الحلقة: الستون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
يقول المناضل عبد الله بشدري: ((هذا الانسان العظيم والمتدين سيدا صالح اليوسفي كان ضد الحرب وكان من دعاة الحلول السلمية والسياسية للمشاكل ولهذا كنا جميعاً نلقبه بـ (حمامة السلام)، ومن الجدير بالذكر هنا إنه كان له دور فعال في إيجاد الحلول للمشاكل العالقة بين الثورة الكوردية ونظام بغداد، وكان في كل مرة يقدم الحلول ويسعى إلى عدم الإجهاز على أتفاقية الحادي عشر من آذار لإنه كان مؤمناً بإن إندلاع القتال ليس لصالح الثورة الكوردية..)).
أستطاعت لجنة السلام (مجلس الوطني للسلم والتضامن في الجمهورية العراقية) التي تشكلت أثر أتفاقية 11 آذار 1970 من حل العديد من المشاكل التي كانت تحدث ما بين الجانبين الحكومي والقيادة الكوردية، حيث لم تكن تخلوا هذه المناطق الساخنة (خانقين ومندلي وسنجار وكركوك) من المشاكل والأزمات، وكان صالح اليوسفي ضمن أعضاء لجنة السلام وسبق وأن أشرت في الحلقات الماضية إلى مثل هذه المواقف، وكيف كان يواجهها والدي بإرادة صلبة وشجاعة فائقة متحدياً كل الصعاب وأعلى المراتب في النظام مهما كانت المشكلة فيها من الخطورة، خاصة في المناطق الساخنة مثل خانقين وما يجاورها بالإضافة إلى مقرات الحزب الديمقراطي الكوردستاني في الفرات الأوسط (حلة وكربلاء والديوانية)، وقد سبق وأن أشرت إلى حادثة مدينة الحلة خلال الحلقة الخمسون(1)، كما ذكرت حوادث أخرى وكانت أهمها وأخطرها تلك الحادثتان اللتان كادت أن تسببان في أستئناف القتال حيث أستخدمت الحكومة العراقية فيها الدبابات في خانقين مما أستدعى قيام والدي بالأتصال بالسفير السوفييتي الذي بدوره أتصل باللجنة المركزية في موسكو، وهذه اللجنة المركزية كانت تتصل بالرئيس العراقي البكر وتطالب بضرورة ضبط النفس وعدم تأزم الأمور(2)، وكان الأستاذ نافذ جلال أيضاً عضو في لجنة السلام وكان يحل المشاكل والأزمات في منطقة سنجار وللأسف توفي وهو يقوم بإداء عمله أثر حادث سير، هذا إضافة إلى كل من دارا توفيق ومحمد محمود عبد الرحمن عضوا لجنة السلام، ومن جانب الحكومة كل من مرتضى الحديثي وسعدون غيدان ومحافظ أربيل خالد عبد الحليم وشكري صبري الحديثي(3).
يذكر الأستاذ شكيب عقراوي: ((كانت للجنة السلام الدور البارز في الحفاظ على السلام والسيطرة على المشاكل والأزمات التي حصلت خلال فترة السلام (1970- 1974) وكان أعضائها يحضرون إلى المناطق الساخنة بالمشاكل وأستطاعوا وضع الحلول لمنع المواجهة والسيطرة على الموقف وخاصة في خانقين ومندلي وسنجار وكركوك(4))).
وعن محاولات والدي في حل المشاكل في تلك الفترة يقول الأستاذ أبو علي:(( في عام 1973 كنت عاقد قران ورجعت من عند أهل خطيبتي، ومررت عند عودتي من مدينة خانقين إلى بعقوبه إلى مدينة المقداية، لازور شقيقي الأكبر وكان عنده محل خبازة وكنت واقفا في باب المحل وفجأة توقفت سيارة لاندكروز بيضاء وسألني: أنت فلان...؟
أجبت: نعم ..
