة..كان يوما لا أنساه في حياتي، الليل أسدل ستاره والطريق يسير بنا والسيارة التي تحمل نعش أبي تسير أمام سيارتنا، كنت أتخيل أبي الحبيب راقدا بسكينة والدموع تنهمر من عيني دون هوادة وقلبي يعصر حزنًا وألمًا، راودتني أماني كثيرة خلال هذه الساعات الطويلة.. وأنا أتمنى أن يكون كل هذا حلمًا وكابوسًا على أمل أن أستفيق منه في أية لحظة.. وتمنيت من كل قلبي أن تحدث معجزة وينهض أبي من هذا السبات في أية لحظة لدرجة أنني كنت أقول لهم أنظروا إليه مرة أخرى ربما ما زال قلبه ينبض أو أستفاق من رقاده..! حالات من الهيستريا والهلوسة كانت تداهمني ونحن نمضي إلى حيث مرقد أبي الأخير.. تمنيت من كل قلبي لو يعود الزمن ويتغير وأن يكون الطرد الأول الذي فتحته بنفسي هو الذي كان ملغوماً وأنفجر بي.. تمنيت لو كنت أنا مَن فتح الباب وتفجر الطرد بي وليس بوالدي الحبيب..  تمنيت أن يطول الطريق أكثر فأكثر إلى ما لا نهاية على أمل أن يستفيق أبي الحبيب، وتراءت أمام خاطري كل اللحظات السعيدة التي قضيتها برفقة هذا الأب الحنون.. الثائر الشجاع.. البطل الجريئ المُحب ليس فقط لشعبه بل للإنسانية جمعاء.. ألف نور وسلام على روحك الطاهرة أبي الحبيب وستبقى أبد الدهر خالدًا في قلوب كل محبيك ومريديك.. وتباً لكل ظالم متجبر.وصل موكبنا الحزين إلى مدينة زاخو مع ساعات الفجر الأولى، كان الخبر الحزين قد وصل إلى خالي عبد اللطيف والعم الفاضل الحاج مصطفى اليوسفي اللذان كانا يسكنان في زاخو، فرّتبوا وأعدّوا بدورهم كل التحضيرات لمراسيم الدفن والعزاء، الرجال في بيت العم الحاج مصطفى والنساء في بيت خالي لطيف وهو نفس بيت جدي القديم الذي يقع في (محلة الروت) والمنزلان كانا متجاورين في نفس المحلة... (يتبع)الهوامش:(1)الكوردي الصوفي الذي قتله بطرد بريدي ملغوم - لندن - هارون محمد - 18 / 10/ 2003 .(2)الحلقة الثلاثون بعد المائة.



