الحلقة: الحادية والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
المواجهة الأخيرة (الجزء الأول)كانت الفترة بين عام 1980 إلى حين أستشهاد والدي في حزيران 1981 تعتبر من أصعب الفترات التي مرت على والدي بشكل خاص وعلى حياتنا العائلية بشكل عام لِما جابهنا فيها من أحداث وتحديات وحذر وتوتر ومعاناة ن
فسية مريرة.أستمر والدي على مراسلة رفاقه يحثهم على مواصلة المسيرة النضالية في المناطق المحررة ومحاولة أبتعادهم عن كل الأطراف الأخرى التي كانت لا تتوافق معهم أو تستفزهم.. إلا من خلال نطاق الدفاع عن النفس كما ذكر والدي في إحدى رسائله:(( أحثكم إنطلاقاً من مصلحة شعبنا وأستراتيجية الحزب الاشتراكي الكوردستاني المضى في نهجكم الموضوعي وتحاشي الصراعات الجانبية من مختلف الأشكال مع اليقظة والحذر إلا في حدود نطاق الدفاع الشرعي كما ذكرتم وإبداءا أحسن العلاقات الممكنة معه ومع جماعته مع التحرر من كل تبعية والحرص على أستقلاليتكم وتعاونكم المتكافىء..(1))).أما من الجانب الآخر وبعد أن طفح الكيل لدى والدي من سياسة النظام حيث كان يحاول مراراً كشف الممارسات الخاطئة التي كان يمارسها النظام أمام المسؤولين الحكوميين اللذين كانوا يزورونهُ من خلال زيارات دورية بين الحين والآخر.. ربما لجس النبض عما إذا كان لوالدي نشاطات سياسية فلا شك كانت تصلهم الأخبار عن طريق الواشين.. أو من خلال معرفة أفكاره ورأيه عن الأوضاع والأحداث، فكان والدي يوضح لهم وجهات نظره والأخطاء التي ترتكب من قِبل النظام وبكل جرأة، وحين كان يصرح برأيه ذلك أمام هؤلاء المسؤولين ومن ضمنهم أحياناً فاضل براك (مدير الأمن العام حينها) شجعهُ الأخير بأن يكتب مذكرة إلى الرئيس الجديد يطرح فيها عن وجهة نظره حول هذه الأمور.لم يكن صعباً على والدي أن يحاول القيام بتلك الخطوة لعل وعسى أن يصل إلى تحقيق هدف لأمته المنكوبة، حيث بقيت القضية الكوردية على حالها السابق وأستمرت حملات التشريد والترحيل والأعتقالات بحق الشعب الكوردي، خاصة وقد أصبح صدام حسين حينها في أوج غروره وهو يتقلد منصب رئاسة الجمهورية ويدير دفة الحكم بقبضة حديدية، وهذا ما حفز والدي على إرسال مذكرة طويلة وجريئة إلى صدام حسين بتاريخ 30 تموز/ يوليو 1980 وإنها أقل ما توصف به أنه لم يسبق أن قام به أي زعيم سياسي عراقي في تاريخ العراق الحديث بأرسال مذكرة جريئة مثلها إلى الحاكم وخصوصاً إنها جاءت بعد عام فقط من إستلام صدام للسلطة بعد أن أعدم مجموعة من رفاقه في القيادة بحجة المؤامرة.كانت المذكرة الموجهة لصدام شخصياً فيها الكثير من الحقائق بشأن سياسة العراق محللأ تلك الأمور ببعد نظر سياسي وحكمة وخبرة عميقة وبأسلوب دبلوماسي وحضاري يرشد مرة وينتقد أخرى ويظهر الأساليب والنتائج السلبية من خلال الممارسات السياسية الخاطئة خاصة بحق الشعب الكوردي إضافة إلى التحذيرات المهمة بشأن مستقبل وسياسة العراق، كانت بحق مذكرة بالغة الحكمة وبجرأة وأسلوب محترم لعل وعسى بأستطاعته تنوير صدام لإعادة حساباته من خلال أسلوبه وحكمه الدكتاتوري، وحل قضية الشعب الكوردي بالشكل المناسب وخاصة حين يشير والدي إلى فشل الأساليب التي يتبعها النظام حين أشار في مذكرته إلى صدام حسين: (( كالأخذ بأساليب إنصاف الحلول أو ميوعتها أو الحلول التكنيكية والمرحلية والدعائية والمسرحية والتضليلية أو الحلول القسرية والزجرية..إن جميع تلك التجارب قد أثبت بشكل أكيد ليس فقط على فشل أمثال هذه الحلول بل قد أدت وتؤدي إلى تعميق أزماتها المتفاقمة وأستفحال أضرارها المدمرة..))ولا تخلوا المذكرة من الكثير من بعد نظر والدي حول مستقبل العراق السياسي. ولو كان صدام حينها لديه ذرة من الحكمة والعقل لأخذ هذه المذكرة على محمل الجد والتنفيذ والتطبيق كخارطة لطريق مستقبل العراق السياسي، ولأستطاع من خلالها تجاوز العديد مما تعرض لهُ العراق وشعبه من ويلات الحروب والمآسي والمعاناة التي لا حصر لها منذ بداية حكمه.. ولحد الآن يتجرع الشعب العراقي سياسة حكمه التي مارسها على مدى ربع قرن..! ولكن للأسف لا حياة لمن تنادي.. فشعور صدام حينها بنشوة الغرور والتباهي بالنصر وتقلده لمنصب رئاسة الجمهورية وطموحه لنيل المزيد من هذه الهيبة من خلال الحرب العراقية الإيرانية وغزوه للكويت وحرب الخليج الأولى والثانية مما جعلهُ بعيداً كل البعد عن الواقع والنظر بعمق وبُعد النظر إلى ما ستجنيها مثل هذه السياسات الرعناء وما سيواجههُ العراق وشعبه من دمار قد يستحيل العودة به إلى مكانته وزخم موقعه السياسي والأستراتيجي. كانت تلك المذكرة الموجهة إلى صدام حسين تتألف من أحد عشر صفحة وكان أعمق وأشد موقف فيها حين واجهه والدي بمقولة سيدنا عمر بن الخطاب (رض) حينما خاطب جموع المؤمنين ( أيها الناس من رأي منكم فيّ إعوجاجا فليقومني..) وكانت هذه المقولة موجهة إلى صدام شخصياً مذكرة إياه بأنه غير معصوم من الأخطاء، وقد أحتوت هذه المذكرة على كل ما كان يدور في أعماق ووجدان اليوسفي من دلائل على الممارسات الشوفينيه للسلطة العراقية أتجاه الشعب الكوردي، وبيّن بالبراهين إجراءات الحكومة لمحو الهوية الكوردية.. وسأحاول مدى الإمكان كتابة مقتطفات مهمة من الرسالة، وأرجو أن لا يغيب عن بال القراء بأن الرسالة كانت في تموز 1980 فأرجوا الأنتباه إلى ذلك التاريخ والأبتعاد عن ما جاء بعدها من الأحداث والممارسات فكما أشرت سابقاً لكل حدث حديث ولكل مقام مقال.جاء في رسالة والدي ما يلي: ((السيد الرئيس صدام حسين أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الأشتراكي ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية العراقية المحترمأرجو التفضل بقبول فائق أحتراماتي متمنياً لكم التوفيق من أجل خدمة المصلحة العامة.. لا يخفى لدى سيادتكم إن العراق أمانة غالية أو بالأحرى مقدسة في أعناق وضمير كل مواطن غيور على حمايته وأستقراره وأزدهاره الأمر الذي يفرض عليه بأن يساهم بكل ما لديه من جهد نبيل في سبيل خدمة هذا الوطن الغالي وشعبه الطيب الذي يضم بين جناحيه القوميتين المصيريتين والأقليات القومية ليبوأ مكانته السامية بين أرقى الحضارات المعاصرة في العالم والإيفاء بالتزاماته المبدئية على الوجه الأمثل في مختلف المستويات والأصعدة مع حركتي القوميتين وحركات الدول الإسلامية وعدم الأنحياز والتحرر والسلم والتقدم في العالم بحكم أرتباطاته العضوية ومصالحه المتفاعلة المتشعبة والمتدرجة معها جميعاً. لقد وهبكم الباري عز وجل مسؤولية الراعي الأول لهذا الشعب المجيد ولهذا البلد الطيب الذي يفيض رخاء وثراء وبركة قلّما يضاهيه بلد في العالم وإن كان من المفروض الواجب على كل مواطن عراقي أن يكون راعياً ومسؤولاً عن رعيته حسب منطوق الحديث الشريف، إن مثل هذه المسؤولية الكبرى على عاتقكم وفي مثل هذا البلد الذي لا يزال ينوء تحت وطأة ركامات ترسبات الماضي وحساسياته التي خلفتها العهود الغابرة بكل مساوئها وسلبياتها وفي مثل هذه الظروف والأوضاع العصيبة الحبلى بالمشاكل والمفاجآت والمصالح الدولية المتطاحنة فيها وفي مثل هذه المنطقة الإستراتيجية البالغة الحساسية والأهمية الفائقتين، إن مثل هذه المسؤولية الشاقة على عاتقكم على الرغم بما تتمتعون به من مواهب قيادية وإرادة جريئة حازمة بيد إني أعتقد مستميحاً تقبل المعذرة من صراحتي المخلصة النزيهة للإنطلاق فأقول إن تلك الإرادة مهما بلغت من البأس والقوة فإنها مسيس الحاجة إلى قسط أكبر من الحكمة والصبر والتروي والموعظة الحسنة المتحررة من شوائب التملق والرياء كما حثت عليها الآية القرآنية الكريمة (أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وكما وردة في المثل المأثور (الرأي قبل شجاعة الشجعان) حيث ينبغي أن تكون كفة رجحان الأسبقية للحكمة التي تتولى مهمة قيادة الإرادة الشجاعة الظافرة في مواجهة حل جميع المعضلات وبالأخص الكبرى والمعقدة منها وليس العكس تجنباً من التورط بعض الأحيان في مزالق الردود الإنفعالية والأندفاعات في نشوة المباهاة والغرور وبالتالي الوقوع في الأخطاء العفوية التي تضر بسيادتكم وبالشعب وبالبلد كليهما معاً.لا أعين بذلك أن سيادتكم ينقصه شيء من الذكاء وثاقب البصيرة وحصافة الرأي، بل حسب أعتقادي أن هناك ثمة نوع من الأسبقية بين قوة الإرادة وشدة إندفاعاتها الصادمة وبين الأسبقية للأعتصام بالصبر الجميل والحكمة والمشورة الناضجة الصريحة والتسامح والتواضع والإنفتاح في بعض الأحيان ومن المحتمل جداً أنها تتولد من الأعتماد على بعض المعلومات الأستفزازية المغرضة والمثيرة وغير المدروسة أو من الخبر والمواعظ المتملقة المجردة من أبسط الحقائق الناصعة على علاتها أمام سيادتكم في بعض الأحيان فمن البديهي أن التطبقات الجارية على مثل هذا النوع من المعلومات والآراء أو المقترحات الخاطئة أو الناقصة أو المثيرة خاطئة أو ناقصة وتبدو مثلها ومضرة بالنسبة لحجم تلك القضية المعنية.سيادة الرئيس - إن صراحتي النزيهة المتولدة من مصلحتكم التي ترتبط عضوياً بمصلحة مجموع الشعب العراقي بصفتكم مسؤولة ورائده الأول في الوقت الحاضر، إن صراحتي هذا تنبع أيضا من مناهل تراث وتقاليد الأمة الإسلامية المجيدة وتذكرني بالحوار التأريخي الخالد الذي تسلّق ذرى الديمقراطية الحقيقية والذي جرى بين ثاني خلفاء الراشدين عمر بن الخطاب وأحد أبسط الجماهير من الأعراب حينما خطب قائلاً: (أيها الناس من رأى منكم إعوجاجا فليقومني) فأردفه الإعرابي بصوته الجهور (والله لو رأينا فيك إعوجاجا لقومنه بحد سيوفنا) والفرحة الغامرة التي ملأت فؤاد خليفة رسول الله (ص) حينما ردّ قائلا: حمداً لله عز وجل من أن هناك في هذه الأمة العظيمة من يستطيع أن يقوم أمير المؤمنين بحد السيف إذا أخطاء ويهديه على طريق الصواب.. وأنا لا أملك سوى هذه النصيحة الأمينة الهادية.لا يخفى لديكم بأن هناك من أبرز القواعد الأساسية في عالم السياسة الواقعية الناجحة هو الأخذ بمبدأ الأفضلية للأهم على المهم في كافة المشاكل التي تواجه الشعب والبلاد والمسؤولين اللذين يقودون زمام أمورهم، والتمسك بالحلول المبدئية الموضوعية المتكاملة العناصر من جميع نواحيها ومراحلها أبتداءً من مرحلة التفكير والتبلور والتخطيط والتصميم والتوجيه، حتى مراحل التطبيق والتنفيذ والتطوير هذا بالإضافة إلى أهمية الإحاطة الكاملة بأستيعاب الظروف والأوضاع المكتنفة حولها والمتفاعلة فيها لأن القضايا السياسية والأجتماعية والأقتصادية.. الخ شأنها شأن المعادلات الرياضية إذا فقدت أو أهملت عنصراً أو رقماً منها تختل التوازن وتميل كفة الرجحان نحو الوقوع في الأخطاء الحتمية.لقد برهنت تجارب الشعوب على مدى تأريخها السحيق إن الأخذ بجميع أشكال الحلول الأخرى وبالأخص السياسية والأجتماعية المعقدتين منها البالغتين الأهمية كالقضية الكوردية مثلاً كالأخذ بأساليب إنصاف الحلول أو ميوعتها أو الحلول التكنيكية والمرحلية والدعائية والمسرحية والتضليلية أو الحلول القسرية والزجرية. إن جميع تلك التجارب قد أثبت بشكل أكيد ليس فقط على فشل أمثال هذه الحلول بل قد أدت وتؤدي إلى تعميق أزماتها المتفاقمة وأستفحال أضرارها المدمرة رغم سراب الصمت والهدوء المخيمين عليها كما يبدو للعيان، وهناك ألتفاتة جديرة بالملاحظة والتقيد وهو إن الأخذ بمبدأ الأهم على المهم يجب أن تبدأ بأستكشاف حقيقة المعادلة المتكاملة لتلك المشكلة المطروحة البحث بجميع عناصرها والظروف المحاطة بها والمتفاعلة فيها ومن ثم الأنكباب على تنفيذ جميع مراحلها بعناية ودقة وإرادة جريئة حازمة كما هناك في نفس الوقت عنصر حيوي في غاية الأهمية ألا وهو إن الأخذ بمبدأ الأهم على المهم لأية مشكلة ينبغي تقديرها بالنسبة عن ضخامة حجمها وشدة تفاعلها وعلاقتها وتأثيرها بالمصلحة العامة وبالمبادئ والعلاقات والحركات السالفة الذكر.فهي بالنسبة للمصلحة الحيوية الكبرى لشعبنا العراقي والقيادة التي تتولى مهمة مسؤوليته وكثرة نسبة الحركات السالفة الذكر لكي تأخذ دورها في الأسبقية على كل القضايا تتركز بشكل أكيد وتشخيص صائب في ترصين المجتمع العراقي وتعزيز وحدته الوطنية وتصعيد قدراته المتعاظمة والذي تشكل تحالف القوميتين الرئيسيتين فيه ومواصلة دعم حركتها المصريتين بشكل طوعي مبدئي متوازن نسبياً. يشكل حجرة الزاوية في هذه الوحدة التضامنية الصلدة وتدشين لإقامة أعظم صرح أجتماعي سياسي أقتصادي روحي منتج وأهم قاعدة انطلاق لتجهيز الشعب العراقي والقضايا المصيرية بأقوى الطاقات المتدفقة الخلاقة من جميع النواحي في الحاضر والمستقبل.. حين أطرح وجهات نظري لا أقصد من ورائها أن أعتبر نفسي كمرشد.. بل ما هي إلا آراء مخلصة صريحة صادقة وخبرة ناضجة من أحد المواطنين العراقيين اللذين ناضل طويلاً وضحى كثيراً بعفة وكرامة في سبيل خدمة هذا الشعب ومصلحته ويهّمه خدمته بكل وسيلة خيرة ممكنة ومنها ممارسة حقه الشرعي في المواطنة الصالحة المتجلية في هذه الرسالة المرفوعة إلى سيادتكم بصفتكم المسؤول الأول لجميع قضايا الشعب ولعل أن تحدث إلى ما فيها خير ومصلحة لكم ولشعبكم الأمين.... يتبعالمصادر:(1)مقتطف من رسالة والدي للحزب الأشتراكي الكوردستاني.(2)رسالة والدي الأخيرة لصدام حسين.
