1 قراءة دقيقة
الحلقة 29 – الجزء الأول  بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

زوزان صالح اليوسفي


الحلقة 29 – الجزء الأول
 بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

 مارست القوات الحكومية في محاربتها للثورة الكوردية سياسة (الأرض المحروقة) على نطاق واسع مما زاد من عزم وتصميم الكورد على مواصلة القتال والدفاع المستميت عن موقفهم، وأنتهت هذه الحملة العسكرية والتي دامت إلى كانون الثاني/ يناير 1966 بالفشل، بعد أن كلفت العراق أكثر من مليون دولار في اليوم حسب ما ورد في تعليق لإذاعة صوت كوردستان، وجه الزعيم البارزاني مذكرة إلى الأمم المتحدة في كانون الثاني/ يناير 1966، مطالباً فيها بإرسال لجنة تحقيق إلى كوردستان العراق للوقوف على الأنتهاكات التي ترتكبها الحكومة العراقية في محاولتها للقضاء على الشعب الكوردي، إلا أن هذه المذكرة لم تلقي الإستجابة في المنظمة الدولية، وإزاء أزدياد السياسات العنصرية للحكومة العراقية في مواجهة الثورة الكوردية(1))).
في يوم 13 نيسان /أبريل 1966 وفي منطقة (النشوة) في قضاء القرنة البصرية، كان الرئيس عبد السلام عارف في زيارة للمنطقة قادماً من البصرة، وأستمرت زيارته تلك حتى وقت الغروب، حيث توجه بعدها إلى الطائرة المروحية لتقلهم إلى مطار البصرة، كان الظلام قد زاد وبدأت الرياح وعاصفة ترابية تلوح في السماء، ولم تمض دقائق على إقلاع الطائرة حتى دخلت في مطبات وجيوب هوائية شديدة رافقها غبار كثيف، فقد قائد الطائرة السيطرة عليها، مما أدى إلى سقوطها وحول ركابها إلى أشلاء متناثرة متفحمة، وفتحت أبواب الشكوك بشأن الحادث، فبعضهم أدعى بتفجير الطائرة، وآخرون صرحوا إنها قضاءا وقدرا، وتضاربت المعلومات، ويذكر الضابط طلال آل طلال، الضابط السابق في الجيش العراقي والمقيم في بريطانيا والذي كان موجودا يوم الحادث في قاعدة الشعيبة الجوية في البصرة، كان قد ذهب مع احدى طائرات الهليكوبتر لنقل رفات الموتى، وشاهد بنفسه جثث أفراد الوفد المرافق وكذلك عبد السلام عارف، وقال: إن محادثة الطيار مع برج السيطرة كانت تظهر أرتباكا شديداً وكان الطيار يعاني من إنعدام الرؤية التي تسببت بحلول الظلام والعاصفة الترابية، فأرتطمت بالأرض مما تسبب في إندلاع الحريق وتناثر أبدان الركاب وأجزاء الطائرة في محيط 10ـ15 متراً، وهذا ينفي الروايات التي تتحدث عن إنفجار الطائرة فلو كانت الطائرة قد أنفجرت في الجو لتناثرت الأبدان وأجزاء الطائرة في مساحة كبيرة وهذا لم يحدث(2).
وحادث سفوط الطائرة جاء بعد زيارة عبد السلام عارف للمرجع الأعلى السيد محسن الحكيم، وقيل أن زيارته كانت مجرد مغثة حيث أصدر أمراً، بأن كل واردات المرجعية من الحقوق الشرعية سوف تعود لخزينة الدولة، وهذا أمر غير معتاد عليه منذ تأسيس المرجعية حيث إن هذه الواردات تصرف لطلاب العلم والمدارس الدينية ولمستحقيه حسب التقسيم الشرعي المعروف، وبعد مغادرته سألوا المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم، ماذا سنفعل قال لهم: لا عليكم سوف لن يعود، وتوجه بعدها عبد السلام عارف إلى البصرة وهناك خطب فيهم الخطابات ذائعة الصيت، ونقل المحدثون إنه قد بَـطَـن في خطابه الإستهزاء ببعض أقوال أمـــير المؤمنــين (عليه السلام)، وبعد جولته بهذه التصريحات وهذه القرارات صعد طائرته وطار وفي طريق عودته وقبل أن يغادر أجواء البصرة خطفته يد القدر(3).
على ما يبدو أن الرئيس عبد السلام عارف ربما أراد أن ينتقم من سماحة السيد محسن الحكيم والمرجعية بقراره في شأن واردات المرجعية، وذلك حين رفض سماحة السيد الحكيم بإصدار فتوى الجهاد ضد الكورد، وكذلك رفض حينها المرجع الديني محمد الحسيني الشيرازي إصدار فتوى بذلك، وهذا ما جعل المشير عارف يحمل الضغينة للسيد محسن الحكيم..! فقرر تحريم المرجعية من وارداتها، خاصة وإن الثوار الكورد حينها كانوا يتحدون مقاومات الجيش بكل صلابة وقوة، وكانوا يستعيدون ويسيطرون على أغلب المواقع وأغلب الإسلحة والذخائر ومحطات الإرسال اللاسلكي(4)، وكان سماحة السيد محسن الحكيم يعلم بأن عبد السلام عارف وحكومته يقومون بالتفريق بين الشعب ونشر الطائفية في العراق، فكان يردد عبد السلام عارف من خلال حديثه(5): ((لايهم أن يقتل عبد الزهرة (إشارة للشيعة) أو كاكه حمه (إشارة للكورد)..! بسبب عنصريته للمذهب الشيعي والقومية الكوردية.