الحلقة: الرابعة والثلاثون بعد المائة

بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي


أول أيام العزاء..أخذوا جثمان والدي إلى بيت جدي لأمي في محلة (الروت)، ونقلًا عن خالي لطيف عبدالله:(( قام بغسل جثمان والدي الحاج محمد الخياط الذي شاهد مدى بشاعة الجريمة والدماء الزكية التي كانت ما تزال ندية وتسيل من جثمانه الطاهر.. فلم يستطيع الحاج محمد السيطرة على مشاعره.. فأخبر الجموع المحتشدة حول المنزل بالإصابات الشديدة التي شاهدها والطريقة الوحشية التي تم بها عملية الأغتيال..))، وبعدها أخذوا والدي إلى جامع زاخو، وكان إمامه رجلًا وطنيًا شجاعًا يدعى ملا حمدي عبد المجيد.. الذي صاح بدوره في الجموع الغفيرة من أهالي زاخو التي أجتمعت في الجامع مناديًا بحزن وغضب:(( أنظروا ماذا فعلوا بأبن زاخو سه يدا صالح اليوسفي))..؟! كما ألتحق بالمعزين أيضًا في زاخو عدد آخر من أقربائنا من ناحية شرانش ومن مدينة دهوك.قررت مجموعة من الشباب المتحمسين والمتأثرين من حادث أغتيال والدي القيام بمظاهرة، يطفون أرجاء مدينة زاخو حاملين نعش والدي في شوارع زاخو وذلك قبل دفنه تنديدًا بهذا العمل الإجرامي وبتشجيع من إمام الجامع ملا حمدي، لكن بعض الرجال من أقربائنا ومن بينهم العم خالد اليوسفي وأخوالي (خليل وعبد اللطيف) شعروا بالقلق.. فرفضوا هذا الإقتراح وقاموا بتهدئة هؤلاء الشباب خوفًا على حياتهم من بطش الحكومة ورددوهم السلبية.. فتوجه موكب الجثمان إلى مقبرة زاخو وتمت إجراءات الدفن في ذلك الصباح الحزين تحت مراقبة شديدة من أفراد مديرية أمن زاخو(1) ووريَّ جثمان والدي الثرى في المقبرة المطلة على نهر الخابور الذي تغنى من خلال قصيدته المعبرة (لگه ل رووبارێ خابوورى - مع نهر الخابور(2)) وكأنه كان يحاور نهر الخابور في مثل هذا اليوم..!ورغم وجود أفراد الأمن وجواسيسهم في المقبرة فإن ذلك لم يمنع محبي ومريدي والدي والخيّرين من أبناء بلدته زاخو من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانه الطاهر، وبادر أحد شباب زاخو الوطنين وهو السيد أحمد عقراوي بالوقوف وسط الجموع داخل المقبرة وألقى بكلمة خلال مراسيم الدفن جاء فيها: (( يا أبناء زاخو لديَّ كلمة.. الأستاذ اليوسفي ولد وعاش فقيرًا متواضعًا، وأستشهد ولم يؤذ أحدًا في حياته وقضى حياته في تواضع، لم يكن له من هدف في الحياة سوى تحقيق الحرية والتقدم لشعبه، لذلك فآلاف من طلابه ومريديه يعاهدونه للسير على خطاه، وأنا واحد من هؤلاء الطلاب)). هذا كان بالنص ما قاله أحمد عقراوي، الذي وبعد إكمال مراسيم الدفن استدعته مديرية أمن زاخو للتحقيق معه تلك الكلمة الحماسية، وقد نجّاه الله بأعجوبة من بين أيدي أزلام النظام، ويبدو أن الموقف الأمني في زاخو ذلك اليوم لم يكن يتحمل المزيد من الاحتقان بعد أغتيال والدي.