1 قراءة دقيقة
الحلقة 28- (الجزء الخامس)  بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

زوزان صالح اليوسفي


الحلقة 28- (الجزء الخامس)
 بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

 يقول المثل ربانين في سفينة مصيرها سيكون الغراق..! هكذا من الممكن أن نشرح مصير الثورة الكوردية في ظل تطاحن قوتين رئيستين مابين عاميّ 1964 – 1966 من أقوى المرشحين حينها لعرش السلطة، من الصعب جداً أن تقنع شخصية سياسية وثقافية يسعى للسلطة حينها ويريد أن يطبق المناهج التقدمية حسب آرائه الشخصية، بأن مَن يقابله في المنافسة قد أصبح رمزاً وطنياً لأمته وأصبح لديه العشرات من محبيه ومريده..! لذا كانت الجبهة الأقوى للزعيم البارزاني الذي سيطر على مقاليد الثورة بكل جبروته وقوته، ورغم جهود العديد من الشخصيات القيادية حينها وعلى رأسهم المناضل صالح اليوسفي من التصدي لهذا الإنشقاق المؤلم على الشعب الكوردي وتاريخه، إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود لا رجعة فيها..!، فحصل الإنشقاق الثاني عام 1966 ليتحول النضال الثوري في كوردستان الجنوب ومنذ ذلك الحين إلى جبهتين..!.
في شباط / فبراير 1964 أصدر بياناً لوقف جميع العمليات العسكرية والشروع بإجراءات السلام مع القيادة الكوردية، حيث أتفق عبد السلام عارف مع عدد من القادة الأكراد السياسيين والعسكريين على حل للقضية الكردية، فتمخضت المفاوضات عن إعلان إتفاق عام 1964 يتضمن منح الأكراد الحقوق الثقافية والإسهام في الحكم وإنجازات أخرى إلا أن التيار الإنفصالي (من جماعة أبراهيم أحمد وجلال الطالباني) حال دون إتمام ذلك، فأستمرت الدولة بإجراءاتها بمنح الحقوق للأكراد بمعزل عن القيادة للحد الذي وصل للإقتتال المسلح بين الطرفين(1).
ما أستغربه إن إنشقاق جماعة الأستاذ أبراهيم أحمد والطالباني جاءت بالمقدمة بسبب رفضهم لأتفاقية السلام من قِبل نظام عارف مع البارزاني في 10 شباط / فبراير 1964، ولكن مع ذلك وبعد أنتصار الزعيم البارزاني على منافسه (الأستاذ أبراهيم أحمد وجماعته) وبعد أن أهملتهم نظام الشاه بعد لجوئهم هناك، بادروا بإلتحاقهم بالحكومة العراقية في عام 1966 وأستلامهم السلاح والأموال من الحكومة العراقية لمحاربة خصمهم(2)..! هذا ما لا أفهمهُ..؟! فهل هذه الجماعة الإنفصالية التي رفضت كل أنواع الهدنات مع النظام العراقي إذا لم يكن وفقاً لطلباتهم..! ثم يبادرون في الأتفاق مع النظام لمحاربة خصمه..؟! إذن لماذا رفضوا منذ البداية أتفاقية السلام بين الزعيم البارزاني ونظام بغداد..؟! وكيف وثقت الحكومة العراقية بإخلاصهم وولائهم..؟!
أستمرت المفاوضات بين قيادة الثورة الكوردية وحكومة عبدالسلام عارف لغاية شهر نيسان/ أبريل 1965 كان خلالها عبدالسلام عارف يكشف عن سوء نواياه أتجاه الثورة الكوردية وحقوق شعب كوردستان ويوطد علاقاته مع مصر (عبد الناصر) ويحاول الحصول على المزيد من الأسلحة... وفي 15/ 4/ 1965 استئنأف عبدالسلام عارف الحرب ضد الشعب الكوردي، وكانت حرب عبدالسلام عارف في كوردستان بمثابة حرب الأبادة والأرض المحروقة ضد الشعب الكوردي(3).
لم تتوقف محاولات السيد محسن الحكيم من أجل نشر السلام ما بين قيادة الزعيم ملا مصطفى البارزاني والنظام العراقي.. فقد أصدرت وثيقة بتاريخ 1965/4/5 وهي عبارة عن رسالة جوابية للمرجع السيد محسن الحكيم، إلى الزعيم ملا مصطفى البارزاني بأن يلزم فيها الطرفين (الحكومة والقيادة الكردية) وبقدرٍ متساوي للمحافظة على أرواح وممتلكات المواطنين وأبناء القوات المسلحة ويطلب من زعيم الثورة الكردية أن تقترن مطالبته بالحقوق بإنتهاج الطريق السلمي والهادئ بما يجنب أبناء العراق جميعاً المخاطر التي تحيق بهم جراء أستمرار القتال في كوردستان العراق.