بعد مقتل المشير عبدالسلام عارف رئيس الجمهورية، أنتخب شقيقه عبدالرحمن عارف رئيساً للجمهورية خلفاً لشقيقه عبدالسلام وعلى الرغم من كون عبد الرحمن عارف كان يختلف عن شقيقه عبدالسلام، حيث كان يكره العنف والأقتتال ويسعى للسلام، إلا أنه كان ضعيف الشخصية ويخضع لنفوذ صقور الحرب، فأستمرت المعارك في كوردستان وشن الجيش العراقي معركة فاصلة ضد الثورة الكوردية، بدأت في قاطع راوندوز ـــ بالك ــ حاجي عمران ضمت فرقتين متجحفلتين من الجيش العراقي الى جانب ستة آلاف من الجحوش المرتزقة كانت الحصيلة تحطيم القوات العراقية على قمتي جبل هندرين ـ زوزك الشامختين بتاريخ 12/ 5/ 1966(6).
في نيسان 1966 وبعد مقتل عبد السلام عارف وقبل معركة هندرين جاء المحامي (زيد أحمد عثمان) وهو من الشخصيات الكوردية الوطنية والقومية ومن مؤيدي الديمقراطية الليبرالية وكان مبعوثاً من قبل رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ومن قبل بعض الشخصيات الكوردية أمثال بابا علي الشيخ محمود الحفيد وفؤاد عارف وغيرهما ممن لهم مكانة خاصة عند البارزاني ونقل رغبة رئيس الوزراء في حل القضية الكوردية سلمياً إلا أن العسكريين كانوا يهيئون لهجوم كبير وكانوا لا يؤمنون إلا بالأساليب العسكرية والعنف، لذا باءت تلك المحاولات جميعها بالفشل(7).
أجمع القياديون في الوزارة على أختيار اللواء الركن عبد الرحمن عارف رئيسا للجمهورية أمام المرشح المنافس لهُ رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز الذي أصبح رئيساً للجمهورية بالإنابة عقب مقتل الرئيس عبد السلام عارف إلى حين أختيار عبد رحمن عارف رئيساً للجمهورية، كان الرئيس عبدالرحمن عارف يختلف عن الرئيسين السابقين عبدالكريم قاسم وأخيه عبدالسلام عارف، فقد كان عبد الرحمن شخصاً مسالماً وغير ملم باللعبة السياسية، ويقول عنه اللواء فؤاد عارف إنه (من أهل الله) أي إنه شخص طيب جداً، ويعتبر عبد الرحمن عارف أول رئيس عراقي يقوم بزيارة الزعيم ملا مصطفى البارزاني بنفسه للبحث عن حلول للقضية الكوردية في العراق، كما هو أول رئيس عراقي في ذلك العهد زار كل من الكويت وإيران لحل المشاكل العالقة بين الدولتين ونشر السلام، كما زار كل من تركيا، الأردن، السعودية، سوريا، إيران، والكويت، ومعظم الدول العربية والأسيوية.
كان الرئيس عبد الرحمن حازماً في إبلاغ الشاه موقف العراق الرافض تماماً للتدخل الإيراني في الشأن الداخلي العراقي، وقال الرئيس عبد الرحمن عارف كلمته المدوية أمام شاه إيران وفي قصر الشاه: ((إن أرض العراق ومياهه وحدوده ليست عقاراً مسجلا بإسمي ولا ملكا صرفاً لعائلتي ولا مقاطعة من مقاطعات أجدادي ولا حقلا زراعياً من حقول عشيرتي ولا إرثاً لأبناء قبيلتي ولا غنيمة من غنائم أهلي، إنها ملك الشعب العراقي وحده، ولا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها أو بيعها أو تأجيرها أو التلاعب بخرائطها أو المقامرة بها أو المغامرة بها أو المساومة عليها، إنها الواحة الفردوسية الرافدينية المقدسة، التي أختارها الله جل شأنه مهبطاً لرسالاته السماوية ومثوى لأنبيائه وصومعة لأئمته ومنطلقاً لسلالاته البشرية، هي الأرض التي حملت شعلة الإنسانية والتحضر وطافت بها في أرجاء المعمورة.. فلا أنا ولا غيري يمتلك حق التفريط بها وببحرها الإقليمي وممراتها الملاحية ومقترباتها المينائية..(8))).