الحلقة: الثانية والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
المواجهة الأخيرة (الجزء الثاني).في البداية.. بمزيد من الحزن أقدم بأحر التعازي وأصدق المواساة لعائلة المناضل عبد السلام كومشيني (أحد الأعضاء البارزين في الحزب الأشتراكي الديمقراطي الكوردستاني) أثر رحيله بعد معاناته من المرض، ألتحق المناضل عبد السلام مع شقيقة المناضل المعروف عبد الرحمن كومشينى بصفوف الحركة التحررية الكوردية منذ الستينيات وإلى حين نكسة عام 1975 وبعد تأسيس الحزب الأشتراكي الديمقراطي الكوردستاني ألتحق المناضل عبد السلام كومشينى بصفوف الحزب الأشتراكي في المناطق المحررة، وظل شقيقه المناضل الراحل عبد الرحمن كومشيني مواظباً بأستمرار على زيارة والدي للبحث والتداول في شؤون الثورة والقضية الكوردية ونشاطات الحزب من خلال نداواتهم وأجتماعاتهم السرية في منزلنا في بغداد، وحتى أستشهاد والدي في حزيران 1981(تغمدهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء).نعود مرة أخرى إلى أحداث عام 1980 نقلًا عن الأستاذ الفاضل نوزاد برواري:(( الشهيد صالح اليوسفي أختار طريقه بكل إخلاص وتفانٍ وكان يعرف حقيقة النظام البائد.. في آخر زيارة قام بها والدي وبصحبة العقيد طه البامرني للشهيد اليوسفي في بغداد وذلك قبل أغتياله بفترة، أطلع والدي على ما كتبه الشهيد وكان بصدد تقديم هذه الرسالة لقيادة النظام، وبعد تصفح والدي عدة صفحات من رسالة اليوسفي للنظام قال: لم أتمكن من قراءة المزيد وقلت فورًا للشهيد اليوسفي إنها مجازفة خطيرة أن تسلمهم هذه الرسائل.. ولنا تجربة مريرة مع غدر البعث..! فأجابه الشهيد بأبتسامة واسعة وهدوء: لأجل هذا أنا في بغداد، قضيتي ليست في طهران وأنقره.. أتكلم هنا بضمير أمتي ولايهمني مصيري كفرد..، هذا هو نكران الذات، كم أنت عظيم يا معلم الكوردايتي والإنسانية، وكم أنتِ وفية للوالد أختي زوزان لسردك لهذه الحقائق التاريخية..)).تتمة رسالة الشهيد صالح اليوسفي لصدام حسين بتاريخ 30 تموز 1980 يستمر والدي من خلال رسالته منتقداً تارة بأسلوبه الراقي وبخبرته السياسية الفائقة عن السياسات الخاطئة التي تنتهجها النظام.. مبيناً من خلالها وجهات نظره وتحليلاته الشخصية وبعد نظره حول الأوضاع السياسية الراهنة وحول مستقبل العراق وشعبه والمنطقة، ومحذراً تارة أخرى في إيجاد الحلول الشرعية والموضوعية لقضية شعبنا الكردي كأساس وقاعدة لحل كل المشاكل، لينعم الجميع بسلام في وطن مزدهر، فيشير والدي وبكل جرأة إذا كان يحق لهذا النظام القيام بالدور الرئيسي في قيادة العراق لا بد عليها بالتزامات الأدبية والدستورية أزاء الشعب الكردي وحقوقه ومطامحه القومية المشروعة وأن تعيد النظر في العديد من مواقفها.. قائلاً: سيادة الرئيس – أعود فأنطلق في صراحتي مستميحاً المعذرة فأقول إذا كان يحق لقيادة حزبكم القيام بالدور الرئيسي في قيادة العراق شعباً وحكومة فعليها ومن صميم مصلحتها ومبادئها والتزاماتها الأدبية والدستورية أزاء الشعب الكردي وحقوقه ومطامحه القومية المشروعة عليها أن تعيد النظر في العديد من مواقفها وملابساتها السلبية وردودها الإنفعالية الخاطئة المضرة بكليهما وإزاحة آثارها الضارة والشروع بمدّ يد العون للنهوض بحركته وقيادته الجديدتين الطبيعيتين الشرعيتين اللتين تحظيان بدعم وثقة جماهير الشعب الكردي وثقة قيادتكم مع توفير كل الضمانات اللازمة لتكونا حليفتين حقيقيتين ومصيريتين معها في السراء والضراء ودعمهما بجميع الإمكانيات المادية والمعنوية ومشاركتها معها في المسؤوليات الحقيقية النسبية في الدولة وإشراكها النسبي في مسؤولية الجبهة الوطنية كثاني قوة فيها هذا بالإضافة إلى ضرورة إفساح المجال لها للقيام بدورهما الرئيسي في قيادة وتوجيه جماهير الشعب الكردي وضمن نطاق اطار التحالف والتشاور والتعاون والأحترام المتبادل.. علماً بأنه من طبيعتها وهي القوة السياسية الكردية في العراق غير منافسة لقيادتكم ولأي قوة سياسية أخرى في حكم العراق لا في الحاضر ولا في المستقبل بل دعم وسند كبيرين لها فيما إذا أتخذتا مسيرتها الشرعية الطبيعية معها - ومن صميم مصلحة ومبادئ قيادتكم اسنادهما في نفس الوقت بالتشاور والتوجيه المنشودين فيما بينهما لقيامهما بألتزاماتهما القومية الشاملة لها بشكل مباشر أو غير مباشر مع جميع الحركات والأحزاب والأتجاهات الكوردستانية الأخرى في الدول المجاورة وفي الخارج لتصبحا قوة متعاظمة مع قيادتكم وتؤهلهما القيام بتصعيد وتائر طاقاتهما الخلاقة ولحماية العراق ورفع عزته ومكانته وتطويره نحو أرقى درجات الكمال الحضاري. ولتساهم معها بالتزاماتهما المتضامنة أتجاه القضايا العربية المصيرية بفعالية فائقة وفي كل القضايا الدولية.أستميح المعذرة من مواصلة أستئناف رحلتي من صراحتي المعهودة المنبثقة من المواعظ الحسنة والمصلحة العامة. ففي إعتقادي إن توريط قيادة الحركة الكردية في المواجهة المسلحة والأضرار الفادحة المترتبة عليها - مهما تذرعت بالمبررات كنتيجة لبعض مواقفكم الأستفزازية السلبية ومن ثم الترسبات الخاطئة والمضرة الناجمة من ردود الأفعال الانفعالية من لدن قيادة الحزب والثورة خاصة بعد أتفاقية الجزائر عام 1975 إزاء القضية وعدم الأخذ بوسائل وسبل معالجتها السياسية الجذرية المتكاملة ليس فحسب بل حتى محاولة طمس حقيقة وجود شرعية شعبنا ومشاعره ومتطلباته القومية وإدارة ظهرهما عن جوهر بيان 11 آذار التاريخي والبعض من التزاماتها وقراراتها المبدئية والدستورية المهمة في صلبه وحتى تجاهل دور شعبنا في هذا الانجاز العظيم بدرجة يبدو وكأنها كانت مناورة تكتيكية مرحلية نابع عن ضغوط ظروف وأوضاع معينة وأهواء أشخاص خاصة بدلاً من كونه كان وسيظل كوثيقة شعبية تأريخية نفيسة تجسد حاجته ومصلحته وطموحه القومي المشروع ونابع من مبادئ ومصلحة قوميتين تقدميتين أصيلتين ومن مثل إنسانية وإستراتيجية راسخة مستقرة لا تتبدل ولا تتغير مهما تبدلت الظروف والأوضاع والأشخاص والأهواء لكونه ملك للشعب العراقي بأسره يعبر ويجسد عن حاجته ومصلحته الضروريتين للغاية وحاجة ومصلحة الأمة العربية. إن مثل هذه المواقف السلبية حسب نظري بحق شعبنا وطموحه ومشاعره القومية المشروعة وقضيته العادلة بالإضافة إلى المحاولات الأخرى التي تماثلها الموجهة لحد الآن ودون أية مصلحة أو مبرر كمحاولة إجهاض الحركة الكردية وإنهاكها أو أمتصاصها أو تحجيمها أو تبني ودعم هياكل صورية أو كلاسيكية تقليدية منتفعة لفظتها الظروف والأوضاع الاستثنائية غير ملتزمة أو مقيدة بأية عقيدة أو مبدأ والمعروفة بكرهها لدى الأكثرية الساحقة من جماهير الشعب الكردي. هذه علاوة على المحاولات السلبية الأخرى الموجهة نحو تنحية الحركة الكردية من مسيرتها الصحيحة وأصالتها الشرعية وإفراغها من قيادة طبيعية قوية متحالفة تحالفاً مبدئياً ومصيرياً مع قيادة الحزب والثورة بعد توفير كل الضمانات اللازمة من أجل ذلك مع مواصلة سياسة التمسك بالأساليب السلبية الأخرى حول عدم معالجة هذه القضية معالجة سياسية جذرية سليمة كأنصاف الحلول أو ميوعتها أو الحلول الدعائية والمسرحية أو الحلول الانمائية المتسمة بطابع الترضية المؤقتة وتحكم الظروف الاستثنائية في المنطقة أو الأخذ بالحلول القسرية والزجرية رغم تقدير وتثمين العديد من المشاريع الإنتاجية المفيدة فيها. في أعتقادي قد برهنت تجارب الخمس سنوات المنصرمة بشكل أكيد على فشل جميع أمثال هذه الحلول والمحاولات السلبية والناقصة بحق معالجة قضية شعبنا الكردي معالجة أساسية كاملة تنسجم من مبادئكم والتزاماتكم ومصلحة الشعب العراقي والقضايا العربية المصيرية بل أدت إلى إلحاق أفدح الأضرار ليس فقط بالشعب الكردي بل بمصلحة قيادة الثورة والحزب وبالشعب العراقي وقواه المسلحة والقضايا المصيرية العربية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وأسفرت أيضا إلى إضرام هذه المشكلة وتعميق أزمتها وأحتمال تفاقمها يوماً بعد يوم نتيجة الأستمرار على ممارسة تلك الأساليب والمحاولات المبتورة والخاطئة وللظروف والأوضاع المتوترة والمثيرة في هذه المنطقة الخطيرة فغدت كطاحونة تمتص جزءً لا يستهان به من موارد الدولة وتشغل حجماً ضخماً من القوات المسلحة والعديد من أجهزة الدولة علاوة على إلحاق الأضرار البشرية الغالية وتحكم الظروف والأوضاع الاستثنائية غير الطبيعية في هذا الجزء المهم والخطير من الوطن العراقي العزيز وتأثيرها الكبير في جميع النواحي السياسية والأجتماعية والأقتصادية والمصيرية. إن بقاء هذه المشكلة الكبرى دون حلها الصائب والتي قلما تخلو عائلة ما في العراق إلا تتأذى وتتأثر منها بشكل مباشر أو غير مباشر ولا يستفيد من بقائها معلقة أو ملتهبة سوى كل أعداء الشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته وأعداء الثورة من المنتفعين والمتطفلين والمتاجرين والمستغلين في الداخل والخارج والذين يسعون بشكل محموم وبشتى المحاولات الأستفزازية المثيرة للحؤول دون معالجتها السليمة لتظل كبقرة حلوبة تدّر عليهم باللبن السحت الحرام وتضمن مصالحهم وأهوائهم الشخصية المضرة بالشعب والبلاد وقيادتيهما أيضا. سيادة الرئيس – إن ضخامة حجم هذه القضية وآثارها وتوسيع رقعتها وتنامي المشاعر القومية المشروعة للشعب الكردي في العراق والدول المجاورة وفي كل مكان من هذه المنطقة الحبلى بالمشاكل المتفجرة التي تحاول أستثمارها وأستغلالها مختلف الأوساط الداخلية والخارجية في مآربها ومصالحها الخاصة وعلى رأسها الدول الكبرى.أقول إن قوة فاعلية هذه القضية والنتائج الخطيرة المترتبة عليها تتجاوز القطر العراقي وتشمل نطاق الدول المجاورة وفي عشرات بل مئات الألوف من الأكراد الموجودين في عديد من الدول تلتهب مشاعرهم ومطامحهم القومية أزاء كل ما تمس من قضية وحقوق شعبهم من كل مكان وفي مثل هذه المنطقة التي غدت بؤرة ومحطات للصراع الدولي المحموم، إن هذه كلها بالإضافة إلى إخفاق جميع الحلول والأساليب الخاطئة أو المبتورة التي أتخذت بحقها لحد الآن والآثار السلبية الضارة المترتبة حولها. إن كل هذه تدفع بهذه القضية الملحة الكبرى وتفرض بأن تستأثر بالدرجة الأولة من الأسبقية بالرعاية والاهتمام من لدن سيادتكم وقيادة الحزب والثورة لكي تحتل وضعها ومكانتها الحقيقي في مركز الصدارة وتأخذ مجراها الطبيعي وحلها الموضوعي المنشود.سيادة الرئيس - إنكم مع قيادة حزبكم وفي مثل هذه الظروف والأوضاع المتأججة التي تتحدون وتتحداكم مشاكل ومؤامرات وأوضاع متفاقمة خطيرة جداً أنتم في أمس الحاجة إلى كسب ثقة ومودة هذه الملايين من جماهير الشعب الكردي الوفي الشجاع وذلك بشكل مبدئي راسخ لإشباع حقوقه ومطامحه القومية المشروعة بدلاً من الأحتفاظ بشلة من المنتفعين اللاهثين وراء مصالحهم الشخصية المعروفة وجعل الأكثرية الساحقة من جماهير الشعب تقف موقفاً سلبياً منكم أو عدائياً. إن هذا الشعب الباسل الغيور لم يضمر يوماً من الأيام أية كراهية أو ضغينة أو تجاوز أو إيذاء وضرر إلى شقيقه الكبير الشعب العربي بل كان وسيظل صادقاً ووفياً وحامياً أميناً في واجبات والتزامات ومصالح إخوته المبدئية المصرية الروحية معه وإذا حدث شيء يخالفها على مدى تاريخهما العريق الطويل المتوغلين في القدم فهو بمثابة حادث عابر طارئ يستوجب تجاوزه مع آثاره ودفنهما إلى الأبد وعدم السماح لأية ردود انفعالية أو غلّ تعكر صفو أجوائهما المصرية المتلاحمة النقية.... يتبعرغم هذه الأرشادات والنصح والتوجيهات البليغة والحكيمة من والدي الشهيد.. إلا أن نشوة الغرور كان قد بلغ مداهُ لدى النظام..!فكانت النتيجة شتى أنواع الدمار والخراب والويلات على الشعب العراقي برمته ولحد الآن...!!