وعندما بدء الموقف ينذر بتجدد القتال تم إرسال وفد من القيادة الكوردية إلى بغداد يضم كل من صالح اليوسفي وعكيد صديق وشوكت عقراوي لإجراء المفاوضات مع مسؤولين من الحكومة العراقية وقدموا إليهم مذكرة من قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، كما وزع الوفد نسخ من تلك المذكرة إلى السفارات ووكالات الأنباء فجاء رد فعل الحكومة على لسان وزير الداخلية في 11 شباط/ فبراير1965 وبشكل رسالة أستفزازية إلى القيادة الكوردية تعلن فيها رفض المطلبين الرئيسين من المذكرة وهما: الحكم الذاتي، والأحتفاظ بالبيشمركة وأبلغوهم بضرورة الخضوع إلى السلطة العراقية وقراراتها وعندما رفضت القيادة الكوردية الإستجابة لتلك المطالب أعطيت الأوامر للقوات المسلحة العراقية للإستعداد لشن الهجوم.
يذكر المناضل صالح اليوسفي من خلال تلك الأحداث هذه الفترة: ((توجهت بعد ذلك إلى بغداد بصفتي ممثلاً للحركة الكردية للتشاور مع مسؤولي السلطة من أجل ما يمكن تسويته من الأمور وكنت أعتقد جازماً عجزها ليس فقط في معالجة الحلول الجزئية فيها بل حتى تفهمها لها والتي هي بالإضافة إلى عمق ترسباتها الشوفينية وبطبيعة روعنتها الدكتاتورية فهي تعيش في أزمة خانقة تجردها من القيام بالحد الأدنى في المعالجة – فأستأنفت محاولاتي من جديد للقاء مع ممثلي القوى القومية والوطنية الموجودين حينذاك وبغياب مسؤولي حزبكم عن المسرح السياسي آنذاك من أجل تنشيط الحركة الوطنية من جديد غير أن الأحوال قد تدهورت بسرعة وللأسباب التي بينتها سابقاً...(4))).
كما يذكر اليوسفي من خلال إحدى لقائاته الصحفية، يتطرق إلى فشل مفاوضات التي جرت في الستنينيات: ((من الواضح جداً أن ظروف العنف التي شملت المنطقة الكردية إبتداءً من إندلاع الحركة الكردية بقيادة طليعتها الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه البارزاني في 11 أيلول عام 1961، على الرغم مما تخللتها فترات المفاوضات الفاشلة في أعوام 1963 و1964 و 1966، أقول من الواضح جداً أن هذه الظروف والأوضاع الأستثنائية العنيفة تسبقت قواعد الأستقرار والوحدة الوطنية والحياة الديمقراطية في العراق بالمرة نظراً لعمق وأتساع الحركة الكردية التي شملت كل المنطقة وكل أبنائها...(5))) حاول والدي كثيراً وبكل جهده من إنجاح هذه الأتفاقية بين الجانبين كما أشار في مذكرته للرئيس البكر، ولكن للأسف جهوده كل ذهبت سدى، وذلك لأن المكتب السياسي كانت رافضة رفضاً قاطعاً لهذه المبادرة (جماعة أبراهيم أحمد وجلال الطالباني)، في شهر آذار/ مارس 1965 بدأت الأعتداءات من قبل النظام ثم بدء الهجوم الشامل من قبل القوات المسلحة للنظام في 3 نيسان/ ابريل 1965 وأشتدت حدة المعارك خاصة خلال موسم الصيف.