قضينا أيام العزاء في زاخو في ظل أجواء من الحزن والألم الرجال في بيت العم الفاضل الحاج مصطفى عبد الرحمن اليوسفي والنساء في بيت خالي عبد اللطيف، وأكثر المواقف التي كانت تزيد من حزني وآلامي خلال أيام العزاء، حين كانت بعض النسوة يلقين الرثاء بالغناء الحزين على والدي ينشدون عن نضاله الطويل ومعاناته وآلامه وعن طيبته وصفاته وخصاله الحميدة، فكانت تنتابني حالات من هيستيريا البكاء والإغماء من خلال تلك المرثيات الحزينة والمعبرة بأصوات نساء زاخو.إنتهاء مراسيم العزاء في زاخو..بعد انتهاء مراسيم العزاء في زاخو لثلاثة أيام متتالية، عدنا بقلوب مكلومة إلى بغداد، وأقمنا العزاء مرة أخرى ولمدة ثلاثة أيام أخرى على التوالي في بيتنا، وكان يقف في أستقبال القادمين للعزاء من الرجال أخي شيرزاد مع عدد من الأقرباء وأصدقاء والدي، منهم أبناء عموته وعلى رأسهم الأستاذ خالد اليوسفي وأولاده وأبن خال والدي العقيد طه بامرنى وخالي خليل وخالي عبد اللطيف الذي رافقنا مع عائلته إلى بغداد إضافة إلى الأصدقاء القريبين من والدي كالعقيد حسين بامرني وعارف بامرني، وقد حضر العزاء العديد من أصدقاء والدي والشخصيات الكوردية، وجميع المعزين كانوا في حالة حزن وهلع من عملية الأغتيال الغادرة، وكانت أيام العزاء هذه لا تخلو من الحضور اليومي لبعض أفراد الأمن يوميًا ليترصدوا الحاضرين ويتعرفون على شخصياتهم ويستمعون إلى ردود أفعالهم، وفي اليوم الثالث والأخير للعزاء قدموا لأخي شيرزاد بعض المال..! بأدعاء أنها مساهمة ومشاركة منهم في مصاريف العزاء، ولكن أخي رفض وبشدة، وحينما سمعت بذلك بكيت وصرخت كيف يفكر هؤلاء الأوغاد أن يشتروا دم والدي بأيديهم التي تلطخت بدمائه الزكية وأعربت عن وجهة نظري بكل تحدي وإصرار. ذكر لي خالي عبد اللطيف الذي جاء برفقتنا إلى بغداد مع عائلته، أن زوجته أم محمد، تجولت في حديقة دارنا للبحث عن أية إشارة أو دلائل على جريمة أغتيال والدي، فقدرّ الله وشاهدت بين أحراش الحديقة أحد أصابع والدي الحبيب مع بقايا قلم حبر..! فأخبرت خالي في الحال الذي بادر بدوره ودفن أصبع والدي في حديقة دارنا بصمت ولم يخبرنا حتى لا نتأثر ويزيد ذلك من ألمنا وحزننا.    كما أخبرنا العديد من الأصدقاء الكورد في المحافظات الأخرى من كوردستان وخاصةً من مدينة السليمانية وضواحيها، أن الكثير من العوائل هناك وضعوا مراسيم العزاء على والدي في منازلهم وبين أقربائهم وجميعهم كانوا متأثرين جدًا على فقدانهم لشخصية قيادية كان أملهم الوحيد لأستمرار نضالهم ونيل حقوقهم. خلال أيام العزاء سألني أبن عم والدي الأستاذ حازم اليوسفي عن مكتبة والدي الخاصة، فقلت له إنها في غرفته بالطابق الثاني، فطلب أن يراها، فأخذته إلى غرفة أبي وبرفقته أحد أبناء العم خالد، أخذ حازم يبحث ويدقق في أرشيف والدي الخاص، تركتهما لفترة ثم عدت إليهم شاهدت بين يديه بعض الأوراق تخص والدي وكتاب، أخبرني أنه سيأخذ هذه الأوراق والكتاب لأن وجودهما يُشكل خطرًا علينا في البيت، حقيقة وأنا حينها وبذلك العمر وفي تلك اللحظات العصيبة، لا أنكر أنني أقتنعت بوجهة نظره ولم أرفض فليس لديّ خيار آخر فيما إذا تعرضنا للتفتيش من قِبل النظام وأجهزته.