الحلقة: الثالثة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
المواجهة الأخيرة (الجزء الثالث).تتمة رسالة والدي لصدام في 30 تموز 1980من خلال هذه المقتطفات من الرسالة يؤكد والدي وبكل جرأة بأن القضية الكوردية لم تحل كما ينبغي بل ظلت باقية دون حل صائب..سيادة الرئيس: - ليس هناك أحد في العراق أو من الأوساط الدبلوماسية الخارجية يجهل بأن القضية الكوردية في العراق وعلى ضوء ألتزاماتكم الدستورية المبدئية المنصوصة قد حلت كما ينبغي بل تعتقد أنها ظلت باقية كقضية مزمنة دون حل صائب وسوف تظل كذلك طالما ظلت تلك الأساليب والمحاولات والتصورات والردود الأنفعالية السلبية الخاطئة التي تجاوزها الزمن تتخذ بحقها وطالما تظل تلك العناصر والأوساط الداخلية والخارجية المتربصة بها تستغلها في مصالحها وأهوائها الشخصية الآثمة بمختلف وسائل الدَّس والتحريض والأستفزاز فغدت تلحق أفدح الأضرار بالشعب وقواه المسلحة وبخزينة الدولة والمصلحة العامة والوحدة الوطنية والغدر والإسائة للقيادة وسمعتها الأمر الذي يتطلب باصرار وإلحاح على ضرورة التمسك بالحكمة والموعظة الحسنة والإنفتاح والمودة النوايا الطبية والإدارة الخيرة وأستئصال كافة الأساليب الكلاسيكية التقليدية السلبية البالية وإزاحه آثارها الضارة وتقليم أظافر تلك العناصر والأوساط المعادية المتطفلة التي تتغذى على بقاء هذه المحنة وتفاقمها والأخذ بجميع الأساليب والتصورات الموضوعية الإيجابية المتكاملة لتفويت الفرص على كل المنتفعين والمتطفلين ووضع حد نهائي لتجنب العراق من كل تضحية مادية وبشرية غاليتين ليس فقط بل حتى من إراقة قطرة دم نفيسة فوق أديمه المبارك الذي خلق ليكون موطناً للمودة والتآخي والأزدهار ولتضمن جميع الشروط والمقومات المؤهلة لترسيخ صرح وحدته وأستقراره ورفع مستوى رفاهية شعبه من جميع النواحي الحضارية نحو أرقى الوتائر المتعارفه في أرقى الدول وإنطلاق كل طاقات الشعب وقواه المسلحة في حمايته وعزته وفي القضايا المصيرية سيما خلال الظروف والأوضاع الخطيرة الراهنة. أما محاولة تجاهل ذلك أو إغفاله والأستمرار في ممارسه الأساليب التقليدية السلبية أو الردود الأنفعالية المتسمة بطابع التشفي والعنصرية في كثير من الأحيان والتي عفا عليها الزمن فهي بالإضافة إلى كونها منافية لمصلحتكم وسيادتكم ومقرراتكم بكل تأكيد فإنها حسب أعتقادي تعزز مراكز ثلاثة أوساط وأتجاهات كلها معادية للمصلحة العامة وهي قد كانت ولا تزال تسعى جاهده بمختلف وسائل الدس والوشاية والاثاره والتضليل وإبقاء هذه القضية الكبرى معلقة وملتهبة جرياً وراء مصالحها وأهوائها المتطفلة لكي تظل قيادة الحزب والثورة في حاجة مستمرة لتحقيق مصالحها وتعزيز مراكزها الطفيلية المرتبطة ببقاء هذه القضية وإدامتها بشكل مباشر أو غير مباشر وهذه الأتجاهات والعناصر والأوساط هي كما يلي: -أخوتي الأعزاء.. لم أتطرق إلى تفاصيل النقاط وذلك لعدم الإطالة وسوف يضاف إلى كتابي في حينها، وبصورة مختصرة يشير والدي من خلال هذه النقاط إلى العناصر والأوساط الأنتهازية المتطفلة والجهات المعارضة التي تهمها مواصلة توريط البلد في مشكلة (القضية الكوردية) كما يشير إلى والأوساط الدولية المختلفة التي تستجيب بقاء هذه المشكلة وأستفحالها بأساليبها السلبية لتحقيق رغباتها والإيقاع بها لكي تظل مرغمة تدور في فلك مصالحها وأطماعها وبالتالي محاولة الإطاحة بها مع تلك الجهات المتلاحمة ومصالحها المشتركة.كما أود هنا أن أشير أن رسالة والدي هذه وعلى ضوء أهمية هذا الموضوع التاريخي، ومن حسن الحظ إنها جاءت في وقتها كرد مكمل وشهادة واضحة وصريحة من والدي وبخط يده(1) على الرد حول سؤال الدكتور حميد عبد الله للأستاذ فاروق رسول حين سأله عن أسباب عودة والدي وهنا تأتي إشارة والدي حول ذلك الموضوع والحدث وهو يشير قائلاً: لقد حاولت بعد عودتي المبكرة وبدافع الحرص والإخلاص للمصلحة العامة وتجنبها من مخاطر الأخطاء العفوية والردود الانفعالية الضارة فحاولت مقابلة السيد الرئيس بكر وسيادتكم نظراً لأهمية كسب ثقتكم وقناعتكم بهذا الشأن وضرورة الأخذ بجانب الصفح والتعاطف والإنفتاح وإصلاح البين وتعزيزه بروح نقية طاهرة بدلاً من الأخذ بالردود الإنفعالية المتسمة بالضغينة، والمباشرة للإصلاح من جديد على القضية الكردية وحركتها وقيادتها التي تورطت في مغامرة المواجهة، والحد من الردود الإنفعالية غير المبررة بعد ضمها بروح نقية وتصفيتها من العناصر المشبوهة والمسيئة والطارئة والمنتفعة مهما كانت مركزها ووضعها على طريق التحالف المصيري والاستراتيجي المشترك المضمون لإنهاء هذه القضية من جذورها الأساسية وتفويت الفرص على كل المنتفعين والمتاجرين والمفضوحين من الداخل والخارج.. حاولت إجراء هذه المقابلة بدافع الخير والفلاح ليس غير وأعتقد لو كانت قد تمت في حينها والتمكن من كسب ثقتكم وقناعتكم الايجابيتين بشكل مباشر كان بالإمكان وحسب إعتقادي إنهاء هذه القضية وتسويتها نهائيا ووفق مصلحتكم والشعب الكردي وحركته وقيادتها الجديدتين والمتحالفتين معكم مع ضمان مصلحة كل الشعب العراقي وقواه المسلحة والقضايا المصيرية..علماً بأني كنت قد ألتقيت مع المرحوم البارزاني ليلة صبيحة عودتي وتباحثت معه بشكل منفرد حول ضرورة العودة إلى رحاب العراق العزيز وأسترداد كل ثقة وتعاطف وتحالف قيادة الحزب والثورة من جديد وبشكل مصيري مكين والأشتراك سوية في محو الآثار الضارة البليغة التي ألحقت بالعراق نتيجة التوريط في أحابيل التحريف والمواجهة وأعتزام القيادة بإبرام أتفاقية الجزائر التآمرية فوجدته متأثراً ومتألماً من تأمر السلطات الإيرانية والأوساط الأمبريالية المرتبطة بها على الطرفين وغير واثق بها وبتأمرهما ويشعر بخطورة موقفه وأعرب عن تقديره لإخلاصي وأستقامتي وموقفي ونصائحي المتواصلة وتذمره الكبير لعدم الأستجابة إليها كما أعرب عن أستجابته إلى العودة فيما إذا تلقى رداً إيجابياً ضامناً منكم لا كالرد السلبي الأستفزازي إلى المكتب السياسي وأستعداده للتضامن معكم في كل صغيرة وكبيرة ودون أية مناورة وتكتيك فيما لو حصل على هذا الردّ وقد جاوبني بعد استفساري منه عن ماهية الرد الايجابي أو بالأحرى المبادرة الايجابية منكم للاستجابة ولكن للأسف الشديد لم أتلق منكم سوى الإهمال والإندفاع نحو سراب نشوة الظفر الموهوم وبردود إنفعالية متسمة بطابع التشفي والشوفينية. وأعتقد لو كانت قد تمت تلك المقابلة في حينه والتمكن من الحصول على استجابة ايجابية منكم وكسب ثقتكم وقناعتكم حول أهمية التسامح والانفتاح وإصلاح البين من جديد وعلى أساس مبدئي راسخ كان بالإمكان إنهاء هذه القضية وتسويتها بشكل جذري تضمن كل مصلحة وتطلعات الشعب العراقي بأسره وقواه المسلحة وقيادة الحزب والثورة كما ذكرته آنفا وإنقاذ العراق من التضحيات المادية والبشرية الهائلة. فأضطررت بدافع الحرص والإخلاص للمصلحة العامة ودون أية غاية ومصلحة شخصية والقيام بتقديم مذكرة مفصلة تشير بوضوح عالى وجهات نظري المخلصة وخبرتي الناضجة وذلك إلى الرئيس البكر بصفته أمين سر القيادة القطرية لحزبكم ورئيس مجلس قيادة الثورة والجمهورية وذلك بعد اللقاء بعدد من الرفاق في القيادة القطرية لإيضاح وجهة نظري ومن ثم بعد مدة طويلة رفعت مذكرة أخرى إلى سيادتكم وكنت أتوقع على الأقل فيما إذا كانت القضايا والمشاكل التي تواجهكم يومياً وباستمرار لا تسمح لكم كمثل هذا اللقاء وان كنت اعتقد أن هذه المشكلة الموضوعة البحث هي من أمهات المشاكل جميعها وأهمها على الإطلاق، فكان بالإمكان تكليف أحد الإخوان المسؤولين لمناقشتي حول آرائي ووجهات نظري الصريحة المخلصة والتي كانتا تستندان بالأساس على قراراتكم الدستورية في بيان 11 آذار والعفو العام وكسب قناعتكم على ضرورة التحلي بروح التسامح والانفتاح بدلاً من الردود الانفعالية السلبية والأخذ بالتزاماتكم المبدئية والدستورية المقررين النابعتين من مصلحتكم وفي مقدمتها المزيد من كسب وتعاطف جماهير الشعب الكردي بأساليب المودة والرأفة والتسامح بدلاً من أساليب الزجر والإثارة والاستفزاز التي تؤدي إلى بقاء هذه القضية معلقة أو ملتهبة تستغلها جميع أعدائكم في الداخل والخارج..... يتبع1 - مقتطفات من الرسالة وبخط الشهيد صالح اليوسفي موجودة في التصميم.
الحلقة: الرابعة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
المواجهة الأخيرة (الجزء الرابع)تتمة رسالة والدي لصدام في 30 تموز 1980 الشهيد اليوسفي بكتابة هذه الرسالة إلى صدام حسين قد قدم نفسه قرباناً من أجل شعبه.أقدم للأخوة الأعزاء في هذه الحلقة الجزء الأخير من رسالة والدي وقد أقتطفت منها بعض المحطات وذلك لعدم الإطالة وسيضاف فيما بعد على كتابي الجديد بأذن الله، يتطرق والدي في نهايات رسالته بتحريض صدام في وضع الحركة الكردية على مسارها الصحيح لأستباب الأستقرار السياسي والأجتماعي والدستوري في البلاد، ثم ينتقد والدي على مجموعة الأنتهازيين والمنتفعين حول النظام من الذين كسبهم النظام وتواطؤا معهم فيشير وبكل جرأة: (( أن تأريخ الشعوب قد علمنا بشكل صارخ لا غموض فيه أن كسب عشرة من أصحاب المبادئ الصادقين خير من كسب عشرات الألوف من أمثال أؤلئك المتطفلين المنافقين المتذبذبين المتخاذلين..)).وإليكم النص:(( سيادة الرئيس/ أعتقد إن في مقدمة المهام الذي كان ولا يزال ينبغي عليكم القيام به بألحاح هو المحاولة الجادة مع خيرة العناصر الكردية الكفوئة بغية وضع الحركة الكردية الطبيعية بقيادتها الشرعية الجديدة اللتين تحظيان بثقة جماهير الشعب الكردي على مسارهما الصحيح بجانب التحالف والتلاحم المصيريين الراسخين مع قيادتكم ودعمهما بجميع الإمكانيات كركيزة أساسية للثقة المتبادلة من كل النواحي وأستتباب الأستقرار السياسي والاجتماعي والدستوري...الخ في هذه المنطقة الخطيرة وفي سائر أنحاء العراق وللإسهام معكم ومع كل المخلصين في رقي العراق وأزدهاره. وليس محاولة كسب ثلة من أولئك المنتفعين والأنتهازيين والمتخاذلين والمتطفلين اللذين كسبتموه أو تكسبونهم عن طريق الأنتفاع أو الذعر من المتصيدين في المياه العكرة وهم لم ولن يكونوا في يوم من الأيام مخلصين ومتضامنين مع شعبهم أو لأي جهة ما أو لكائن من كان مهما أغدقت عليهم من الأموال الطائلة سوى محاولة ضمان مصالحهم الشخصية بشتى الطرق غير المشروعة. أن تأريخ الشعوب قد علمنا بشكل صارخ لا غموض فيه أن كسب عشرة من أصحاب المبادئ الصادقين خير من كسب عشرات الألوف من أمثال أؤلئك المتطفلين المنافقين المتذبذبين المتخاذلين..)).أشرت أن تاريخ الرسالة كانت في 30 تموز 1980 ويبدو هنا ومن خلال المقتطف التالي يشير والدي إلى أحتفالات تموز التي حدثت حينها، فيوجه أنتقادهُ وبكل جرأة بسبب عدم ذكر والتطرق إلى الأمة الكردية في تلك المناسبات وإهمال وتجاهل مشاعر القومية الكوردية.. ثم يشير إلى والوسائل الناقصة والخاطئة التي أتخذت بحق معالجة قضية الشعب الكردي.. وهو يحث صدام بالشروع بأستكمال تسوية هذه المشكلة الكبرى تسوية سياسية حكيمة من جميع النواحي وتصفية جميع العراقيل والأوضاع السلبية الضارة، وهو يشيد بأتفاقية 11 آذار وأن خطوة إنجاز التأميم قد تمخض من خلال تلك الأتفاقية.. قائلاً:(( سيادة الرئيس/ في هذه المناسبة أعربت كمواطن عراقي مخلص عن أسفي الشديد وكنت أتابع تدشين ذكريات ثورتي تموز في هذه السنة وفي مثل هذه الظروف والأوضاع التي تتأجج فيها المشاعر القومية للشعب الكردي في كل مكان وتحاول كل الأوساط الداخلية والخارجية المعادية لكم أستغلالها.