ألتحق المناضل صالح اليوسفي مباشرة بقيادة الثورة وأصبح المسؤول الإعلامي الرئيسي لدى القيادة الكوردية، وبدأت الحرب مرة أخرى وأصبح واضحاً من أن الممارسات القمعية للسلطة الحاكمة إتجاه عائلة صالح اليوسفي لن تتوقف..! ففي ربيع 1965 قامت مجموعة من أفراد الأستخبارات وبرفقة مجموعة من المسلحين الكورد الموالين للحكومة بمهاجمة منزلنا ليلاً في منتصف الليل وتطويقه في زاخو وطلبوا من والدتي مغادرة المنزل لترحلينا إلى المناطق الجبلية، ولكن والدتي تعلمت أن تلتزم بقوة العزيمة ورباطة الجأش فرفضت رفضاً قاطعاً مغادرة البيت مع أطفالها إلى مصير مجهول، فمن جهة كانت في فترة نفاس بعد ولادة أختي، ومن جهة أخرى كانت حريصة على إكمال أمتحانات أخوتي الكبار نارين وشيرزاد اللذان كانا في مرحلة بكلوريا الصف الثالث متوسط، وبعد إلحاح المسلحين على ترحيلنا وإن تَطَلب ذلك بالقوة، أخبرتهم والدتي إنها ستقبل بطلبهم بشرط أن تقابل قائم مقام زاخو أولاً (كانت والدتي على معرفة بزوجة القائم مقام وهي الست حفيظة مُعلمة في زاخو)، والقائم مقام يدعى (أبو باسل) وهو من أهالي بغداد وكان لديه سمعة طيبة لدى أهل زاخو، لم يكن أمام المسلحون خيار آخر سوى الرضوخ أمام إصرار والدتي على هذا الطلب بشرط أن تذهب معهم في الحال إلى منزل القائم مقام حيث إن أمر ترحيلنا صادر من جهات العليا وواجب التنفذ فوراً، غادرت والدتي بصحبة هذه المجموعة من العسكريين والمسلحين الكورد إلى منزل القائم مقام وكان الوقت قد تجاوز ما بعد منتصف الليل، وأصَرَت والدتي أن تذهب إلى منزل القائم مقام مشياً على الأقدام رغم أن المسافة كانت بعيدة ورفضت أن يصطحبوها معهم بالسيارة، للحقيقة والتاريخ فأن قائم مقام زاخو تعاطفا هو وزوجته وآلمهما الموقف نظراً لظروف والدتي الصحية ما بعد الولادة، فطلب القائم مقام من المسلحين أن يدعوا والدتي وشأنها الآن حتى يراجع الأمر مع السلطات العليا، فأنصاعوا لأمره وعادت أمي إلى المنزل وهي في حالة صحية ونفسية منهارة، بعدها بأيام قامت مجموعة من المسلحين بمداهمة منزلنا مرة أخرى نهاراً وأخذوا عمتي (أسماء) التي كانت تسكن معنا عنوة، إلى حيث دائرة الأمن في زاخو، وكان هناك العشرات من عوائل البيشمركة من الذين جمعتهم قوات الأمن وأعوانهم من المسلحين الكورد وبقرار حكومي لغرض ترحيلهم، وكان والدي حينها ملتحقاً بالثورة وفي قسم الإذاعة الخاصة بالثورة الكوردية بأعتباره المسؤول الأول عن الأعلام، لعب والدي دوراً أساسياً ومهماً في الإعلام الثوري، حيث ساهم ذلك الإعلام الوطني في إثارة الحماس الثوري في نفوس الكورد وخاصة البيشمركة نظراً لكتاباته الحماسية عبر إذاعة صوت كوردستان، مما زاد من غضب الحكومة على الإعلام الكوردي وعلى المناضل صالح اليوسفي، وزداد حماس والدي والعاملين وبشتى وسائل الأعلام ضد الأعمال الشوفينية التي كانت تمارسها الحكومة، وهذا ما جعل الجهات الحكومية تشتد أكثر غيضاً وحقداً عليه وجاء أسم والدي في رأس قائمة الأسماء المطلوب تصفيتها.
ذكرت هيئة إذاعة صوت كوردستان: ((أن فترة من تاريخ إذاعتنا مدينة إلى فكر وعمل ذلك المناضل العظيم، فقد كان مسؤولاً عاماً عن إعلام الحزب خلال أعوام 1965 – 1966، وكان يشرف مباشرة على البرامج اليومية للإذاعة، ويكتب لها الكلمات والتعليقات السياسية، وتعتبر هذه السنوات صفحات مشرقة من تاريخ إذاعة (صوت كوردستان العراق) والتي تعرضت خلالها إلى غارات جوية عنيفة من قِبل طائرات النظام العراقي، فقد شنت أكثر من 30 غارة جوية على الإذاعة، أشتركت في كل غارة طائرتان، وحولت المنطقة إلى جحيم من النيران، وقد سقطت إحدى القنابل قرب الشهيد صالح اليوسفي وأغمي عليه، ونجا ورفاقه من الموت بأعجوبة..! لا نستطيع بما كتبناه وما نكتبه مستقبلاً أن نوفي المناضل سيدا كامل حقه... بل من واجب المثقفين الثوريين الكورد والوطنين المناضلين، خاصة الذين عرفوه عن كثب أن يخلدوا ذكراه العطرة ويخلدوا جوانب كفاحه الغنية المتعددة كنموذج للمثقف الثوري الصادق ليبقى مثالاً للأجيال المقبلة(6))).