وبرأي المتواضع أعتقد واحد مثل شخصية الشاه السلطوية والنرجسية والمتغطرسة، لا شك قد أثارته هذا الخطاب وهذه التصريحات من الرئيس عبد الرحمن عارف، فالشاه المعروف بدهائه وغطرسته وحقده على العراق وشخصيته الأنانية المتعجرفة، من الصعب جداً إن مثل هذا الخطاب قد سرهُ أو أقنعهُ..!، وعلى ما أظن أخذ يخطط منذ ذلك الحين عن كيفية تحقيق مآربه الخبيثة للنيل من سيادة شط العرب..! فحقق حلمه الخبيث بالتنسيق أمريكا في أقل من عقد من ذلك التاريخ وفي نفس الشهر الذي زارهُ عبد الرحمن عارف من شهر آذار..! وذلك من خلال أستغلال الكورد والقيادة الكوردية ليضرب ضربتين قاضيتين، ضربة لسيادة العراق، وضربة أخرى للقيادة والحركة الكوردية، حين أنعقد مؤتمر قمة الأوبك في الجزائر في 6 آذار/ مارس 1975 وتم التوقيع عليه بين صدام حسين وشاه إيران وترتب عليها تنازل صدام حسين عن مناطق شاسعة من شط العرب والكثير من المناطق الحدودية في جنوب ووسط العراق في مقابل إنهاء الدعم الإيراني للثورة الكوردية وتصفيتها(9)..!!
جناح الصقور من العسكريين العراقيين أصروا في البداية على أستمرار الحرب ضد الكورد والقيادة الكوردية ففي شهر أيار/ مايس 1966 يذكر الأستاذ محسم دزه يى: (( في ليلة 2 – 3 / 5/1966 قام الجيش العراقي بهجوم مباغت في موقع جبل هندرين وأحتلوا بعض المواقع، وتمكنت قواتنا من إيقاف المهاجمة وشنت هجوم على بعض وحدات الجيش فأحرزت نجاحاً كبيراً وكبدت العدو خسائر فادحة وأضطر عدد كبير من المرتزقة ترك الجبهات الأمامية كما وأن خطوط مواصلات الجيش وتموينها أصبحت غير مأمونة نتيجة الهجمات المتكررة، ونجحت هجوم قواتنا في جبل هندرين، وأهتم الزعيم ملا مصطفى البارزاني بنفسه على ذلك الهجوم، ولاذت الربايا جميعها بالفرار فتركت القوات المهزومة عدداً كبيراً من القتلى وأسلحتها ومعداتها حتى المدافع، ولم تتوقف تلك القوات المطاردة إلا في معسكر راوندوز وكانت ذلك النصر أحد أكبر أنتصارات قواتنا، ولم يجرأ الجيش على القيام بأية عملية عسكرية أخرى بعدها، بل باتت في مواقع الدفاع تتلقى الضربات هنا وهناك وكان ذلك بمثابة أمتحان لقدرة العسكريين وإمكانات الجيش وأخذ رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز يسخر من الضباط الذين عارضوه في محاولاته السلمية من القضية الكوردية وقيادتها (10).
ومن جهة أخرى وفي حزيران أرسل الرئيس عبد الرحمن عارف وفد شعبي إلى حيث القيادة الكوردية، وبعد حوار ونقاش طويلين تم الإتفاق مع الوفد الشعبي القادم من بغداد ليلة 20 من حزيران/ يونيو 1966 وفي قرية خلان على إرسال وفد كوردي بعد أيام قليلة إلى بغداد لأجل الحوار مع الحكم في بغداد... وبعد يومين تم تشكيل الوفد برئاسة حبيب محمد كريم (سكرتير الحزب) وعضوية كل من صالح اليوسفي ونافذ جلال وعلي عبد الله... وغادر الوفد إلى بغداد وأسفرت عن صدور بيان عبد الرحمن البزاز في التاسع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 1966، وقد وصل الوفد بغداد وألتقى رئيس الوزراء والمسؤولين الآخرين وأجرى المناقشات والحوارات اللازمة وتوصل إلى صيغة بيان أذيع من قبل رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز في مساء التاسع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 1966 وسمي ب (بيان البزاز) أو بيان ( 29 حزيران)(11).
 ويذكر المناضل صالح اليوسفي من خلال هذه الأحداث: (( وقد تمت المواجهة الثالثة إلى أن أنتهت بأتفاقية 29 حزيران عام 966  - فعدت إلى بغداد بعد إسهامي في المفاوضات الجارية كمسؤول حزبي وممثل للحركة الكردية ورغم ترسبات سلبيات الماضي والمحاذير الجمة فقد قمت وبمبادرتي الشخصية أيضاً بدور بارز في إعادة الثقة والوفاق فيما بيننا من جديد لإيماني العميق بضرورة تلاقي طلائع القوميتيين وتحالفهما من جديد لضمان أستقرار البلاد وأزدهارها فقد تم لقائي معكم عدة مرات ومع بقية الأخوة من مسؤوليكم إلى أن تحولت لقائتنا مؤخراً إلى منهج عمل أسبوعي منظم نتشاور فيها في كل الأمور التي تخص القطر...(11)))... يتبع