فقال لي بلغة الغضب: أصعد معنا.. صعدت معهم مرغماً، فإذا به قادني إلى الشعبة وهناك أدخلوني مباشرة إلى المسؤول، فقام بالتحقيق معي مباشرة وبحضور مدير الأمن في القضاء على كلام المسؤول الذي هددني به..
عندما أخذوني قام شقيقي بإبلاغ مسؤول منظمة البارتي في المقدادية ومن موقعه أتصل مباشرة بسيدا صالح اليوسفي للإيصال خبر أعتقالي وبعد مرور أقل من ساعة رن هاتف المسؤول وكان صوت التلفون عالي وإذا بصوت السيدا صالح اليوسفي يتكلم مع مسؤول الشعبة بحدة شديدة وقال بالحرف الواحد: (إذا هاي سياستكم خلي نسد أبواب مقراتنا..؟!).
وكان المسؤول يهدأ بالسيدا صالح اليوسفي: أستاذ صبرك علينه ماكو شي يمي تحقيق بسيط..!
أجاب سيدا صالح اليوسفي: سوف أرجع أخباركم مرة أخرى وإلا سوف أتصل برئيس الجمهورية على هذه التصرفات.. وبعد نصف ساعة أرجعني بنفس السيارة وفي نفس المكان الذي أخذوني، وذهبت فوراً إلى منظمة البارتي وأتصلت بالفرع الخامس وأبلغناه بإفراجي، ولولا فضل الله وتدخل الشهيد صالح اليوسفي للإفراج عني، وإلا كنتُ أحد ضحايا النظام..! وكنا عندما تضيق علينا السلطة، وخاصة الدوائر الأمنية، كان والدك كالنسر يحضر ويتصل بالسلطات العليا أو السلطات المحلية ويبقى إلى ساعات من الليل إلى أن يتم الإفراج عن المعتقلين، وفي أحد الأيام كان لدينا أستعراض السنوي لمدارس المحافظة، وكانت مدارس أقضية خانقين وبعقوبة قد حصدت أكثرية الأوسمة، وكانت الجماهير الطلابية سعيدة بهذا الفوز، فتدخلت القوات الأمنية وتم إلقاء القبض على الكثير من الطلبة، وكنت على أتصال بوالدك لكوني مسؤول إتحاد طلبة كوردستان .ل.م. بعقوبة وعضو فرع ديالى في خانقين، ظل والدك معنا إلى أذان الصباح حتى تم الإفراج عن كل الطلبة..)).
يقول الأستاذ أبو كاوه: (( أستمريت بالتعاون فی الجمعیة إلی 11 آذار عام 1973 فقد ساءت الأمور، طلب منی الشهید سیدا أن ألقى کلمة بأسمه وبأسم الجمعیة فی الحفلة التی ستقام من قبل الشبیبة فی هولیر(أربیل) وبدأ الأحتفال بکلمة الشهید، وبعد ذلك ألقت الأستاذة زکیة أسماعیل ومن بعدها الأستاذ محمد بدري، ثم جاء دوری فهاجمت الحکومة البعثیة وکیف یتماطل فی إعطاء حقوق شعبنا الکردی، عند إنتهاء کلمتي عاتبنی الشهید بأن کلمتي کانت شدیدة، وطلب من المحافظ أن یهیأ لي سیارة بسرعة وینقلنی إلی گلاله بأسرع وقت حفظاً علی حیاتي..! وفي نفس الوقت نقلوني إلى فندق گلاله..)).