إني لم أجد ولم أسمع بين كل الشعارات المرفوعة والخطب الملقاة والفعاليات الفنية المقيمة بهذه المناسبة شيئاً يرمز على الإشادة بتآخي القوميتين المصيريتين وحتى إهمال ذكر الأكراد ومشاعره القومية وتجاهل ذكر بيان آذار رغم كونه حسب نظري يعدّ من أعظم إنجازاتكم المثمرة مع قيادة الحركة الكردية في حينه وهو الذي أدى إلى التعجيل بميلاد الإنجاز الثاني الرائع (التأميم) الذي أعقبه أو بالأحرى تمخض منهُ بعد أن هيأ له كل سبل وشروط وظروف المواجهة القوية الظافرة وتوفير وسائل النصر المؤكد وهو الذي لا يزال يحتفظ بحيوته العظمى كركيزة أساسية للتآخي والسلام والأزدهار. أعتقد أن مثل هذا النوع من الإهمال أو التغافل أو التراجع منه ليس من مصلحتكم أبداً بل تضرّ بها وبالمصلحة العامة )).ثم يشير والدي وفي موقف آخر من النقد الصريح وبجرأته المعهودة وكأن به يستفسر حول الأزدواجية في سياسية صدام..! فيخبرهُ بأنهُ من جهة يقدم الدعم والمساعدات لشعوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية وحركات التحرر من أجل حريتها وحقوقها..! بينما لا يطبق هذه السياسة على الواقع العراقي وحقوق الشعب الكردي، فيشير من خلال هذه المحطة من الرسالة بكل حكمة وجرأة قائلاً: (( سيادة الرئيس/ إنكم لم ولن تبخلوا عن تقديم المزيد من العون والمساعدات الضخمة والدعم المطلق بسخاء ومن كافة الوجوه إلى العديد من شعوب ودول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها وإلى حركات التحرر المكافحة من أجل حريتها وحقوقها القومية والإنسانية المشروعة في أقاصي العالم وتستمرون على مواصلة ذلك دون هوادة وحتى مع تلك الجزر الصغيرة التي تشكل شعبها المختلط على مقومات (وخصائص) القومية والتي نالت على أستقلالها نتيجة رفع السيطرة الأستعمارية عليها.فمن حق الشعب الكردي والذي تتولون مهمة جزء مهم منه تحت مسؤولية قيادتكم المباشرة في عراقنا الغالي والمعروف عنه بأنه من أكثر الشعوب العربية في هذه المنطقة وفاءاً وإخلاصاً وحماساً للدفاع عن الحضارة الإسلامية والعربية المتفاعلتين مع بعضهما البعض بالإضافة إلى مشاركة مصالحهما وتطلعاتهما الأستراتيجية المتلاحمتين في كل الوجوه ضمن حقه القومي والوطني والإنساني والروحي والشرعي والقانوني ومن صميم مصلحتكم في نفس الوقت أن يتمتع بالأولوية في الإنفتاح والسخاء والرعاية والدعم والإسناد من لدن سيادتكم وإنقاذه من محنته وتخبط قضيته وتمتعه بأشباع طموحه القومي على ضوء إلتزاماتكم وتطويرها نحو الأفضل والنهوض بحركته وقيادته الشرعيتين الطبيعيتين التحرريتين بجانب قيادتكم المتحالفة المتضامنة للقيام بمسؤولياتها المشتركة وبأقصى طاقاتهما على الوجه الأمثل.أعتقد ليس ثمة وطني غيور إذا تلمس من سيادتكم أية بادرة إيجابية بهذا الصدد فأنه لا يتردد من أن يضع كل ما لديه من جهد وطاقة من أجل تحقيق هذه الغاية النبيلة التي تتوقف عليها تصعيد وتائر الوحدة القومية والوطنية الراسخة وقدرات الشعب العراقي وقواه المسلحة إلى قمة الأرتقاء وجعل العراق كأقوى دولة في هذه المنطقة على الإطلاق وتسلقه نحو مستوى أرقى الدول الحضارية المعاصرة )).وفي الختام يحث والدي صدام بأن لا يخسر فرصة اللقاء به لمعالجة القضية الكردية وأنه بأمكان والدي تجاوز هذه المشكلة وحلها على أكمل وجه في غضون ستة أشهر حسب مخطط فيما إذا لو رأى مبادرة إيجابية منه، وإن معالجة القضية الكردية الحيوية الكبرى تتوقف على حلها عشرات بل مئات القضايا المتفرعة بين المهمة والثانوية منها التي تواجه البلاد. فيوجه إليه النصح والإرشاد قائلاً: (( سيادة الرئيس/ إن وجهات نظري المطروحة على سيادتكم في رسالتي هذه ما هي إلا تشخيص صائب حسب أعتقادي إلى المبادئ الجوهرية العامة والمرتكزات الأساسية الصائبة التي تستند عليها مخطط التصميم الكامل للمعالجة الشاملة وسأكون سعيداً فيما إذا حظيت بتقبلكم ومن ثم بعد إمكان مقابلتكم أو من يمثلك وتقديم تصميم كامل لمخطط المعالجة الكاملة بمراحلها بحيث بالإمكان وحسب أعتقادي التوصل إلى جوهر التسوية النهائية خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تأريخ أقتران موافقة سيادتكم عليه ودعمكم وإسنادكم المطلقين له وتطويق جميع العناصر والأتجاهات المتطفلة والمنتفعة والمتاجرة والمستغلة في الداخل والخارج وتقليم أظفارهم وإنتزاع أساليب متاجرتهم الرخيصة التي يركنون إليها من أياديهم وشلّ قدراتهم وفاعليتهم ووضعهم أمام الأمر الواقع وأمام الشعب وأمام خيارين لا ثالث لهما إما الرضوخ المطلق لإرادة الشعب ومصلحته وتطلعاته أو المجازفة بوجودهم وتلاعبهم بمقدرات الشعب لدى الإصرار على تحدي إرادته ومصلحته وتطلعاته. وبامكاني لدى الدعم والتشجيع المطلوبين القيام بدوري المتواضع وربما المؤثر إلى حد كبير للإسهام في هذه المسؤولية الجليلة لخبرتي الناضجة ومواقفي المبدئية وعراقتي وأصالتي في النضال الشاق النزيه الطويل ومكانتي المعروفة لدى جماهير الشعب الكردي وبمختلف الاتجاهات في كل مكان.ختاماً لا يسعني في هذه المناسبة إلاّ أن ألتمس منكم على ضرورة وأهمية تفرغ جلّ طاقة جهد سيادتكم أزاء أستكمال معالجة هذه القضية الحيوية الكبرى التي تتوقف على حلها الموضوعي الكامل عشرات بل مئات القضايا المتفرعة بين المهمة والثانوية منها - وتتفتح باشراق بين أوسع الآفاق والامكانيات للنهضة العراقية المزدهرة وعظمة بأسه وعلو شأنه من كل الوجوه ليلعب بدوره الخفاق على مختلف الوجوه والأصعدة في عالمنا المعاصر.. هذا وأملي كبير بحرصكم ويقظتكم لتكريس جهودكم وإرادتكم الحازمة من مصلحة وتطلعات وتقدم شعبكم العراقي الأمين وتقبلوا فائق أحتراماتي.المواطنصالح عبد الله اليوسفي 30 تموز 1980سأكتفي بالتعليق على رسالة والدي التأريخية المهمة دون أن أشير على مدى أهميتها فيما إذا لو كان صدام قد أخذها على محمل الجد حينها بدلاً من نشوة الغرور والتفرد بالقرارات التي قادت البلاد إلى الهلاك والدمار على مدى أربعة عقود..! وسأكتفي برأي الأستاذ الروائي والكاتب الكبير محمد سليم سواري يذكر من خلالها: (( قرأت الرسالة بتمعن ولاحظت فيها القوة اللغوية الكتابية والجرأة الشجاعة وعمق الوفاء للوطن وللشعب والمدى الواسع للإخلاص للقضية وعدم الأكتراث لما يحصل بعد ذلك إذ أن إداء الرسالة الموكلة على المسؤول لا يهمه عنجهية وغطرسة المرسل إليه، وأشياء أخرى قد تطول شرحها في هذا التعليق، وخلاصة الموضوع إن السيدا يوسفي قدم كفنه إلى شخص مجرد من كل القيم الأنسانية ولا يعرف غير لغة الشر والقتل والدم.. لله دره.. من بطل بأسمى روح وأنقى غيرة وأجمل منظر وأذكى حكيم، ولو عمل صدام بجزء بسيط من الرسالة وليس كله لما كانت هناك حروب وويلات نحترق بها لحد الآن.. حبَّذا لو هذه الرسالة ترسل إلى أوردغان وملالي إيران والأسد وحتى بغداد لأصبح حال الشرق الأوسط على أحسن حال.. وبلا تشبيه كالرسالة التي بعثها سيدنا محمد (ص) إلى النجاشي وهرقل وكسرى.. سيبقى هذا الإنسان العظيم الزاد الروحي لكل الكورد الشرفاء لأنه قدم لوطنه ما لم يستطيع الآخرون تقديمه، قد خدم بعز وشرف ولم يفكر بأي مكسب مادي أو دنيوي لنفسه أو لعائلته، تشرفت باللقاء معه في أواخر عام 1970 في تلكيف وقد أجتمع بنا نحن المنضوين في البارتي وإتحاد طلبة كوردستان وقدم لنا محاضرة قيمة لم يزال لهذه اللحظة صوته الهادئ والرخيم يرن في وجداني وكياني.. طيب الله ثراه وحفظ أولاده..كل كلماتك شامخة بشموخ الإنسان المعجزة والدك العظيم.. حافظي على هذا الكنز عزيزتي الرائعة زوزان. محمد سليم سواري... يتبع
الحلقة: الخامسة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
محطات متفرقة من نضال الشهيد صالح لليوسفي خلال عام 1980أزداد نشاط والدي خلال هذا العام أكثر فأكثر ولم يعد يبالي بأية ردة فعل من جانب النظام ومهما تكون نتيجة هذا الرد حتى ولو كلف حياته، فلم يعد يهمه شيء في الحياة وكأنهُ كان على إيمان بأن الشهادة هي الطريقة الأخيرة التي يجب أن يختم بها مسيرة نضاله الطويل وسيظل يجابه ويتحدى النظام إلى آخر رمق.. أما تحقيق الهدف أو الموت في سبيله. وكما أشار الأستاذ قيس قره داغي:((اليوسفي نذر نفسه أن يكون شهيداً بسبق الأصرار.. وأصبح الفائز الأول وبدلا أن يسكن في منزله الصغير بين أولاده سكن قلوب الملايين..)).نقلًا عن الأستاذ جميل أحمد اليوسفي:(( كان الشهيد يرفع مذكرات الأحتجاج واحدة تلوا الأخرى ويوجهها إلى قيادة النظام العراقي دون مبالاة بالعواقب حول قضايا ومأساة شعبه وأمته.. لقد ضحى الشهيد بأغلى ما لديه فداءً للوطن.. في الوقت الذي كان غيره من الكتاب والسياسين يرتمون في أحضان الأعداء والأجنبي، كان الشهيد مشتبكاً في حرب ضروس بقلمه ولسانه مع عدو غاشم وشرس في عقر داره..(1))).ويذكر الأخ الفاضل شيرزاد محمد صالح جبرائيل:(( لا يخفى كانت لدى المرحوم والدك صفات قيادية عديدة قد لا يشاركه أحد فيها إلا ما ندر، ومن تلك الصفات محارب لا يستسلم ومفاوض صريح وصادق من دون لف ودوران. ومحب للسلام يفضل التفاوض السلمي أولا، غير عنصري ومحب للجميع، صاحب مبادىء وكرامة ويضع شعبه فوق كل أعتبار، ناهيك عن تواضعه والتواضع سيد الأخلاق، عنيد لا يتنازل عن حقوق شعبه حتى عندما كان في بغداد تحت حكم نظام البعث، وفي إحدى زياراتي لهُ في بيته ببغداد قال لي: طلب مني مبعوث خاص من صدام حسين زارني في البيت أن أكتب مقالة وأنشرها بجربدة الثورة وأكتب مديحاً لحكومة البعث حول تعاملهم الإنساني مع الكرد وأنهم يتمتعون بحكم ذاتي وأن الكرد يثمنون عالياً بأن "القائد" صدام يهتم بهم... إلى الآخر من هذا القبيل. فكان جواب والدكم للمبعوث الخاص: كيف أمتدحكم وقد هجرتم عشرات الآلاف من مواطني شعب كردستان إلى وسط وجنوب العراق، وكيف تقولون بأنكم تتمتعون بحكم ذاتي حقيقي وكلهم أكراد بعثيون أنتم وظفتموهم، ودوائر الأمن تعتدي على الأبرياء وتفتك بهم لأتفه الأسباب..؟ وذكر والدكم قضايا أخرى لا أتذكرها وأنا أدون هنا ملاحظاتي حول زيارتي تلك له في بيته.. إلا أنني في الحقيقة أرتبكت من أجوبته وقلت لهُ: أما كان الأفضل أن لا تذكر ما قلته لهم لأنني خائف أن يؤذوك..؟!أجاب قائلاً: لا يستطيعون فعل أكثر من قتلي... فكان حقاً جواب الشجعان..! وفي النهاية دبروا مؤامرة الأغتيال الجبانة، رحل عنا عفيفاً شجاعاً شهيداً مؤمناً، وقتلته رحلو إلى مزبلة التاريخ..)). نقلاً عن الأخ الفاضل حسن نزاركي: (( الأستاذ الشهيد صالح اليوسفي لم يكن يخشى من أحد في هذا الكون.. أتذكر في إحدى زياراتنا للأستاذ صالح اليوسفي في مسكنه في مدينة الشرطة ببغداد مع المرحوم والدي قال لهُ والدي: يا أستاذ.. أرجوك أن تخفف من نشاطاتك وأن لم تستطيع ذلك فأرجو منك أن تخرج من بغداد..؟فضحك الأستاذ صالح وقال لوالدي: أخي فيصل.. الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يخدم الإنسانية ويناضل ويدافع عن المظلومين وعندما سلكتُ هذا الطريق علمتُ أن نهايتي هو الأستشهاد.. قال لهُ والدي: ولكن أستشهادك ليس خسارة لعائلتك فقط.. وإنما خسارة للشعب الكوردي جمعاء...؟! فألف تحية من شعب كوردستان إلى روحك الطاهرة يا شهيد الأمة..)).روى لي أخي شيرزاد:(( كان يزور والدي خلال عام 1980 أحد ضباط المخابرات للحكومة العراقية، بهدف أنه يريد مساعدة والدي لهُ في الإجابة عن بعض الأسئلة من أجل رسالة الماجستير التي كان يعدها، فكان يأتي إلى بيتنا وعلى عدة مرات، ومن خلال أسئلته أكتشف والدي بفطنته السبب الرئيسي من زيارة هذا الضابط ومن خلال هذه الحجة، وذلك لإستدراج والدي بالحديث عن نشاطه في تلك المرحلة.