كما طلب مني العم خالد اليوسفي أيضًا أن أسلمه المجموعة الكاملة لقصائد والدي التي كتبها بخط يده، خوفًا من عثور أفراد الأمن عليها وإتلافها إذا ما تعرض بيتنا للتفتيش، خصوصًا وأن معظمها من القصائد الوطنية، فسلمتها له أيضًا وظلت تلك القصائد بحوزته إلى يومنا هذا، أما ما سلمني إياه والدي قبل أستشهاده وقتئذ وبأن أحرص على الاحتفاظ بها في مكان آمن، وكما أشرت فقد حافظت على تلك الأمانة ووعد أبي ولم يعلم بها أحد سواي، والحمد لله أستطعت الاحتفاظ بها إلى ما بعد إنتفاضة 1991، فحينها فقط عرضتها على أخي شيرزاد ليطلع عليها عندما رأيت الوقت مناسبًا لاطلاعه عليها.. ظناً مني وأملًا أن يواصل مسيرة والدي، وقد أستغرب أخي كيف أخفيت عنهم كل هذه الرسائل والمذكرات السرية طوال هذه السنين دون أن أخبر أي فرد من العائلة.. فأخبرته أنها كانت أمانة أوصاني بها والدي وأردت أن أكون على قدر هذه المسؤولية وخشيت أن تحرقهم أمي إذا ما عرفت بهم، فأخذها أخي وأطلع على كل محتوياتها بدقة ولعدة أيام، وللأسف الشديد لا أعرف المصير الذي آلت إليه تلك المجموعة من الأرشيف التاريخي لوالدي بعد أن وافت المنية أخي شيرزاد فجأة وفي ظروف غامضة في 16 نيسان 1993.بعد إنتهاء مراسيم العزاء أستدعت مديرية الأمن العام والدتي وأخي شيرزاد لإحدى دوائر الأمن... يتبعالمصادر والهوامش:(1)يذكر الأستاذ (آ. ع. م): (( عرفنا الشهيد سيدا صالح اليوسڤی من خلال كتاباته ومواقفه السياسية والأنسانية، وكذلك من قبل الأهل والأقارب منذ صغرنا خاصة في مرحلة الشباب وبالأخص عند استشهاده، أتذكر كان العزاء في محلتنا في زاخو، وكانت المحلة مطوقة بالأمن والمخابرات، كنت أرى في وجوههم الرعب والخوف.. رحل الشهيد وبقي في قلوبنا وعقولنا.. أما المرحوم شيرزاد، كنت أعرفه شخصياً كان يحب صيد السمك، فكنت أصطاد السمك معه في بعض الأحيان لكن علاقة الصداقة بدأت معه بعد إنتفاضة ١٩٩١  كان صديقا للمرحوم الشهيد ريناس، كان دائماً يزورنا ونتحدث، كنت أحب الحديث معه، كان له بعد نظر للامور والأحداث، كان يكره السياسة والسياسيين، أتذكر عندما صار عنده إحباط بسبب حدث ما.. كتب منشورا ضد كل الأحزاب السياسية وأراد طبعها ونشرها، لم نكن متفقين معه بالنشر بسبب الوضع الحساس، وأتذكر بزيارتنا لبيتكم أكثر من مرة، أحتراما وتقديرا لشخصيته ومواقفه وبعد نظره للاوضاع، فقدناه لكن باقي في قلوبنا وعقولنا كبقاء الشهيد سيدا صالح اليوسڤي..)).(2)كتب الشهيد صالح اليوسفي قصيدة (لگهل رووبارێ خابوورى - مع نهر الخابور) وهي قصيدة شكوى وعتاب وأنين لنهر الخابور في عام 1941، وقد زودني أحد الأخوة الأفاضل بالمزيد من أبيات القصيدة، ومنها ما أتذكره حين كان يلقيها لي والدي، القصيدة باللغة الكوردية موجودة في تصميم الحلقة. مع نهر الخابور (لگه ل رووبارێ خابوورى)