نظراً إلى أهمية والدي السياسية ودوره الفعال في الإعلام الثوري فقد حمل النظام أتجاهه حقداً دفيناً وحاول بكل الوسائل وعن طريق بعض من الكورد الموالين للنظام من الضغط على أسرته لطلب عودة اليوسفي وترك قيادة الثورة الكوردية، فتعرضت عائلته في قضاء زاخو إلى أنواع عديدة من المعانات الحياتية والضغوطات من النظام، وأجبروا والدتي على إعلان البراءة من والدي، ونشروها عبرّ وسائل الإعلام الصحفية، وأخيراً وبعد أن فقدت الحكومة الأمل بعودة والدي قامت السلطات بنفينا في بدايات صيف 1965 إلى قضاء الشرقاط، ولم تكتف بذلك فقط بل فصلت والدتي من وظيفتها كمعلمة وكانت هي المعيل الوحيد لنا، فكان يعتقد النظام آنذاك أنه بهذه الطريقة سوف يستطيع إذلالنا وقسوة الحياة الصعبة في منطقة يعيش فيها الغالبية من القومية العربية، فكانت رحمة الله الواسعة تظلل علينا في تلك المدينة الغريبة، فالكثير من العائلات العربية في قضاء الشرقاط المعروفة بالنخوة والكرم تهافتت علينا وأوسعتنا بكرمها ومساعداتها في السكن وتزويدنا بالمواد الغذائية وبدون مقابل، وقام أحد وجهاء المدينة ويدعى (السيد أحمد سلطان الجبوري المشهور بأبو فتحي) بإخلاء أحدى بيوته لنا كضيوف عليه وبدون مقابل، لقد كان سكان هذه المدينة يشعرون بأن هذه الأسرة المغدورة من قبل الحكومة هي ضمن مسؤوليتهم، وهذا أكبر دليل وإثبات بأن الشعب العراقي بكل قومياته تربطه محبة وصلة أقوى من أي حكم دكتاتوري يحكم البلاد ويحاول نشر التفرقة والعنصرية بينهم، عشنا في هذه المدينة بأمان وأطمئنان رغم المخاوف من حكومة عبد السلام عارف ورغم ضغوط الحكومة، وأمتدت تهديداتهم لوالدتي بخطف أطفالها إذا لم يترك اليوسفي القيادة الكوردية وظلت أسرة اليوسفي تعيش على الدوام في ظل هذه المخاوف والتهديدات المستمرة.
ونقلاً عن السيد يونس أحمد سلطان الجبوري: (( جاء من يخبر والدي بأن هناك عائلة جاءت إلى الشرقاط وهي قيد الإقامة الجبرية وهم منفيين من موطنهم الأصلي زاخو، وإنهم بحاجة لسكن يؤيهم، ولكون والدي كان يمتلك ثلاث بيوت فقد منحهم إحداها، كما منح الثاني لعدد من الرجال يتجاوز 30 رجل من الذين كانوا أيضاً منفيين من مناطق سكناهم وقيد الإقامة الجبرية وهم من مناطق الشيخان وزمار وسنونو، وسأروي ما أتذكره بما يتعلق بعائلة اليوسفي، فقد عرف والدي بأن على هذه العائلة الحضور يومياً إلى مركز شرطة الناحية (كانت الشرقاط آنذاك ناحية قبل أن تصبح قضاء)، وذلك للتوقيع في سجل خاص مرتين يومياً صباحاً ومساءاً وذلك لإثبات الحضور وقد يكون أيضا نوع من التعذيب النفسي لهم، فحاول والدي أحمد سلطان جاهداً وقد نجح في ذلك بحكم موقعه الأجتماعي وعلاقاته الطيبة مع مدير الناحية ومعاون الشرطة ومأمور المركز من إعفاء عائلة اليوسفي من الحضور اليومي وذلك بكفالته وضمانته الشخصية، فتنفست عائلة اليوسفي الصعداء..)).