خلال إحدى زيارات ذلك الشخص تصادف حينها أن يكون عند والدي ضيف من أصدقائه، عندها سأل والدي هذا الضابط أمام ضيفه قائلًا: يا أخي.. أعلم أنك مُكلّف من قِبل السلطة لمراقبتي ومعرفة آرائي وأفكاري، لقد تحدثنا بما فيه الكفاية ولا جديد عندي وأفكاري واضحة تماماً، ألا تتفق معي أنه من الأفضل لك الدخول إلى المعاهد المختصة هنا أو في الخارج من أجل رسالة الماجستير؟ وبعد أن غادر هذا الضابط منزلنا.. سأل الضيف والدي: ألا تظن (سيدا) إن معالجة هذا الموضوع وبهذا الرد الذي واجهته به قد يشكل خطراً عليك..؟!فأجاب والدي: ماذا تريد إذن أن أفعل.. فأنا حقيقة أأسف فقط إذا كنت قد أخجلته بهذا الشكل وهو ضيفي ولكنني أعلم جيداً أنهم كلفوهُ بترتيب هذه الزيارة بحجة كتابة رسالة الماجستير لمراقبتي ومراقبتكم.. لا تقلق ليفعلوا ما يشاؤون لقد أخترت طريقي ولن أتراجع عنه..)).خلال هذا العام أجتمع بنا والدي بهدف موضوع محاولة الخروج من بغداد نحو المناطق المحررة من أقليم كوردستان، خصوصاً بعد إلحاح رفاقه عبر الرسائل التحريرية والشفوية، فأدرك والدي مدى حاجة شعبه ورفاقه إليه والمسؤولية الكبيرة التي وقعت على عاتقه في هذا الظرف المهم والصعب، وقد تأكد بعد مذكرته الأخيرة للنظام بأنه يبدو لا جدوى ولا فائدة مع نظام غارق في غطرسته وعنجهيته إلى حد النخاع.. وإن خطوة السلام مع مثل هذا النظام من سابع المستحيلات خاصة بعد تسنم صدام للحكم. من خلال هذا القرار واجه والدي عقبتين إحداهما تدهور حالة عمتي الصحية خلال ذلك العام ثم وفاتها، والعقبة الثانية رفضت والدتي الفكرة معللة أنها تعبت من هذا المشوار وترغب بالأستقرار وإنها غير مستعدة لمثل هذه المغامرة.. وأخبرت والدي بأنها لا تمانع فيما إذا قرر هو الألتحاق، فهي كانت تدرك جيداً أن شخصية مثل والدي لن يترك نضال سنين من التضحيات ليختمها راقداً في البيت، فأخبرت والدي: أذهب أنت ولا تقلق بشأني فأن الحكومة لم تتخذ إجراء بشأن عائلة عزيز عقراوي حين فرّ وأنا لا شك سيكون حالي مثل حالهم.. حين سمعت وجهة نظر والدتي ورغم صغر سني حينها أدركت أن وجهة نظرها هذه لم تكن منطقياً مطلقاً.. ومن المستحيل أن تقنع والدي بمثل هذا الخيار، وعبرتُ حينها لوالدتي عن وجهة نظرها الخاطئة حول ذلك الأقتراح، إلا إنها وبختني: لا تناقشي أموراً أكبر من سنك وإذا صمم والدك على الألتحاق فأذهبي حينها برفقته.. فألتزمت بالصمت أمام لهجتها الغاضبة. لم يقتنع والدي بأقتراح والدتي وهو يعلم جيداً أن إلتحاق شخصية في مثل مركزه ووزنه على الساحة السياسية وهو بهذا الزخم من الموقع خاصة وأن النظام بدأ يعتبرهُ من أشد المعارضين لهم ولنهجهم من خلال مذكراته، لذا كان يدرك جيداً أن نظام مثل نظام صدام سوف لن تقف صامتة إذا ما بقي أي فرد من عائلته تحت قبضة هذه الحكومة التي لا تعترف لا بالقيم ولا بالمبادئ ولا بالضمير، فكيف الحال إذا ألتحق وأعلن ثورة ضد النظام..؟ يذكر الأستاذ هيوا سورمري في تعقيب لهُ عن خطة الحزب الأشتراكي لإنقاذ والدي، جاء في تعقيبه ما يلي: (( مرة سألت الشهيد شيروان شيروندي عضو اللجنة العسكريه للحزب الاشتراكي الكوردستاني، لماذا لم نتمكن نحن بيشمركة الحزب من إنقاذ حياة الشهيد صالح اليوسفي؟ فأجابني وقال نحن حاولنا عدد مرات لكن بسبب مراقبة نظام للشهيد لم نتمكن من إنقاذ حياته..)).كانت الظروف صعبة أمام والدي حينها للخروج من بغداد وأمامه عدة عقبات ليتجاوزها، وعلى رأسهم كانت المراقبات المستمرة والتي أخذت تزداد على منزلنا وقد ذكرت في كتاب خواطري البعض منها.. ووالدي كما هو معروف حريص في قرارته فكان لابد عليه أن يدرس ويخطط لها جيداً قبل تنفيذها، خاصة بعدما لاحظ وجهة نظر والدتي وتردد أخي شيرزاد الذي كان يخشى فيما إذا لو حصل وأكتشف النظام خطتنا وألقى القبض علينا..! وحينها كانت ستكون الكارثة لا محالة في ظل نظام كما أشرت لا يملك ذرة من المبادئ والقيم والضمير، لم يلغي والدي تلك المهمة حين كنت أسألهُ وكان أحياناً يخبرني بأنهُ سيؤجل الفكرة قليلاً لعل وعسى يستطيع إقناع والدتي ثم يعمل على ترتيب دقيق حولها. ولو أن والدتي لم تكن تعلم بالتفاصيل عن نشاط والدي المهم خلال تلك المرحلة، خاصة من ناحية تزعمه للحزب الذي أسسهُ والذي زاد سيطه وشعبيته على كل الأحزاب الأخرى حينها، ولكن بصراحة كانت لدى والدتي معلومات وخبرة سياسية كافية للنقاش والحوار في مثل هذه المسائل نظراً لِما عاشته من تجارب مع رحلة نضال والدي.. فقد سمعت ذات مرة أنها أخبرت والدي: ومن يضمن أنك سوف تستطيع أن تمارس دورك القيادي ولم يقتلوك هناك..؟ ولكن هذا الرأي لم يكن لهُ أي وزن عند والدي حيث كان كل همه إنقاذ شعبه وإيجاد حل مناسب للقضية الكوردية وهو يدرك جيداً مكانته وشعبيته لدى شعبه، إضافة إلى خبرته العريقة في لم الشمل وحل المشاكل الموجودة حينها بين الأحزاب. وفي نهاية عام 1980 سمع والدي خبر محزن تأثر جداً من خلالها... يتبع (1)مقالة بعنوان (اختيار الشهادة في سبيل الوطن) بقلم الأستاذ: جميل أحمد اليوسفي نُشرت في جريدة خه بات العدد 961 بتاريخ 28 يناير 2000.
الحلقة: السادسة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
مرور محنتين مؤلمتين على والدي..أستمرت الزيارات الخاطفة للمناضلين دارا توفيق وشوكت عقراوي خلال عام 1980 آملين في بصيص من الأمل على أن تجني مذكرة والدي الأخيرة لنظام صدام خطوة إيجابية نحو طريق السلام من أجل إيجاد حل مشرف لقضية شعبنا الكوردي.. ولكن يبدو أن صدام ومن خلال تلك المذكرة الجريئة بدأ يحسب لوالدي ألف حساب..! وغروره يزداد بنشوة الإنتصار يوماً بعد يوم بعد القضاء على كل معارضه وبعد السيطرة على دفة الحكم بكل قوة، وأزدادت قواته الأمنية والأستخبارتية بشكل واسع لدرجة إن الشعب العراقي بدأ يخاف أن يصرح بمشاعره حتى وهو بين أهله وفي عقر داره..! فكان جهاز الأمن والأستخبارات يقضي على كل مَن يتفوه بكلمة ضد النظام أو ينتقدهُ، وأي تقرير يصل إلى جهات الأمن من قِبل الواشين كان أما يقضي على المتهم دون أن يعرف أحد مصيره أو يقطع لسانه أو أذنيه لإخافة الشعب.يبدو أن النظام بدأ يسلط الضوء على نشاط والدي بعدما أزداد عدد الواشين والخونة.. فتعرض والدي إلى محنتين مؤلمتين خلال نهايات عام 1980 كانت المحنة الأولى أختفاء المناضل دارا توفيق في نهايات عام 1980 وقد وصل الخبر إلى والدي عن طريق المناضلين بعد أيام قليلة من أختفائه دون أن يعرف مصيره، كان يبدو والدي متأثر جداً.. كنت أسمع الحديث بين والدي ووالدتي دون أن أدرك أو أستوعب حقيقة الأمر أو أية تفاصيل عنها وأنا بذلك العمر خاصة وأن نضال والدي ورفاقه في بغداد كانت تكتنفه السرية التامة حتى داخل عائلتنا، كنت أحياناً أطلع بمحض الصدفة على بعض ما كان يجري من حوار بين والدي ووالدتي أو كنت ألاحظ تأثر وحزن والدي فأدرك أن هناك شيئاً رهيباً قد حصل.المناضل الشهيد دارا توفيق.. كان لهُ منزلة خاصة عند والدي وذلك منذ إنخراطه في الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وأصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب من خلال مؤتمره الثامن في تموز 1970، أزدادت العلاقة بين والدي ودارا توفيق في بدايات السبعينيات بعد أتفاقية السلام في 11 آذار 1970 حين ترأس الأستاذ دارا توفيق جريدة التآخي، بالإضافة إلى ذلك كان دارا توفيق يرافق والدي في أغلب المفاوضات وفي مؤتمرات وفود السلم والتضامن، حاولت بعض القيادات الكوردية حينها إبعاد المناضل دارا عن والدي لأسباب أجهل حقيقة نواياهم..! خاصة في نهايات فترة هدنة الأربع سنوات، إلا أن العلاقة توثقت بينهما مرة أخرى خلال ثورة 1974 خاصة بعد موقف والدتي من زوجة المناضل دارا توفيق عند ترحيلنا في نيسان 1974(وقد ذكرت تفاصيل ذلك في الحلقة 68)، ثم وقع أختيار والدي على الشهيد دارا توفيق أثناء نكسة 1975 لكي يرافقه في محاولة والدي الأخيرة حينها للذهاب إلى سوريا ومنها إلى الأتحاد السوفييتي لوقف مؤامرة الجزائر المشؤومة (وقد ذكرت تفاصيل ذلك في الحلقة 80) أزداد التقارب بين والدي ودارا في الفكر والنهج بعد نكسة 1975 وأزدادت الثقة والإيمان بينهما بعد عودتهما أثر نكسة 1975 وأستمرت زيارته لوالدي.كان والدي حريصاً أن لا يعلم أحد بنشاط المناضل دارا توفيق برفقته في تلك المرحلة كما كان حرصهُ على المناضل شوكت عقراوي، فكان نشاطهم مستمراً في قلب العاصمة بغداد وفي ظل أعتى نظام حكم العراق.. فيا لهذا الشرف ويا لهذه الجرأة والشجاعة من أمثال هؤلاء العمالقة الذين طرزوا مجد تاريخنا بدمائهم الزكية من أجل قضية أمتهم..! كانا كلا من دارا توفيق وشوكت عقراوي يعتبران ذراعي والدي الأيمن والأيسر خلال هذه المرحلة الصعبة من نضال شعبنا وهم يناضلون في عقر دار النظام، هذا بالإضافة إلى نضالهما المشرف الطويل..لم يكن يتوقع والدي يوماً بأن المناضلين دارا توفيق وشوكت عقراوي سوف يسبقاهُ في الشهادة بأشهر قليلة، خاصة وإن والدي كتم عن أنتمائهما ونشاطهما لكائن مَن يكون حرصاً على حياتهما، ولا أعرف حقيقة إن كان هناك مناضلين يدركون حقيقة ذلك الأمر. يذكر الأستاذ فرهاد عوني عن الشهيد دارا توفيق.. وقد صرح المناضل دارا توفيق لهُ قبل أختفائه: (( أشعر بأن في هواتفي الخاصة فيها أجهزة منصوبة لمراقبتي وتأكدت من هذه الحقيقة بنفسي.. ثم يضيف الأستاذ عوني.. حاولت التخفيف عنه وقلت.. أن العراق شعبنا وحكومته مشغولة بالحرب مع إيران وليس في المعقول إهمال هذه المسألة المصيرية من قبل الدولة وإشغال أنفسهم بأمور لا تقدم ولا تؤخر.. وحاول كاكه دارا الظهور بموقف اللامبالاة في النهاية.. )).ويضيف الأستاذ فرهاد عوني عن إختفاء المناضل دارا قائلاً:(( في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم 5/11/1980 أستعد كاكه دارا للذهاب إلى دائرته (المنشأة العامة للنقل النهري ببغداد) حيث كان مديراً عاماً لها وبدأ بتشغيل سيارته لغرض الاحماء (السيارة كانت من نوع فولفو صالون حكومي بيضاء اللون تحمل الرقم 551) وصعد إلى السيارة برفقة أبنته الصغرى لغرض إيصالها إلى مدرستها القريبة من منزله الواقع شرق النصب الجديد للجندي المجهول في جانب الكرخ وبعد إصال أبنته إلى المدرسة توجّه إلى دائرته وكما هو معلوم.. ولم يعد كاكه دارا ظهراً إلى البيت ولكن دائرته سجلت إنقطاعه عن الدوام الرسمي بتاريخ 5/11/1980)).أدركَ والدي أن مصير المناضل دارا توفيق قد أصبح مثل مصير المناضلين علي هزار وكاردو كلالي.. علِم والدي وفي نفس الوقت بالخبر الحزين الثاني عن المناضل شوكت عقراوي. المناضل شوكت عقراوي.. من المناضلين الذين داوموا على زيارتنا منذ عودة والدي بعد نكسة 1975، وقد آمن المناضل شوكت بمبادئ وأفكار والدي منذ بدايات ألتحاقه بالحركة الكوردية في الخمسينيات وأزدادت في فترة الستينيات وأستمرت حتى بعد أعتزله العمل السياسي في فترت أوائل السبعينيات (لأسباب شخصية) ثم عاد مرة أخرى لينتمي ومنذ البداية إلى حركة الأشتراكية الديمقراطية الكوردستانية التي أسسها والدي في أيار 1976.. ثم كللها بكل وفاء وشجاعة بأريج الشهادة ومضى في قافلة المناضلين الشهداء، بعد تسميمه من قِبل نظام صدام بمادة الثاليوم.