فداك أيها الخابور العزيز

مسافر، لا قريب ولا صديق

جريح ساكت أخرس

مهاجر لاوطن ولا سكن

***

ما أرقك وأجملك يا خابور

أخضر، أحمر وذوو شلالات ملونة

ولكن لماذا أنت ساكت..؟

إلى متى تبقى أبكما معي..؟


***

في شلالك الذهبي 

نقش ألف جرح

مخبوء ورائه الرحيق اللذيذ

***

وجه مجراك نحوي يا خابور

 أرجوك تحدث معي

لا تخفي الآلام والأحزان

فلقد بقيت دموع العيون معلقة بها

***

دعني..(ياخابور) لٲتكلم

 لٲفرغ القلب المهموم

 لٲسكب قطرات الدم القاني

فٲنا ملتهب، حجل دائخ

*** 

من بين شلالاتك الذهبية

 جروح كثيرة مدفونة

 وٲمیرات بهية راقدات

***

 ٲلحان الجبال والوديان

 آهات الفقراء والمعدومين

 مآسي الفلاحين والعمال 

قد حملتِها لسنين طويلة

ترجمة إلى اللغة العربية: الأستاذ أسعد محمد طاهر زيباري

نقلها إلى اللاتينية: الأستاذ نوزت دهوكي.. وهذا نصه

Li gel çemê Xabûr 

Helbestvan

Salihê Yosivî

Nemînim Xabûrê delal

 Rêvinkê bê kes u heval 

Birîndarê bê deng u lal 

Koçerê bê welat u mal 

Xabûr, çendê nerm u şengî

Kesk u sořî, sîpel řengî 

Belê bo çiê lê bê dengî

 Lalî di gel min, heta kengî 

Nav sîpelê te yê zêřîn 

Nexşandîne hizar birîn

 Veşartîne şehîyê şirîn 

Xabûr berê xwe bide hêve

 Hîvî dikem, di gel min baxve

 Derd u êşa ne nixêve

 Rondikêt çava man pêvemin bihêle 

ez dabêjim dilê pengî daverêjim 

çipkêt xîna sor darêjim

 nê ezim sutim purî gêjim

 linav sîpelêt te yêt zêr

 veşartîne hizar birîn

 nivistîne şihît şêrîn 

awazêt çîya u nihala

 axînkêt jar u ebdala 

kovanêt cotyar u pala

 te helgirtin hizar sala 




الحلقة: الخامسة والثلاثون بعد المائة.. والأخيرة

بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

بعد حوالي أسبوع من إستشهاد والدي صادف شهر رمضان المبارك، كان أول رمضان نقضيها دون والدي الحبيب، فكان شهراً حزيناً على قلوبنا، خاصة وقد تعودنا أن نقضي أجواء شهر رمضان برفقة والدي الذي كان يزيد علينا من بهجته.تحقيق مع والدتي وأخي شيرزاد..  أستدعت مديرية الأمن العام والدتي وأخي شيرزاد بعد مراسيم العزاء في بغداد، وأجروا معهما تحقيق حول العديد من الأسئلة، ولم تكن هذه الخطوة مفاجأة لوالدتي وأخي بل كانا يتوقعانها في أية لحظة، وكان واضحاً من خلال ذلك لكي يحصلوا على المزيد من المعلومات حول شأن نشاط والدي بعد أن تأكد لهم عن ممارسته لنشاطه السياسي وإنه زعيماً لهذا النشاط وذلك ببركة الواشين والعملاء.من بين هذه الأسئلة والتحقيقات كانت في مقدمتها عثور أفراد الأمن على قصاصات صغيرة لرسائل كانت قد أحترقت في إحدى جيوب والدي نتيجة الانفجار..! وعلى أساس أنهم عثروا عليها أثناء وجوده في المستشفى..! وهذا يثبت تواجدهم في مستشفى حينها..! فأخبروا والدتي أن هذه القصاصات كانت تحتوي على مقتطفات سياسية وإنهم يستفسرون عن مصدرها..؟! والأنكى من ذلك أنهم أطلعوا والدتي وأخي على رسالة أخرى كاملة كانت بحوزتهم دون أن يشيروا إلى مصدرها..؟! كيف وصلت إليهم تلك الرسالة الثانية ومَن الذي سلمها لهم..؟؟!! الله أعلم..