ولابد أن أضيف، كان للعم أبو فتحي موقف شهم حين عَلِم بتهديدات الحكومة لوالدتي بخطف أطفالها، فأخبرها: (( لا تخافي أختي أم شيرزاد والله لو على جثتي سوف لن أقبل ببشر أن يمس أطفالك بسوء وكوني مطمئنة وعلى ثقة من ذلك ))، وسارت بنا الحياة في آمان والحمد الله، وقد ذكرت تفاصيل معاناتنا من خلال كتاب خواطري(7).
نقلاً عن الأستاذ قيس قره داغي: أن المقر الإعلامي والإذاعي للثورة الكوردية في المناطق المحررة والذي كان يترأسه المناضل صالح اليوسفي يضم مجموعة من الإعلامين، يقع في منطقة (هضبة زوزك) وفي كهف مخصص لإذاعة صوت كوردستان يدعى (كهف سه رديمان)، وكان الكادر الإعلامي الذي برفقته يتكون من كل من المناضلين (عبد الخالق معروف، سعيد ناكام، عثمان حويزي...، جلال ميرزا، جليل فيلي، دلشاد...، أمجد...، غالب...)، وقد أبدع الشاعر الكبير (شيركو بى كه س) في تنظيم قصيدتين عن كهف (سه رديمان والشهيد صالح اليوسفي)، في ديوانه (مار وخاج و روزميري شاعيرك - الصليب والثعبان ويوميات شاعر.
 وهذه مقطع من قصيدة الشاعر الكوردي الكبير (شيركو بيكه س) عن كهف (سه رديمان) مقر إذاعة (صوت كوردستان) في الستينيات حينما كان المناضل الشهيد صالح اليوسفي مسؤولاً للأعلام المركزي للثورة ترجمة: الأستاذ قيس قره داغي: (( مهداة إلى من يحمل روح صالح اليوسفي بين جنباته.. إلى الغالية زوزان صالح اليوسفي )).

 نص قصيدة الشاعر شيركو بيكه س:

هناك في زمنِ الكهفِ المُبارك
كنا عشرون صهيلاً لأيلول
هضبتُنا.. غيمةٌ أرجوانية في قمةِ زوزك
جباهُنا صخرةُ صماء
في قمةِ هندرين الشماء..!
في زمنِ ذلك الكهف السرمدي
كُنا عشرون نغمة في حنجرةِ مذياعٍ وحيد
كان صالح اليوسفي والدنا
وأمُنا حضنُ تلة تضمُنا جميعاً
و(مامه رووته) جدُنا
كنا في كلِ يومٍ
نطبع قُبلاتنا الألف في وجنةِ المذياع
نفديهِ ، نمشطُ شعرهُ..،
نحملهُ على رؤوس أصابعِنا.. جيئتاً وذهابا
كي نحرسهُ مِن عواءِ كلابِ التشويش
ليشق دربهُ ، عدلاً أم عوجا
إلى أسماع المدينةِ
في ذلك الكهفِ الخالد
**********
في زمنِ نشيج الخُبز
وجراحاتِ أخمصِ الحرية
في زمنِ القملِ ومبيد الدي دي تي
في زمنِ رتقِ ملابس ليالي (أي رقيب)
كنا جمعٌ مِن دراويشِ الأنعتاقِ،
في كنفِ تكية ذلك الكهف
وعند ذروة الدروشة.. كنا لا نرى شيئاً
سوى أرواحِ الشهداءِ الحالقةِ في العُلى
وكذا روحَ الله وتلك القممِ العالية
في زمنِ أسمالِنا الخالية مِن الجيوبِ
وفي نهاياتِ الأشهر..
وعند أستِلام الراتبِ الشهري
كنتُ أنزوي إلى حيث الحُجرةِ الجائعةِ..!
أجلسُ القرفصاء..!
على ذلك الفراشِ الذي لم يرى
مسحوق الغسيلِ أبدا..!! لوحدي ،
ُديرا ظهري لبابِ الحجرةِ
قبالة رهطٍ مِن الفئران.. وجمعٍ مِن أبي بريص
في عرضِ الحائطِ..
أبدأ بعد المعاش (350) فلسا
مرة .. مرتان .. مائة مرة !!
ثم تشربُني الطريقُ إلى حيث سوق (كلالة) الصغير
لأملي بها كل رغباتي: بضعةُ أوراقٍ ، قلمُ رصاصٍ، شئُ مِن النعناع، كميةٌ مِن الزبيبِ المُجففِ، صابونٌ وليفة غسيلٍ، ورقُ بافرا والتبغ المحلي..!!