في آواخر عام 1980، زارنا المناضل شوكت عقراوي، وكان في حالة نفسية وصحية متوترة وقلقة..! وأخبر والدي أنه تلقى أتصالاً من مديرية الأمن العامة يدعونه إلى الحضور في دائرة الأمن.. فلبى طلبهم، وأخبر والدي أن صحته بدأت تتدهور عقب تلك الزيارة يوماً بعد يوم وبأنه أثناء المقابلة في مديرية الأمن العامة لا شك دسّ شيئاً له في كوب العصير الذي قُدم له هناك.. أبدى والدي قلقه عليه وأشار عليه بسرعة الخروج من العراق، وهذا ما قام به المهندس شوكت وفعلًا وبدأ بأجراءات السفر من العراق إلى الكويت عن طريق البر وذلك بسبب إغلاق مطار بغداد نتيجة الحرب العراقية الإيرانية ومن ثم كان ينوي التوجه من هناك إلى لندن.بعد أيام قليلة أستدعت مديرية الأمن العامة والدي أيضاً، أتذكر ذلك الصباح الذي أستعد والدي لهذه الزيارة، شعرنا بالقلق بعدما سماعنا عن حالة العم شوكت عقراوي.. فترجيت من والدي في ذلك الصباح بألا يشرب أي شيء يُقدم له وأن يدعي بأنه صائم، فأبتسم لي بحنان وقال لي لا تخشي عزيزتي، بالتأكيد سأخبرهم بذلك.. وبقينا قلقين على والدي إلى أن عاد إلينا بعد عدة ساعات، في الحقيقة لم أعرف تفاصيل الحوار الذي دار داخل مديرية الأمن مع والدي، وكل ما عرفته أنهم طلبوا حضورهُ بحجة أن يكتب مقالة ليتم نشرها في إحدى الصحف العراقية ينتقد فيها النظام الجديد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد سبق وأن طلبوا ذلك من المناضل شوكت عقراوي أيضاً، لكن والدي رفض كتابة أية مقالة مدعياً بحجة إنهُ لا رغبة لهُ بالكتابة بعد وأن صحته لا تساعدهُ، كما أخبرنا بأنهُ تم تقديم الشاي له خلال الزيارة لكن الحمد لله أدعى والدي أنه صائم. من جهة أخرى كان المناضل شوكت عقراوي يقوم بإجراءات السفر لكن الوقت لم يسعفه، حيث توفي حسب ما علمت وهو يباشر الرحلة إلى الكويت، تأثر والدي لرحيله جداً.. وكان يحضر واجب العزاء ترافقه والدتي وعلى مدى يومين، كان الصمت والحزن يخيم على أجواء العزاء، في اليوم الثاني طلبت السيدة (أم شورش) زوجة المناضل شوكت عقراوي من والدي تجّنب الحضور إلى العزاء لأن بيتهم مراقب من الأمن وأنهم بدأوا يستفسرون عن حضوره وسألوها عدة أسئلة، حيث كان رجال أمن النظام يحضر العزاء يومياً للتعرف إلى المُعزين بعدما سَرَّب إليهم عن طريق عملاؤهم خبر إنضمام شوكت عقراوي إلى حزب معرض.وفي مقالة كتبها الأستاذ مصطفى صالح كريم عنوانها "إلى دراويش صدام المهللين لجرائمه" كتب فيها: "أتذكر ما فعله صدام حسين بالمهندس المناضل شوكت عقراوي الذي سمّمه بنفس الأسلوب، لأن معلومات وردت إليه بأن عقرواي بصدد الإنضمام إلى تنظيم كردي سري مناوئ للنظام، فبدأت الأعراض تظهر عليه.. وأنه في بدايات عام 1981 تمكن عقراوي بعد دخوله إلى المستشفى في بغداد من الأتصال هاتفيًا، حيث قال لهم الحادث الذي دبروه لي لم يقتلني، لذلك سمموني بالثاليوم بعد دخولي إلى المستشفى وأبلغ وداعي للجميع.. ثم أنقطع الاتصال"..لا شك كانت هناك قائمة بأسماء هؤلاء المناضلين (دارا توفيق وشوكت عقراوي) اللذين أستهدفهما النظام وفي نفس الوقت، وقد ذكر الأستاذ صباح مصطفى صالح رسول وهو يشك في أمر وفاة والده بصورة غريبة عبر هذه الرسالة:(( أختي العزيزة زوزان بعد التحية والأحترام، أود أن أذكر قصة والدي المدعو مصطفى صالح رسول.. وهو كان صديقاً لعمي الشهيد المناضل صالح اليوسفي في الستينيات وفي السبعينيات وبعد رجوعنا إلى العراق من إيران بعد نكسة 1975، كان والدي يزوركم بأستمرار في بغداد، توفي والدي رحمه الله في بغداد في سنة 1982 في ظروف غامضة ومرض غريب، ووالدي كان أيضاً صديقاً للشهداء كاك دارا توفيق وكاك شوكت عقراوي رحمهما الله، ولذلك أنا متبع خواطرك بكل إعجاب وأحترام، أرجوا أن تستمري على هذا الدرب والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار..)).وجاء عام 1981 وهو يحمل المزيد من المعاناة والأحزان.. يتبع
الحلقة: السابعة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
الحرب العراقية الإيرانية..من الضروري التوقف عند هذه المحطة المهمة التي كانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى جر العراق إلى نفق مظلم لا يمكن الخروج منه والذي يبدو وإنه لا يمكن رؤية أي بصيص نور في آخره ولحد الآن..!بدأت العلاقات العراقية الإيرانية بالتدهور عقب الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وأزدادت تدهوراً خلال عام 1980 إلى أن وصلت إلى أوجها في خريف ذلك العام، كلا الجانبين كان يرمي على الجهة الأخرى مسؤولية المناوشات والتجاوزات على طول الحدود بين البلدين، والتي وصلت إلى حد إنه أصبح فيه من الصعب تحديد.. مَن الجهة التي بدأت بهذه التجاوزات..؟ ولكن العداء كان واضحاً بين كلا البلدين ومنذ القِدم.. بعد تولي صدام حسين على زمام الحكم بقبضة من الحديد والترهيب، وهو ينوي في قرارة نفسه إلغاء أتفاقية 1975 بأي ثمن، تلك الأتفاقية التي كانت تنص على تنازل العراق عن نصف شط العرب ومدينة المحمرة وأجزاء من خانقين، والسماح للسفن الإيرانية بدخول شط العرب دون قيود. وكان صدام يدرك إن ما قام به من التوقيع على تلك الأتفاقية ما كانت إلى للقضاء على الثورة الكوردية وقيادتها في كوردستان العراق، فكما هو معروف عن أتفاقية الجزائر عام 1975 أن العراق قدم تنازلات مهمة عن بعض من أراضيه لصالح إيران في عهد الشاه مقابل توقف الأخيرة عن دعم الثورة الكردية، ولكن ولقصر نظر الحكومة العراقية وقيادتها ولقلة الخبرة السياسية ظنت إن بأمكانها القضاء على ثورة تمثل قضية شعب..! فسرعان ما عادت الثورة الكوردية ولو بثوب جديد فبدلاً من أن كانت هذه الثورة يقودها حزب واحد وقيادة واحدة حتى آذار 1975، فأنها وبعد أتفاقية الجزائر أصبحت هذه الثورة تقودها أحزاب متعددة ولكل حزب قيادتها ومقاتليها وكان من أبرز هذه الأحزاب المقاتلة هي الحزب الأشتراكي الديمقراطي الكوردستاني والحزب الديمقراطي الكوردستاني والأتحاد الوطني الكوردستاني، وعلى العموم كان الهدف واحد وهو تحرير الشعب الكوردي من قبضة النظام الدكتاتوري.. وقد أستفادت هذه الأحزاب الكوردية من فجوات الأختلاف الطائفي والعقائدي والأيدولوجي الذي كان موجوداً بين العراق والدول المحيطة به وعلى الأخص منهم إيران وسوريا.. فأستطاعت هذه الأحزاب إيجاد التمويل اللازم لها والملاذ الآمن عبر هذه الدول، فكانت لتلك الدول الأقليمية دور في مساندتها لا من أجل الكورد وإنما من أجل مصالحها الشخصية وإلا لكانت أعطت حقوق شعب الكوردي داخل أراضيها.. أعتبرت الحكومة العراقية أن الجمهورية الإسلامية قد خرقت أتفاقية الجزائر من جانبها، فقرر النظام العراقي بدورها أعتبار الإتفاقية المذكورة وما لحقها من أتفاقات مُلغاة من جانب العراق وطالبت إيران أن تعترف بسيادة العراق على أراضيه ومياهه كما كان عليه الوضع قبل أتفاقية الجزائر، وفي 17 أيلول/ سبتمبر1980 أعلن صدام إلغاء أتفاقية آذار 1975 مع إيران بعد 5 سنوات على توقيعها بنفسه..! فأمتنعت جمهورية إيران بدورها عن إعادة الأراضي العراقية، فأدعت العراق بأن إيران تقصف المخافر الحدودية العراقية، إلى جانب شعارات تصدير الثورة الإيرانية إلى العراق، التي أعلن عنها الإمام آية الله الخميني. وإن إلغاء العراق لإتفاقية الجزائر لا قيمة له من الناحية القانونية لأن الإتفاقية مثبتة لدى الأمم المتحدة، لذلك بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وأحداث غزو الكويت عاد العراق للاعتراف بها مرة أخرى..! ونستطيع أن نقول هنا بأن النظام العراقي أرتكب خطأ تاريخي حينما تجاهلت وجهة نظر الشهيد صالح اليوسفي من خلال مذكراته ومن خلال زيارات شخصيات وقيادات النظام إليه منذ عودته كما أشرت سابقاً وحتى إلى ما بعد ذلك.. من أجل هدف حل القضية الكوردية حلاً سلمياً.. حتى لا يدخل العراق إلى هذا النفق المظلم الذي لا خلاص منهُ كما توقع والدي..أعلن العراق الحرب على إيران في يوم 22 أيلول/سبتمبر1980، فقامت المقاتلات الجوية العراقية بالغارات عمق الأراضي الإيرانية، وأستهدفت المطارات العسكرية في عدد من المدن الإيرانية الرئيسة كطهران وأصفهان..(دعمت الولايات المتحدة العمليات العسكرية العراقية ضد إيران، فسياسة الولايات المتحدة الامريكية وموقفها من الحرب العراقية - الايرانية قد توزع بين أربع مراحل هي: الحيادية النسبية، الدعم التكنولوجي، وإقامة علاقات دبلوماسية مع العراق، وإن هذا الدعم كان مبنياً على نظرة الولايات المتحدة في أن إطالة الحرب سيخدم مصالحها، فالحرب تدور بين خصمين لها وأن طرفي الحرب عضوان في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (الاوبيك) تطالبان بأستمرار برفع أسعار النفط وأن هذه الحرب ستحدث شرخاً في العلاقات العربية - الإيرانية بعد تحسنها النسبي على أثر نجاح الثورة الاسلامية في إيران 1979 وإن إطالة الحرب سوف ينهك الجانبين وبالتالي يوفر على الولايات المتحدة التدخل العسكري المباشر لإسقاط أو تحجيم دور أي من الطرفين المتحاربين..(1)).والدي والحرب العراقية الإيرانية..كان لوالدي وجهة نظر خاصة من خلال هذا الحرب وهي في بداياتها، وسوف أختصر وجهة نظره.. كنت أشاهدهُ متحمساً لسماع الأخبار في كل لحظة من خلال المذياع والأستماع إلى أخبار الإذاعات الخارجية حيث كما هو معلوم كان هناك الكثير من المراوغة من خلال أخبار إذاعات وتلفزيون العراق حول الحرب، وكان يحاور والدتي أحياناً بهذا الشأن.. في البداية كان لديه بصيصاً من الأمل فيما لو أدى نتائج هذا الحرب إلى تذمر الشعب وقلب النظام.. لكنه بعد ذلك فقد الأمل في أن تؤدي هذه الحرب إلى إضعاف النظام الحاكم وبالتالي إسقاطه وذلك بعد أن رأى الدعم لا المحدود من دول الخليج النفطية ومعظم الدول الغربية وفي مقدمتهم أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها.. خلال هذه الفترة ومع بدايات الحرب العراقية الإيرانية أخذ النظام العراقي بشن حملة بمطالبة الشخصيات الكوردية الموجودة في بغداد وكذلك الكُتاب والأدباء الكورد بشن هجوم من خلال تصريحاتهم ومقالتهم على الجمهورية الإيرانية تحت سياسة الضغط والتهديد، فأضطر العديد من القيادات الكوردية والأدباء الكورد كتابة المقالات التي تندد بحكومة إيران، ونفس الشيء حاول نظام بغداد مع والدي فأرسلت في البداية عدة مراسلين للضغط على والدي لكتابة منشورات تندد بنظام إيران إلا أن والدي رفض ذلك رفضاً قاطعاً حتى مع المحاولة الأخيرة التي جاءت من قِبل برزان التكريتي (وسيأتي الحديث لاحقاً لأن زيارة برزان كانت قبل أستشهاد والدي..). يذكر الأستاذ هارون محمد: (( رفض اليوسفي الهجوم على إيران عندما بدأت الحرب العراقية الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980 وبدأت صحيفة (العراق) الناطقة بأسم الأكراد الموالين للسلطة بأستقطاب قيادات كردية كانت منتمية للحزب الديمقراطي الكردستاني وتحت قيادة ملا مصطفى البارزاني وهكذا ظهرت مقالات تحمل أسماء مثل عبد الوهاب الأتروشي عضو اللجنة المركزية في الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومحافظ أربيل سابقاً، وحبيب محمد كريم سكرتير الحزب سابقاً، وعبد الستار طاهر شريف وزير البلديات حين ذاك، وعشرات المسؤولين الأكراد السابقين وهم يهاجمون الثورة الإيرانية وشخصية الخميني ويعرضون صور إضطهاد الكورد في إيران، وكان مدير الشؤون الإدارية والمالية في الصحيفة العراق حينها شخص عرف عنه أنه يعمل وكيلاً لدى دائرة الأمن ويدعى (عبد الرحمن بكر) وكان مدرباً عسكرياً لقوات البشمركة في أوائل السبعينيات، حيث تلقى أمراً من العقيد طالب حيدر أحد مساعدي فاضل البراك مدير أمن العام بزيارة صالح اليوسفي في بيته والضغط عليه لكتابة سلسلة من المقالات ضد إيران وكان الأعتقاد السائد لدى الأوساط الحكومية والأمنية أنها قد تستغل مواقفه العدائية ضد إيران ورفضه الألتحاق إليها عند إنهيار الحركة الكردية في آذار (مارس) 1975 للكتابة ضد الحكم الإيراني الجديد.عاد بكر من زيارة اليوسفي هائجاً وهو يتوعد ويصيح: لقد طردني وأهانني وبدا يقص على من تجمع حوله. كيف أنه ناشد اليوسفي أن يكتب في الجريدة فأعتذر اليوسفي قائلاً أنه مريض ولا يستطيع الكتابة فعرض عليه النقيب عبد الرحمن بكر أن يسجل له أحاديث على أشرطة يتم تفريغها بعد ذلك وتعاد صياغتها ونشرها بأسمه فما كان من اليوسفي إلا أن أشار له بالخروج من البيت قائلاً: يا عبد الرحمن تريد أخر عمري أن تسخرني لتأيد سادتك أخرج يا خائن من بيتي...لم تقف تجاوزات نظام صدام علينا إلى هذا الحد بل بدأت بسلسلة جديدة من المضايقات... يتبعالهوامش: (1)أثر السياسة الأمريكية في الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988 دراسة تاريخية(2)لندن – هارون محمد 18 – 10 – 2003