كان هذا الأستجواب وعلى هذا السؤال بالذات بمثابة صدمة ومفاجأة لوالدتي ولأخي شيرزاد ولم يكونا يتوقعانها لذا كان موقفاً لا يحمد عليه..! ولكن والدتي كعادتها كانت مسيطرة على التحقيق فقد تعودت على مثل هذه المواقف وهي تعرف جيداً كيف تتعامل من خلالها (وسبقت وأن أعلمت أخي شيرزاد بأن يمنحها الفرصة أولاً في الرد حول أي سؤال..) فأجابت والدتي بجرأتها المعهودة.. بأنها لم تعرف عن هذا الموضوع شيئاً مطلقاً لا هي ولا أولادها ولم يسبق لها يوماً أن تكلمت مع والدي أو تدخلت في شؤون والدي السياسية لا ماضياً ولا حاضراً.. وإن دورها كان يكتفي فقط بتربية أطفالها طوال رحلة مسيرة حياتها مع والدي.. وحتى بشأن الرسالة الثانية فقد أبدت والدتي عن أستغرابها بشأنه وظلت تأكد بأنها لا تعلم شيئاً لا عن مصدرها ولا عن مُرسلها، ورغم أنهم كان يبدو ولم يصدقوا ردود والدتي كما سمعت منها.. إلا أن هذه هي الحقيقة فعلاً.. حيث لم تكن تعرف والدتي ولا حتى أخي شيرزاد ولا أي شخص من بيتنا بتلك الرسائل، وأنا كما أشرت سابقاً وفي إحدى حلقاتي بمحض الصدفة كنت أعثر على تلك الرسائل السرية ولم أكن أعلم حينها حتى ما هي مضمونها أو مصدرها وأن بذلك العمر، ولكن من طريقة تغليفها كنت أدرك أنها رسائل سرية تخص والدي.. فوالدتي بعد آلام ومعاناة وخيبة نكسة 1975 تغيرت كثيراً حيث كانت لا ترغب حتى بسماع أي حوار أو نشاط سياسي يخص والدي لا هي ولا أخي شيرزاد، وأخي شيرزاد كما هو معروف بطبيعته لم يكن يحب السياسية مطلقاً، حتى حينما يصادف ويتحدث معه والدي أحياناً في مثل هذا المواضيع.. كنت ألاحظ أخي وهو يلتزم بالصمت فقط.. ثم أستفسروا عن مَن الذي كان يزورنا في المنزل وبمن كان يتصل والدي في الأيام الأخيرة..؟! فأخبرتهم والدتي بأن زائرينا ليسوا سوى أقربائنا القريبين منا فقط أو أصدقاء العائلة من الشخصيات المعروفة في بغداد من أمثال السادة فؤاد عارف والعقيد حسين بامرني وعارف بامرنى وصلاح سعدالله... وليس هناك شخص غريب من بينهم، طال التحقيق معهما وكان يتركز بالأساس على والدي ونشاطه السياسي محاولين أن يحصلوا عن إي دليل أو أسماء يقودهم إلى مبتغاهم.. ولكن ظلت والدتي مسيطرة على الوضع بكل شجاعة ودبلوماسية وهي تفني إي إدعاء أو تهمة، والحمدلله رحمة الله كانت واسعة أنقذت والدتي وأخي بأعجوبة من خلال هذا التحقيق.كنت وأختي وجدتي في البيت في حالة من القلق والهلع على غيابهما لفترة طويلة من خلال هذا التحقيق، وخشينا أن يحتجزا أو يعتقلا، فكل شيء كان جائزا من هذا النظام، وسررنا عند عودتهما سالمين بعد ساعات.. لم تكن أمي مرتاحة مطلقًا بعد عودتها من هذا التحقيق وكانت في حالة من التوتر والقلق، وهي تخبرنا:(( إنهم لن يكتفوا بهذا التحقيق.. بل سيكون هناك المزيد.. خاصة لديهم دلائل من رسائل.. ولا شك سيأتون لتفتيش البيت للبحث عن أي دلائل أخرى من مثل هذه الرسائل.. وتلك القصاصات التي عرضوها علينا يبدو أنهم يريدون العثور على المزيد منها..)) وهنا أسرعت والدتي مرة أخرى تبحث عن أي شيء يخص والدي وكأنها في حالة من الهيستيريا في ظل بحثها عن كل ما يخص والدي من الأرشيف..!! عثرت على بعض الأوراق العادية التي تخص والدي فبادرت على الفور على حرقها..! وأنا أراقبها بقلق وخوف.. نظرت إليّ نظرة حادة وثاقبة..! فأرتعدت منها وهي تسألني: هل تعرفين عن المزيد عن أوراق ورسائل والدك..؟ شل لساني وأؤمئت برأسي بأني لا أعرف.. ولكن يبدو وأنها لم تقتنع حين لاحظت وجهي الذي أكتسحه الشحوب وردة فعلي الذي كان واضحاً على قسمات وجهي وظلت ترمقني بنظرات حادة وعصبية وكأنها تحذرني إن كنت أخفي شيئاً..! أو تريد أن تتأكد من ردة فعلي..! وخشيت كثيراً أن تعلم بأنني أخفي عنها شيئاً أو ربما أدركت بأمانة والدي.. وتحت أستمرار نظراتها الحادة لي باصرار وأنا في حالة من الخوف والهلع.. وحتى أنقذ نفسي من هذا الموقف ومن نظراتها التي طالت قلت لها في الحال: لا تخشي.. حازم أخذ كل شيء من غرفة أبي خلال أيام العزاء... وهنا فقط تحولت نظرتها لي ما بين الأستغراب من جهة والطمئنينة من جهة أخرى..! وشعرت أنها أرتاحت بعض الشيء من ردي، فألتزمت بالصمت وأنشغلت هي بإحراق الأوراق.. فحمدت ربي أنني أقنعتها بهذا الرد.. وبادرت على وجه السرعة إلى غرفتي وأنا أتنفس الصعداء من هذا الموقف الصعب وأخذت أرتب أمانة والدي التي أمنني عليها وخبئتها في دولابي وبين كومة الملابس بأحكام وأقنعت نفسي بأنه من المستحيل أن يفتشوا غرفتي، ثم عدت إلى حيث والدتي مرة أخرى.. رأيتها تحاول التخلص من شريط تسجيل يخص المقتنيات الخاصة بوالدي، (كان هذا الشريط التسجيلي من نوع الشرائط القديمة ذات البكرة وليس نوع كاسيت) وكنت سبق وأن لاحظت هذا الشريط في مكتبة والدي، كان مكتوب عليها.. سري..! وكان قد قادني الفضول سابقاً وفي أحد الأيام أن أستمع إليها مرة..! فجربتها على جهاز مسجل قديم كان لدينا.. كان يبدو شريطاً سياسياً يشبه أجتماعاً أو تحقيقاً..! بالطبع لم أفهم منها شيئاً مطلقاً وأنا بذلك العمر.. فعدت ووضعتها في مكانها مرة أخرى دون أن أجرأ أن أسأل عنها.. وفي النهاية أصبحت رماداً بين ركام الأوراق المحروقة التي أشعلتها والدتي..!بعدها بيومين تقريبًا وخلال ساعات المساء طرق بابنا وجاء إلى بيتنا شخصين من أفراد الأمن أستقبلهم أخي شيرزاد جلسوا معه في غرفة الضيوف لفترة ثم طلبوا من أخي الإطلاع على مكتبة والدي الخاصة..! كانت مكتبة والدي بما يضم مجموعة كتبه الخاصة.. منها ما هو مهداة إليه من الشخصيات ورؤساء الدول حين كان بمنصب وزير بعد أتفاقية 11 آذار 1970 - 1974، ومنها كتب سياسية وثقافية وعلمية ودواوين مهداة من الشعراء بالإضافة إلى أرشيف من مجلدات التآخي ومجلدات مجلة  (شمس كوردستان - روژ كوردستان)، كلها كانت مرتبة على رفوف مكتبتين في غرفة أخي شيرزاد الخاصة به، أما مكتبة أبي الخاصة به والتي كان يكتب الرسائل الأخيرة وما يخصه من أرشيفه الخاص فكانت في غرفته في الطابق الثاني من منزلنا، فكانت مبادرة حاذقة ولبيبة من أخي شيرزاد حين أخذهم إلى غرفته وأخبرهم بأنها مكتب والدي الخاصة به وفيها كل ما يخصه، فأطلعوا لقرابة ساعة على المكتبة.. وبعد إنتهائهم طلبوا أن يأخذوا معهم مجموعة من الكتب حسب رغبتهم كذلك بعض من مجلدات صحيفة التآخي.. تحضرنا خلال أربعينية والدي ومع نهايات شهر رمضان وقرب حلول عيد الفطر وغادرنا جميعاً إلى زاخو، يذكر الأستاذ فاروق مصطفى:((حضرت برفقة فيصل نزاركى وعبد الله جنيد وحسن محمو وأبو خطاب عزاء سيدا يوم الأربعين، بكينا وبكى شيرزاد معنا، وتذكرت