 المصادر والهوامش:
(1) الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق – شيرزاد زكريا أحمد - ص 239
(2) حقائق مجهولة قضاء القرنة - آخر محطة في حياة عبد السلام عارف – صحيفة المراقب العراقي.
(3) جريدة البصرة الألكترونية – مقالة بعنوان – صعد لحماً ونزل فحماً.
(4)ذكر الأستاذ علي سنجاري من خلال أرشيف صور كتابه (محطة الإرسال الاسلكي لمقر المكتب السياسي للثورة، كانت قد تم الإستلاء على العشرات من تلك الإجهزة من الجيش العراق من خلال المعارك وأستخدمت للأتصالات اللاسلكية بين مقرات الثورة الكوردية... (يتبع)
(5)الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق – شيرزاد زكريا أحمد - ص 248
(6)الإتحاد بين الكورد والعرب في العراق على مفترق الطرق والانهيار – علي سنجاري – جريدة التآخي.
(7) محسن دزه يى – أحداث عاصرتها – ص 128
(8)العلاقات الخارجية في عهد الرئيس عبد الرحمن محمد عارف نيسان ١٩٦٦ ـ تموز ١٩٦٨- د. هادي حسن عليوي – مجلة الكاردينيا.
(9)أتفاقية الجزائر نظمت العلاقة بين العراق وإيران ونصت على تقسيم شط العرب ورسم الحدود بين الجانبين وتضمنت النقاط التالية:
أولاً: إجراء تخطيط نهائي لحدودهما البرية بناء على برتوكول القسطنطينية لعام 1913 ومحاضر لجنة تحديد الحدود لسنة 1914.
ثانياً: تحديد الحدود النهرية حسب خط التالوك.
ثالثاً: قيام الطرفين بإعادة الأمن والثقة المتبادلة على طول حدودهما المشتركة والألتزام بإجراء رقابة شديدة وفعالة على هذه الحدود من أجل وضع نهائي لكل التسللات ذات الطابع التخربي من حيث أتت حسب إدعاء الجهتين.
(10- 11)محسن دزه يى – أحداث عاصرتها – صفحات 118 - 129 – 130 – 131 .
 (11)من مذكرة صالح اليوسفي إلى الرئيس أحمد حسن البكر.


-5:23

انقر لمشاهدة المزيديبدو أنك تواجه مشكلات في تشغيل هذا الفيديو . يرجى محاولة إعادة تشغيل المتصفح إذا كان الأمر كذلك.إغلاق
منشور بواسطة ‏زوزان صالح اليوسفي‏‏٤٩٠‏ مشاهدة

تم عمل هذا الموقع بواسطة