الحلقة: الثامنة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
خطف وتعذيب والدتي.في صباح يوم 29 شباط/ فبراير 1981 كانت والدتي تستعد للذهاب إلى دوامها في (روضة الزهور) التي تبعد مسافة حوالي 200م عن منزلنا، وكانت كعادتها تتأخر عن الدوام بعض الشيء لكونها معاونة في المدرسة وليست لديها حصص، كان الطريق فارغاً تقريباً، قبل وصولها إلى الروضة بمسافة جاءت سيارة مسرعة كادت أن تدهسها..! بالكاد أستطاعت أن تأخذ جانباً من الطريق بعد أن أدركت النوايا الخبيثة لهذه السيارة..! وإذا بالسيارة في ثواني تقطع الطريق عنها بكل سرعة وتركن في مواجهتها وفي الحال خرج منها رجل كان بجانب السائق وتوجه نحوها.شعرت والدتي بالخوف والفزع من هذه الجرأة وهذا الموقف الصعب..! لا تعرف كيف تتصرف وماذا تفعل..؟! أخذت تنظر يميناً ويساراً لكنها لم ترى أحد في الشارع لتستنجد به وقد أدركت أن هذه السيارة ما أخذت هذا الموقف إلا بنية سيئة..! وقفت والدتي مذهولة وقد خارت قواها حين شاهدت هذا الرجل الذي ترجل من السيارة يتقدم نحوها ثم هددها بأن تركب السيارة بصمت وحذرها أن تصرخ أو تستنجد بأحد..! ثم سحبها بقوة ودفعها في المقعد الخلفي للسيارة وعصّب عينيها وأمرها أن تخفض رأسها لكي لا يراها أحد.أنطلقت السيارة لمسافة إلى حين أن توقفت في مكان ما، أخرجوا والدتي من السيارة وهي معصوبة العينين وقادوها إلى غرفة خاصة ورفعوا العُصبة عن عينيَّها، أدركت والدتي أنها إحدى دوائر أو مقرات الأمن، حيث وجدت نفسها في غرفة كانت خاصة بعمليات التعذيب..! شعرت بالخوف والذعر وهي تجهل سبب إلقاء القبض عليها بهذه الطريقة الوحشية..؟! كان هناك كرسي التعذيب الكهربائي يركن في زاوية الغرفة.. أجلسوها على كرسي التعذيب وربطوا يديها بالكرسي وبدأوا بالتحقيق معها، وبين الفترة وأخرى كانوا يصعقونها بالتيار الكهربائي.كان التحقيق يدور معها حول تقارير جاءت إليهم بحجة أنها تدافع عن ما أسماهم النظام ب (التبعيين - وهم من العراقيين الشيعة ومن الكورد الفيليين من الذين كان يدعي النظام أن أصولهم إيرانية، فقام النظام حينها بترحيلهم بشكل قسري وصادرت كل أموالهم وممتلكاتهم)، ومن كثرة ما واجهت والدتي من معاناة في حياتها من تهجير ونفي فإنها كانت تحس بظروف هؤلاء المُرحلين وتشعر بمعاناتهم، فكانت لها زميلة معلمة في نفس الروضة (من كربلاء تدعى ست فخرية) بعض المعلمات في المدرسة كانوا يتهمونها بأنها تبعية ويجب ترحيلها، فكانت والدتي تزجرهم وتدعوهم أن يتركوها وشأنها لأنها أرملة ولديها ثلاثة أطفال تعيلهم لوحدها، هذا بالإضافة إلى تقارير أخرى عن والدتي تتعلق برأيها بالحرب الإيرانية العراقية وهي تشير من خلالها عن أخطاء خطوة أتفاقية آذار 1975 حيث كانت والدتي لا تقل جرأة عن والدي في قول الحق، وهكذا جرى تحقيق طويل معها حول التهمتين..! أجابت والدتي عن تفاصيل كل الأسئلة بجرأة ودافعت عن نفسها من خلال تلك التقارير المبالغ فيها، فمن خلال كثرة التجارب التي مرت عليها خلال مراحل نضالها مع والدي كانت لديها بعض الشجاعة والخبرة في كيفية مجابهة الخصم في مثل هذه التحقيقات، ولكن رغم ذلك أستمروا بتعذيبها بالصعقات الكهربائية لعدة مرات..! وفي النهاية هددوها بالذبح إن حاولت مرة أخرى أن تدافع عن أحد من هؤلاء التبعية، كما هددوها بقص لسانها إذا أفشت وصرحت لكائن مَن يكون عما جرى لها من خلال هذا التحقيق والتعذيب، ثم أخلوا سبيلها بأعجوبة.هذه التفاصيل المختصرة سردتها لي أمي شخصياً وذكرتها في كتابي(1) كنت أستمع لها وأنا في حالة من الحزن والذهول والألم وأقشعر جسدي لِما كانت تسردها عن هذه الحادثة والتصرف الوحشي، وأنا أتخيلها كيف أستطاعت الصمود..؟! وأنهارت دموعي ووقفت حائرة لا أعرف كيف أُعبر لها عن حزني وألمي، ثم بادرت على الفور وسألتها: وهل أخبرتي أبي..؟!فأجابت بحزن: كنت أخاف أن أخبره في البداية، فقد هددوني كثيراً إذا ما أخبرت أحد.. ولكن بمرور الأيام شعر والدك من خلال ملامح وجهي الحزينة وشرودي وعدم رغبتي بتناول الطعام وخوفي من الذهاب إلى الدوام وكنت أتحجج لهُ بمختلف الحجج، حيث كنت أخاف أن أذهب مرة أخرى خوفاً من أن يخطفوني مرة أخرى.. فتلك الحادثة أثرت في نفسيتي كثيراً وجعلتني أخاف حتى من مجرد التفكير أن أخرج إلى الباب، فقد أنقذني الله من بين أيديهم ولم أكن مستعدة للمجازفة مرة أخرى، أمتنعت عن الدوام بعد أن قدمت بعض الأعذار لوالدك ولم أستطع بعدها تلفيق حجج أكثر من ذلك، ظل يسألني عن سبب تغيري فجأة وعن حزني وشرودي ولم أعد كما كنتُ، وفي الحقيقة لم أستطع الكتمان أكثر من ذلك.. فصرحت لهُ أخيراً بكل شيء في لحظة إنهيار.. وعن كل ما عانيته من ألم وإهانة وتعذيب على أيدي هؤلاء الأوغاد.فسألتها: وماذا فعل أبي...؟!أجابت: والدكِ لم يستطع السيطرة على أعصابه وتأثّر جداً وعاتبني لأنني لم أخبره في حينها.. فبادر على الفور بكتابة مذكرة عنيفة وشديدة اللهجة يُدين ويستنكر فيها هذا العمل الوحشي والإجرامي الذي هو ضد كل القيم الأخلاقية والإنسانية منتقداً النظام وجهازه الأمني، ثم أتصل بعدها بأحد ضباط الأمن الكبار وعلى الأرجح كان فاضل براك أو على ما أتذكر شخص أسمهُ الأول طالب، وطلب منه أن يوصل هذه المذكرة الى أعلى مرتبة في الدولة.أطلعت حينها على مقتطفات من مسودة والدي رغم أنني للأسف لا أتذكر ولم أستوعب التفاصيل ولكنها كانت جريئة جداً وشديدة اللهجة وهو ينتقد تصرفهم الإجرامي.بعد حادثة أعتقال والدتي وطريقة التعذيب البشعة التي تعرضت لها، أصبح والدي على يقين أن السلطة الحاكمة في بغداد بدأت تحسب عليه المواقف، وسيراً على طرقهم الوحشية، تأكد له أن تلك المحاولة الدنيئة من قِبل الأمن ومحاولتهم إما دهس والدتي بالسيارة وقتلها (وهي كانت مشابهة لمحاولات الدهس التي تعرض لها سابقاً المناضل عزيز عقراوي بقصد أغتياله) أو أخذها إلى دائرة الأمن للتحقيق والتعذيب كرسالة لتهديد والدي ولإرهابنا.زيارة برزان التكريتي(مدير المخابرات العامة)..في إحدى الأمسيات على ما أتذكر خلال شهر نيسان/ أبريل 1981 تلقى والدي أتصالًا هاتفياً عن نية بعض المسؤولين زيارة والدي، وحين وصلوا كان على رأسهم برزان التكريتي وبصحبته شخصين آخرين، أستغرق زيارتهم لحوالي ساعة، عرفنا من والدي أن برزان التكريتي جاء هذه المرة شخصياً طالباً من والدي أن يبدي رأيه لوسائل الإعلام حول ما سمي حينها بقادسية صدام، وكانت الحرب العراقية الإيرانية في أوجها، فأجاب والدي بكل جرأة قائلاً: (( ليس لديّ أي رأي حول هذا الموضوع.. لكني أستطيع أن أعطيك رأيي حول عمليات التهجير القسري للكورد وتدمير القرى الذي تمارسونه من خانقين إلى زاخو..))..!وهنا أرتبك برزان من الحديث والنقاش مع والدي ومن رده..! وحين بادر بالقيام للإنصراف أصطدم بالطاولة التي أمامه وكاد أن يسقط من شدة أرتباكه.. ثم غادر البيت غاضباً..وقد تطرق أبن عم والدي الأستاذ جميل أحمد اليوسفي عن هذا الموقف:((علمت وأنا في أربيل وقبل أستشهاد المرحوم بحوالي شهر بأن برزان التكريتي كلف من قِبل صدام لزيارة الشهيد في داره فسافرت إلى بغداد وزرت الشهيد في بيته وسألته: يا عم ماذا كان يريد برزان في زيارته الأخيرة فأجابني الشهيد وقال.. طلبوا مني أبداء رأي حول قادسية صدام فقلت لهم ليس عندي رأي عن القادسية.. إنما أعطي رأي حول عمليات التهجير والتنكيل والحرق والتدمير التي تمارسونها ليل نهار من خانقين وحتى زاخو.. وجعلت بارزان يرتبك في حديثه وأثناء قيامه للانصراف أصدم بالطاولة التي أمامه وكاد أن يسقط على الأرض، وقد علق صدام شخصياً بعد هذه الزيارة بقوله: أمر هذا الرجل عجيب يتعامل معنا وكأن عشرة آلاف من المسلحين واقفون وراءه يساندونه ويحرسونه.وأستطرد الشهيد ماضياً في حديثه أنا حفيد الشهيد (شيخ يوسف(3)) الذي أعدم في قلعة زاخو خلال حكم سلاطين العثمانين لمشاركته في ثورة بدرخان بك فليعد التاريخ نفسه مع الحفيد.. فلم يبقى لي في هذه الدنيا سوى ملعقة دم سأفديها لشعبي ووطني ولن أطأطئ هامتي للأعداء أبداً.. فترقرقت الدموع في عيني وأدركت أن الشهيد يعيش أيامهُ الأخيرة مع النظام.. لقد مشيتَ نحو الفداء والشهادة بإرادتك أيُّها الفارس المغوار ووفيت بوعدك الذي قطعته على نفسك وأقتفيت أثر جدك الأكبر الشهيد (شيخ يوسف) هذا هو الشهيد صالح اليوسفي وهذه هي صلابته وإرادته الفولاذية التي قاومت أقسى وأعتى الأعاصير..(4))).الهوامش:(1)خواطر من ذاكرتي.(2)أختيار الشهادة في سبيل الوطن (صحيفة خه بات) العدد 961 بقلم جميل اليوسفي.(3)الشيخ يوسف: من ألمع الشجعان المشاركين في ثورة بدرخان باشا أمير جزيرة بوتان، ناضل من أجل قضية مصير الشعب الكوردي والحقوق القومية الكوردية منذ عهد الأمير بدرخان، وكان معتمد الأمير في منطقة بهدينان آنذاك خلال القرن التاسع عشر التي تأسست في منطقة الجزيرة، كانت حينها تحت السيادة الدولة العثمانية أسمياً، وكان لها نوع من الأستقلال الجزئي وحكمها العديد من الأمراء الكرد، تعرض الشيخ يوسف إلى ما يشبه الأنقلاب خلال ثورة الأمير بدرخان باشا ضد العثمانين، فقامت الحكومة العثمانية بمصادرة ممتلكاته وأمواله وأودعته في (سجن الزيندان) في زاخو فبقى هناك ردحاً من الزمن، وفي السجن صمم الشيخ يوسف مع رجال آخرون على الهرب فقاموا بحفر فجوة صغيرة في حائط السجن وبصورة سرية، وفي الخارج قام أهالي المدينة بدورهم بمساعدتهم على تنفيذ هذه الخطة وإنقاذ الشيخ يوسف ورجاله بتكبير تلك الفجوة من الخارج وأعدوا لهما الجراب لإنقاذهم عن طريق نهر الخابور، ونجحت الخطة ونجا الشيخ يوسف (ولا تزال تلك الثغرة موجودة على جدار السجن لحد الآن) وفي سنة (1849) سجن شيخ يوسف مرة أخرى في مدينة الموصل بأمر من والي الموصل مصطفى باشا، لأستمرار نشاطه السياسي حيث كان يتنقل بين القرى والأرياف محرضاً الجماهير وناشراً الوعي القومي بينهم، ودام سجنه إلى (1851) ثم أطلق سراحه بعد أن صادرت الحكومة العثمانية كل أمواله وأموال إخوته كل من ملا أحمد وملا مصطفى وملا طه، ولكن لم تؤمن الحكومة العثمانية على الشيخ يوسف فأعدمته في قلعة زاخو خلال تلك الفترة..(4)نضال الشيخ يوسف وإعدامه مذكورة في الحلقة الأولى
.