قول سيدا حين قال:(( أتشرف بالشهادة من أجل الوطن والسلام..)) كما زرته في نقده بداركم، وحينها فَضّل عودته وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأنه لا يمكن الإستهانة بغدر الشاه، وفي المنفى كنا نزوره مع طيب الكيشكي، أبو خطاب، فؤاد عقراوي، ملا علي به روشكي، علي حسن وآخرين، كان سيدا مصلحًا ومفكرًل، وإنسانيًا، صادقًا في أفعاله وأقواله، كانت آرائه وستبقى الضمانة للمستقبل والحاضر بفكره الخالد ونحن مدينون لتراثه ونضاله.. رحمك الله يا عزيز الوطن أبا شيرزاد).مضت أشهر قليلة على هذه الحادثة الأليمة وبقينا وحيدين في العاصمة بغداد، حيث إن العديد أنقطعوا عن زيارتنا، ربما لأن أغلبهم خاف على نفسه أو على عائلته لعل بيتنا يكون تحت المراقبة، حتى الاتصالات الهاتفية أنقطعت عنا، وأصبحنا مرة أخرى وحيدين وكأننا في المنفى..! فشعرنا أن وجودنا في بغداد أصبح بغير ذي معنى، فأخبرت أخي شيرزاد بأنني ما عدت أطيق العيش في البيت بعد رحيل أبي وغيابه بيننا في هذا المنزل، وكنت قد حرَّمت على نفسي من مكانين في منزلنا لم تطأهما قدمي منذ يوم رحيل أبي، وهما غرفة الهول حيث مكان كرسي والدي الحبيب الذي أعتاد الجلوس عليه، فلم أستطع رؤية كرسيه فارغًا، وكذلك حديقة منزلنا التي لم أعتاد يوماً أن أراها من غير وجوده فيها.. تفهم أخي شيرزاد موقفي وهو أيضًا كان يشعر بنفس الشعور، فقررنا أختيار الرحيل إلى مسقط رأسنا في زاخو، وكان لدينا هناك بيت قديم بناه والدي في الستينيات، أعدنا ترميمه بشكل بسيط وأنتقلنا إليه لنعيش فيه بقرب والدي الحبيب.. بعد أنتفاضة 1991 توافدوا أغلب القادة والشخصيات الكوردية ورؤساء الأحزاب الكوردية على بيتنا في زاخو بعد إعلان المنطقة الآمنة في كوردستان العراق، منهم مَن قام بواجب العزاء وزار ضريح والدي.. ومنهم مَن كان قادماً لمحاولة كسب أخي شيرزاد.. كلٌ يحاول أستمالته إلى حزبه..! وكان من بين الزوار أيضاً شخصيات ووفود حزبية ووطنية من كافة أجزاء كوردستان، ومن الشخصيات الوطنية العراقية، كان سماحة الإمام الشيخ محمد مهدي الخالصي.حتى قيام الانتفاضة عام 1991 كان لحدَ والدي مجرد كومة من التراب بدون شاهد، وفي عام 1995 بنينا ضريحه بشكل متواضع ليبقى شاهدًا عليه، وليستدل عليه من يحفظ ذكراه كواحد من أبرز رموز وزعماء الحركة التحررية الكردية في التاريخ الكوردي.. وأخترتُ بنفسي هذه الآية الكريمة ليكون الشاهد على ضريح والدي:(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَيَقۡتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة آل عمران - 21)). عاش والدي ثائرًا ومناضلًا ومتواضعًا زاهدًا عن مباهج الدنيا.. ومات شهيدًا وغنيًا بحب الملايين من محبيه ومريده.. عاش نسرًا شامخًا ورحل زعيمًا خالدًا.. فسلامًا على روحه الخالدة وعلى أرواح جميع شهدائنا الأبرار.. ويبقى السؤال ما الذي جنى منهُ النظام بعد أن أغتالوا فليسوفاً وحكيماً وسياسياً فذاً.. قومياً ووطنياً..؟! وفي كل الأحوال أستمر حزبه ونهجه وأستمروا رجاله من مريديه ومحبيه على نهجه الخالد.. وسيظهر ألف يوسفي ودارا وشوكت وعلي وكاردوا ووووووو............. وفي النهاية كان الخاسر الأكبر هو النظام نفسه.. 

تم عمل هذا الموقع بواسطة