نحنُ هناك.. في زمنِ ذلك الكهفِ
كان اليوسفي..
ملاكاً طاهراً مِن قطنِ الله
يحاورهُ الماءُ قائلا:
أيٌّ مِنا أكثرُ أنسيابا..؟ أنا أم أنتَ.. !؟
الخبزُ يُخاطبهُ:
ها قد جعتُ أنا.. أما تجوع أنتَ..؟!!
(عبدالخالق).. كان هوائية الكهفِ العالية
وعندما يسيرُ مُبتسماً.. يضحى وجههُ زهرة (خندران) البرية
و(أمجد).. كان عشباً ناعما
وأناءاً مِن اللبن الخاثر.. محبوباً بقدر رغيفِ خبز الصاج
أما (غالب).. كان صدى الكائناتِ الناطقة بالإنكليزية
كُنت تراهُ طوال النهار..
وهو يعدو مهرولاً في حقولِ القواميس.. بحثاً عن الكلمة
و(ناكام).. كان دائم الجلوس.. في باحةِ روايةٍ طويلة
يكتبُ ويمشي.. دون أن تنتهي الطريق
و(حويزي).. أشبهُ بالسنونو
ساقوه يوماً نحو المجهول ولم يعُد ثانية.. فبكاهُ الكهفُ عاماً كاملا !!
أما (عُثمان).. كان صلباً كحجرِ الجلمود
وعند قرآءةِ الأخبار.. تنفلقُ الكلماتُ ملأ حنجرتهِ
مثل الإطلاقات الثائرةِ مِن فوهةِ بندقيةِ صيدٍ..!
حتى الكهفُ يجفلُ مِن صدى صوتهِ
و(جلال).. أشبهُ بشجيرةٍ في كركوك
تشمُ منهُ عبير باوه كوركور
وطعم الليمونٍ.. وأزقةِ (إمام قاسم)
(دلشاد).. كان ناياً ثمِلاً
ونقطة ٌ مُسمرة في الحيرةِ
بهدوئهِ يُشربنا شاي الشعرِ مع سكرِ القند
ضيوفهِ (وفايي وحاجي قادر والشيرازي وخاني ونالي)
(جليل).. ذلك التمرُ الخستاوي
جائنا إلى الكهف من قلبِ العاصمة
مُحملا على ظهور كوردنا الفيلية
*******
في زمنِ (سه رديمان)،
في تلك الأيام الخوالي،
كانت أغانينا الشبابية.. ترتعدُ بردا..!
والبسماتُ على شفاهنا تتجمدُ..!
في ذلك الزمنِ الفريد.. كُنا باقاتُ ناي
ُطبق شفاهنا على فتحاتِ جراح الجسدِ
وننفخُ همومنا.. لنعزف لحن الحريةِ
في ذلك الحين.. وليس الآن..!!
كنا نحنُ.. وكهفُ سه رديمان
لا نبغي شيئاً مِن هذهِ الدنيا
سوى كلمةٌ جميلة.. وقرصٌ مِن الخبز
 أو وردة ٌ جبلية..

 المصادر والهوامش:
(1)الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام محمد عارف يتفقد القطعات العسكرية في قمة جبل سيفين 1965 - بقلم محسن حسين جواد – مدونة الدكتور أبراهيم العلاف.
(2)عرف الإنشقاق الثاني ب( إنشقاق عام 66 )، وتم إطلاق تسمية (الجلاليين ) على المنشقين من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني، وذلك نسبة إلى جلال الطالباني، بالمقابل فإن المنشقين أطلقوا تسمية (الملاليين) على أتباع الحزب الديمقراطي الكردستاني، وذلك نسبة إلى الزعيم الملا مصطفى البارزاني. مير عقراوي - كاتب بالشؤون الاسلامية والكردستانية – الجزء الرابع.
(3)الإتحاد بين الكورد والعرب في العراق على مفترق الطرق والإنهيار – علي سنجاري – التآخي.
(4)من مذكرة المناضل صالح اليوسفي إلى الرئيس أحمد حسن البكر.
(5)مقتطف من لقاء صحفي صحيفة الهدف الصفحة 10 والصفحة 11 – رسالة العراق يكتبها: غازي جاسم
(6)هيئة إذاعة صوت كوردستان العراق في ذكرى أغتيال والدي.
 (7)خواطر من ذاكرتي – زوزان صالح اليوسفي.



تم عمل هذا الموقع بواسطة