الحلقة: التاسعة والعشرون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
أدرك والدي من خلال هذه السيناريوهات الخبيثة التي مارسها النظام وفي نفس الفترات، ومنها القضاء على أقرب رفاق دربه في بغداد الشهيدين(دارا توفيق وشوكت عقراوي) ومحاولتهم الدنيئة من خلال خطف وأعتقال وتعذيب والدتي لساعات، فتوضح لهُ بأن النظام بدأ يحاربه علناً ويحسب لهُ ألف حساب.. ولا شك كان للواشين خلال هذه المرحلة الدور الرئيسي فيها، فحين قمت بزيارة أخي لاوين في مصر في شهر شباط من ذلك العام.. أخبرني أخي لاوين أن أخبر والدي أن يتحذر من شخص معين كان يزوره بين الحين والآخر، وقال لي أنهُ عرف من مصدر مؤكد أن هذا الشخص يحمل مسجلاً يسجل من خلالها أقوال وآراء والدي، لا أريد فتح المواجع القديمة ولا أريد أن أشير إلى أحد دون أن يكون لديّ دليل قاطع ضدهُ ولكن سأشير بأن أسمه يبدأ بالحرف (س) وهو كوردي أباً عن جد، على العموم إذا كان ذلك صحيحاً فليس لي إلا أن أقول لهُ حسبي الله ونعم الوكيل. ظل نضال والدي مستمراً دون أن يهتم بردود أفعال النظام وتهديداته قيد شعرة مدافعاً عن حقوق شعبه لآخر رمق، وظلت أتصالاته مستمرة مع رفاقه المناضلين في المناطق المحررة.. رغم هجمات النظام المستمرة لمقراتهم ومواقعهم السرية التي كانت تصل للحكومة العراقية ببركة الواشين والخونة.صالح اليوسفي زعيم ومفكر..بتاريخ 12- 15 أيار/ مايو1981 أنعقد المؤتمر الأول للحزب الأشتراكي الديمقراطي الكوردستاني في المناطق المحررة من كوردستان العراق في قرية (دوله تو) وأعلن عن أنتخاب صالح اليوسفي سكرتيراً للحزب، ولكن يبدو وكما أشار الأستاذ عادل مراد (رحمه الله) بأن الأختلاف في الأفكار كان ما زال متغلغلاً في الحزب وبين أعضائه وحتى بين الشخصيات القيادية.. رغم أن والدي كان يحرضهم على وحدة الصف من جهة ومن جهة أخرى كان قد أشار لهم عن تفاصيل منهج الحركة والحزب ومنذ تأسيسهما (أولاً كحركة في عام 1976 ثم إلى حزب في عام 1979) لا كزعيم حزب فحسب وإنما كمفكر عرك الحياة السياسية والنضال الثوري على مدى أربعة عقود في حينها.. وسبق وأن أشرت إلى ذلك الحلقات الماضية، حيث وضح والدي لرفاقه وبالتفصيل عن المنهج الجديد لخارطة الطريق في هذه المرحلة المهمة والحرجة من مراحل تاريخ نضالنا الثوري من خلال رسائله، ولكن يبدو حينها أن أفكار الأتحاد والكومله والأحزاب الأخرى كانت لا تزال تتوغل داخل الحزب من قِبل البعض..! مُستغلين بذلك غياب والدي من على دفة القيادة.. للمحاولة في بث البلبلة وإشعال الفتن داخل الحزب..! وأزدادت هذه الهوة بين قيادات الحزب بعد أغتيال والدي بشهر من عقد ذلك المؤتمر..! ونقلاً عن الأستاذ عادل مراد:(( بعد فترة وجيزة من عودتي عقد الحزب الاشتراكي الكردستاني مؤتمره الأول في قرية (دوله تو) في الفترة مابين 12-15/5/1981، وكان من المقرر عقده يوم 5/5/1981 إلا أنه تأجل بسبب قيام الطائرات المروحية لنظام صدام حسين بقصف القرية، والتي أصابت عن طريق الخطأ سجن تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني بقيادة الدكتور عبد الرحمن قاسملو، بدلاً من أن تُصيب مواقع الحزب الأشتراكي الكردستاني ومكان عقد المؤتمر، والذي خلف مجزرة حقيقية راح ضحيتها العشرات من نزلاء السجن وحراسه، وكان معظمهم من منتسبي الحرس الثوري الإيراني وأفراد من الجيش الإيراني المعتقلين لدى الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني.عقد المؤتمر بين الأشجار في منطقة كثيفة الأعشاب على سفح أحد الجبال تحسباً من عودة الطائرات الحربية العراقية.. حضر المؤتمر (114) مندوباً يمثلون مختلف فروع الحزب وقد أنتخبتُ رئيساً لإدارة جلسات المؤتمر وخلال المؤتمر الذي أنعقد في 12/5/1981 أدركت بأن هناك صراعاً بين جناحين، الأول كان يرفع راية اليسار والإشتراكة، دون مراعاة الظروف المرحلية للحركة الوطنية لكردستان في هذه المرحلة التاريخية، وشن هجوماً حاداً على الجناح الآخر متهماً أياه باليمنية وكان من أبرز شخصيات الجناح اليساري (رسول مامند واللواء عزيز رشيد عقراوي وسعيد عبد الله وعبد الخالق زنكنة وأحمد فقي رش وقادر عزيز والأستاذ أمين قادر.. أما الجناح الآخر فتألف من (الدكتور محمود عثمان وقار جباري وآخرين كانو يمثلونه) ولان السيد عدنان المفتى كان آنذاك في دمشق وخارجاً لتوه من السجن وكان تحت المراقبة الدائمية لم يتمكن من حضور المؤتمر.. وتجدر الإشارة إلى أن الحزبان الرئيسان على الساحة (الأتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني) كانا يحاولان بشتى السبل إضعاف الحزب من منطلق إن الحزب الاشتراكي الكردستاني كان يمثل التيار الثالث الوسطي بينهما(1))).ويضيف الأستاذ عادل مراد:(( وصلت الأمور إلى حد تدخل الحزب الشيوعي العراقي في معمعة الصراعات بعد أن عبر أعضاء في قيادة كردستان للحزب عن دعمهم لجناح المرحوم رسول مامند على حساب الجناح الآخر لذا لم يرشح الدكتور محمود عثمان نفسه لقيادة الحزب.. إذ ألقى رسول مامند التقرير العام للحزب في المؤتمر والذي سادت عليه التوجهات اليسارية.. أختتم المؤتمر أعماله بأنتخاب لجنة مركزية جديدة للحزب بالإقتراع السري المباشر وكانت النتائج التي حصل عليها الفائزين كالتالي:عادل مراد (98) صوتاًرسول مامند (91) صوتاًالمقدم طاهر علي والي (89) صوتاً أحمد فقي رش (86) صوتاًقادر عزيز (83) صوتاًسيد كاكه سيد أسماعيل (79) صوتاًمحمد رحيم عبد الله (78) صوتاًأحمد أسماعيل (ملا ناصح) (76) صوتاً اللواء عزيز عقراوي (75) قادر جباري (74) صوتا محمد فاتح (70) صوتاًشيركو الشيخ علي (70) صوتاًصالح عثمان (شيروان شيروندي) (69) صوتاًماموستا امين قادر(65) صوتاً قادر شورش (64) صوتاًسعد عبد الله (64) صوتاًعبد الخالق زه نكنه (51) صوتاً وفاز كل من (محمد حاجي محمود وعدنان المفتي الذي لم يتمكن من حضور المؤتمر وحسين علي أحمد فيلي الذي كان في لندن أثناء إنعقاد المؤتمر ووريا بهجت الذي كان في ألمانيا كأعضاء أحتياط للجنة المركزية للحزب.كان للحزب الاشتراكي الكردستاني مجموعة من الكوادر الناشطة في الخارج وأوربا على وجه التحديد كان أبرزهم السيد عدنان المفتي الذي كان من أبرز البيشمركة لدى القائد غفور (مامة غفة) الذي أثنى عليه في المؤتمر وطالب أعضائه بالتصويت له لأنه كان سليل عائلة العلامة ورجل الدين المعروف في أربيل رشاد المفتي وكان جديراً بتولي المهام القيادية..)).كما كان للحزب الاشتراكي الكردستاني مجموعة فاعلة في السويد كان لديها علاقات واسعة مع الجالية الكردية والقوى السياسية الكردستانية والعراقية وكانت موضع تقدير لدى الجميع منهم (جميل قادر بكر وعبد الرزاق حسين وعمر حمد وآزاد طاهر وسربست توفيق وكاروان سعيد وصالح سوروئاري خضر وآخرين، وفي أميركا كان للسيد آري دياري حامد الجاف نشاط كبير في الوسط الكردي وتمكن من إستمالة العديد من الشخصيات إلى جانب القضية الكردية، وفي المانيا كل من الدكتور عادل نعمت فتاح وفاضل كنج علي وآزاد عبد الله وفي بريطانيا صباح يوسف والدكتور جبار ستار وغازي عبد الخالق هورامي وباكو صلاح حامد الجاف، وكانت هناك مجموعة ناشطة في الإتحاد السوفيتي أذكر منهم الدكتور بشتوان عبد القادر وكامران قادر شورش وطه رسول ونزار غازي وجلال زرار ويوسف كونجا عزيز سماقلي وآزاد كريم عبد الله وشمال قادر منور وآخرين..(2))).قبل أغتيال والدي بشهر تقريباً، طرق بابنا ساعي البريد، وتصادف أن كان والدي في حديقة المنزل وفتح الباب، فسلم والدي طرداً بريدياً على أساس إنه مُرسل من خارج العراق، وكان مختوماً بأختام بريدية وليست طوابع..... يتبعالهوامش:(1،2) من مذكرات الأستاذ عادل مراد
الحلقة: الثلاثون بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
لغز الطرد المجهول..!سلم والدي الشخص الذي أدعى أنهُ ساعي البريد طرداً على أساس إنه مُرسل من خارج العراق، لم تكن على الطرد الطوابع البريدية فقط كانت هناك أختام بريدية (كان ظرفا أسمر اللون من النوع الذي يضع فيها الرزم البريدية من مجموعة رسائل أو كتب) أستلم والدي الطرد.. في هذه اللحظة مررت على والدي بعد أن سمعتُ طرقات الباب، كان أبي واقفاً في طارمة البيت وبيده الطرد لم يفتحه بعد، سألته: بابا ما هذا..؟ أجابني: يبدو أنهُ طرد أستلمتها من ساعي البريد. فقلت له: ولماذا لم تفتحه أبي..؟كان أبي في هذه اللحظة يتطلع للطرد وهو يدقق النظر في تلك الأختام البريدية.. شعرتُ أن والدي كان متردداً بعض الشيء في فتح الطرد لسبب أجهله..! ربما شك في أمرها حيث كان يبدو مستغرباً بعض الشيء فلم يسبق أن أستلمنا يوماً طرداً مثلهُ..! طلبت من أبي أن نفتحهُ وقلتُ لهُ ربما يكون من نارين أو لاوين..؟ فأخذت الطرد منهُ بلهفة وأنا أتوقع أنها ربما من أختي أو أخي.. كان أبي بجانبي وأمام أنظاره وفي طارمة البيت فتحتُ الطرد وأطلعنا سوية على محتوياته.. ولو أنني في ذلك العمر لم أكن أستوعب مثل هذه الأمور كثيراً ولكنني سأذكرها للتاريخ والله يشهد على قولي وعلى قدر ما أدركت من خلال هذا الطرد المجهول.. كان الطرد يحتوي على رُزمة من الأوراق المتعددة (ما بين حوالي 10 إلى 12 ورقة أو ربما أكثر بقليل أو أقل ومن حجم الورق الكبير) مطبوعة بآلة الطابعة وباللغة العربية وبشكل منسق ومرتب وعلى أساس أنهُ مبعوث من الحزب الديمقراطي الكوردستاني، أخذ أبي يقرأ تلك الرسائل مستغرباً..! كانت صفحات تلك الرسائل عبارة عن موسوعة تتضمن جزءاً منها عن معركة هكاري وتداعياتها وتدعوا إلى نبذ المعادات وإعادت العلاقات.. وأجزاء أخرى تتحدث عن نشاطات وفعاليات البيشمركة في المناطق المحررة (هذه كانت بأختصار بعض التصريحات التي وردت في ذلك الطرد...).بعد أن أطلع والدي على تفاصيل تلك الرسائل داخل الطرد وبدأ مستغرباً من سبب ومصدر إرسال هذه الرزمة البريدية لهُ الذي لم يسبق وأن أستلم مثلها سابقاً، وتشاور حول هذا الموضوع مع والدتي، حيث كان لابد أن يعلمها بمثل هذا الحدث المهم.. شارحاً لها تفاصيل ما ورد من خلال هذه الرسائل.. فأخبرته والدتي بأن يستشير خالي الكبير (خليل(1)) حول هذا الموضوع، فلبى رغبتها وأتصل والدي بخالي خليل فحضر على وجه السرعة وبعد أطلاع خالي على تلك الرزمة أستغرب هو الآخر جداً وساوره القلق الشديد..! فصرح برأيه بأن يبادر والدي بتسليم محتويات الطرد للجهات الأمنية فوراً ويخلي مسؤوليته من هذا الموضوع حفاظاً على سلامته، كما نصحه بالخروج من بغداد في أقرب فرصة.. أخي شيرزاد وحسب شخصيته المعروفة لم يكن يحب التدخل في الأمور السياسية مطلقاً لذا لا أتذكر أي ردة فعل من جانبه، أو حتى إذا كان أطلع على الرسائل. كنت أظن إن مَن علِم بموضوع تلك الرسائل هم فقط عائلتنا وخالي خليل.. ولكن شاء القدر ومن حسن الحظ ظهر شاهد آخر..! فبعد أطلاعي على مذكرات المناضل الأستاذ العزيز فاروق ئاكره يى الذي أهداني بدوره كتابه القيم (من ذاكرة ناشط بارتي) رأيتهُ قد أشار إلى هذا الحدث المقارب إلى هذه الحقيقة ولكن دون علمه بالتفاصيل الدقيقة.. ويبدو أن والدي لم يطلعهُ على التفاصيل الدقيقة في محتويات الطرد، ولكن يبدو وأنهُ كانت هناك ثقة كبيرة بين والدي والأستاذ فاروق.. فقد أشار الأستاذ فاروق ئاكره يى بأن والدي قد أخبرهُ على فحوى رسالة على أساس أنها من السيد مسعود البارزاني كانت تدعوا إلى تهدئة الوضع وتداعيات ما حدث في منطقة هكاري.. كما أشار الأستاذ فاروق من خلال شهادته بأن والدي كان يشك في تلك الرسالة التي قد تكون مدبرة من قِبل المخابرات العراقية(2).وبعد أن أستشرتُ الأستاذ المناضل فاروق ئاكره يى مرة ثانية حول هذا الموضوع المهم مع جزيل شكري وتقديري لحضرته على هذه الشهادة الموقرة ذكر لي قائلاً:(( كان الوالد الشهيد يفتح الباب لضيوفه ومتواضع في خدمتهم، نعم للتأريخ.. أعلمني في آخر زيارة لمقامه الموقر، أنه أستلم رسالة شخصية من السيد (مسعودالبارزانى) بشأن الأحداث وكيفية تدارك الأخطاء وخاصة كارثة هكاري.. لكن الوالد كان في شك من هذا الموضوع، وأنه سيخفي عن الموضوع إحتراما لشخص كاك مسعود، وكان يشك من أن ذلك قد يكون من تدبير ومكيدة النظام البعثي، ولم يطلعني شهيد السلام عن كيفية إستلام البريد ومحتوياته ولم أسألهُ عن ذلك.. لأن من عادتي أن لا أكون فضوليا... وكان الوالد قبل ذلك متفائلا من جهوده السلمية في البداية لكنه أصبح متشائماً بعد سجنه وسيطرة (صدام) على الحكم وتصفية قيادات البعث خاصة(عبدالخالق السامرائي فى السجن) عظم الله مكان الشهيد الوالد وفيكم البركة لدوام ذكره وتراثة..)).للحقيقة والتاريخ أقولها.. لو أن أي شخص كان قد أطلع على محتوى تلك الرزمة من الرسائل لا شك كان سيكون في نفس موقف والدي من خلال أستغرابه على حقيقة مصدر ذلك الطرد وتردده في تسليمها للحكومة والكتمان عنها لحين التأكد من مصدرها.. حيث كانت فيها بعض الحقائق والأحداث التاريخية والمعلومات الدقيقة جداً من المستحيل أن يصدق أحد أن يكون النظام على علم بمثل هذه التفاصيل والحقائق والمعلومات..! إلا إذا كان هناك أشخاص موالين للنظام ومندسين بالخفاء في داخل الأحزاب سواء في المناطق المحررة أو في الخارج حينها، وكانوا على علم ودراية بتلك المعلومات الدقيقة (إذا كان ذلك الطرد من تدبير الحكومة). إن تلك المعلومات الدقيقة في محتوى هذه الرسائل جعل والدي ونظراً لخبرته السياسية ونضاله الطويل في موقف قناعة من رأيه الشخصي بعدم تسليم الرسالة للحكومة ولم تجبرهُ والدتي أيضاً لإيمانها بقراره.بعد إطلاعي على تلك الرسائل من خلال حديث والدي لوالدتي عن تفاصيل ما ورد في تلك الرسائل وبعد ردود أبي البسيطة على أسئلتي وفضولي من خلال أقتحامي في موضوع هذه الرسائل.. وحسب عفويتي وبرائتي ورغم تحذيرات والدتي بعدم التدخل في مثل هذه الشؤون، إلا أنني أدليت حينها برأي أيضاً وقلت لأبي: طالما هذه الرسائل الشخصية والسرية هي مُرسلة إليك فلا دخل للحكومة فيها ولا شأن لها بها وأنا أفضل أن لا نخبرهم.. وأمام هذا الرد العفوي من جانبي أكتفى أبي برده على رأيي العفوي بأبتسامته الحنونة التي لا تغيب أمام عيني.. وكالعادة حصلت تأنيباً شديداً من والدتي بأن لا أقحم نفسي بمواضيع أكبر من حجمي..! بعد أيام من أستلام والدي لذلك الطرد، قرر في النهاية عدم إخبار السلطات الأمنية به، كانت لديه فرضيتان الأولى أنه أرسل إليه بواسطة أحد الأحزاب الكوردية الموجودة في الخارج، والثانية أن تكون الحكومة هي التي أرسلت الطرد بواسطة أحد عملائها في الخارج، ونظرا لحالة الحرب التي يعيشها العراق فلا بد وأن الرقابة قد فتحت الطرد وأطلعت على محتوياته، وإنها بصدد جس نبض ردة فعل والدي، في المحصلة أن الحكومة على علم بما وصل إليه في كل الأحوال، فحكومة ديكتاتورية مثل هذا النظام، ولديها قوة مراقبة دقيقة وأعداد هائلة من الجواسيس، فمن المستحيل أن يمر عليها مثل هذه الطرود دون أن تكون على علم ومعرفة بها وبمحتواها، هذا ما توقعهُ والدي من خلال هذا الطرد المجهول، فقرر الاحتفاظ به، وكان في قرارة نفسه يؤمن بصواب ما يفعله (سأذكر في الحلقات اللاحقة عن مصير ذلك الطرد)... يتبعالهوامش:(1)ذكرت في حلقاتي الأولى كان والدي على صداقة مع خالي خليل منذ أن كانا مُدرسين في منطقة الحرير في منتصف الأربعينيات وأزدادت الصداقة والثقة بينهما بعد أن شاء القدر وأصبحت والدتي من نصيب والدي.(2)من ذاكرة ناشط بارتي - الكاتب فاروق محمود ئاكره يى - ص 110