خلال عام 1973 أقترب العد التنازلي من إنتهاء موعد هدنة الأربع سنوات من أتفاقية 11 آذار 1970، وبعد الأتفاقية التي حصلت ما بين العراق والإتحاد السوفيتي في نيسان/ أبريل 1972، أدى إلى قلق وحذر شاه إيران وأمريكا وأسرائيل، وبدأت تحاك الخطط والمؤمرات ليصبح الشعب الكوردي وقضيته ضحية هذه المؤمرات لتحقيق مصالحهم، فبدأت محاولات أمريكا بالتقرب من القيادة الكوردية للعب على هذه الورقة..! بجهود وزير خارجية أمريكا د. هنري كيسنجر (الثعلب الأمريكي وعرّاب السياسات الأمريكية والأستراتيجية)، فبدأ كيسنجر بلعبته منذ منتصف عام 1972 ، فضرب من خلالها ثلاثة عصافير بحجر وعلى مراحل حيث كان يشتهر كيسنجر بسياسية خطوة خطوة..! فضرب ضربته في صميم الشعب الكوردي وقضيته العادلة..! ثم جاءت النتائج بعدها أيضاً على الشاه الجشع المقبور..! وتلت النتيجة الكوارث المتسلسلة على العراق ولحد الآن..! وإذا تمعنا جيداً لسياسته (الخطوة خطوة) سنرى بكل وضوح إن كل تلك الكوارث التي مرت والماثلة أمامنا ولحد الآن مخططة تخطيطاً دقيقاً وعلى منظور بعيد المدى..! ولا نعلم سياسة (الخطوة خطوة) إلى أين ستأخذنا أكثر..! والمستغرب أن د. كيسنجر نال جائزة نوبل للسلام..!!! ولو كان الأمر بيدي لقدمت طلب أحتجاج إلى لجنة جائزة نوبل من سحب جائزة نوبل للسلام من الدكتور هنري كيسنجر لأنه كان السبب الرئيسي في الكوارث التي طال من شعبنا الكوردي وكان السبب الرئيسي في أنهيار أقوى قيادة لنضال الشعب الكوردي خلال القرن الماضي..
يذكر الأستاذ شكيب عقراوي: (( في 22 حزيران/ يونيو 1972 أرسل شاه إيران رسالة للبارزاني ذكر فيها، بأن الرئيس الأمريكي ريتشار نيكسون قد وافق على إبداء العون للثورة الكوردية في العراق، وفي 27 حزيران/ يونيو 1972 توجه إلى طهران المرحوم أدريس البارزاني والدكتور محمود عثمان وأستقبلهما شاه إيران بحرارة لأن موقفه كان ضعيفاً وكان بأشد الحاجة إلى وقوف قوات الثورة الكوردية في كوردستان العراق إلى جانبه، وفي 5 تموز/ يوليو 1972 وصل وفد كوردي إلى واشنطن، أستقبلهم ريتشارد هلمز (مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) كل من أدريس البارزاني والدكتور محمود عثمان ووجه كلامه إلى أدريس البارزاني قائلاً: (أخبروا والدكم الجنرال مصطفى البارزاني بأنه سبق وأن أتصل عدة مرات بنا طالباً العون ورفضنا طلبه غير أننا سوف نقوم بعد الآن بمساعدته بناءاً على طلب الشاه..! وقد تقرر في ذلك الوقت تزويد الثورة الكوردية بمعونة شهرية مالية كانت في حدود 300 ألف دولار شهرياً، كما جرى تزويد الوفد الكوردي ب (شفرة) لاسلكية لغرض الأتصال اللاسلكي بين مقر البارزاني والسفارة الأمريكية في طهران.. كما وصلت شحنة من الأسلحة الخفيفة للثوار الكورد في بداية آذار/ مارس 1973 (5)))..!
نقلاً عن الأستاذ حسن نزاركى: (( أختي الفاضلة زوزان في عام 1973 ألتقى والدي بالشهيد والدك وسألهُ عن الوضع قال لهُ الأستاذ صالح اليوسفي أخي فيصل إن تجدد القتال ليس في صالحنا لإن هنالك مؤامرة قوية تحك ضدنا من قبل شاه إيران ففي حالة نشوب الحرب سوف يكون نتائجها سلبية على الثورة الكوردية، لقد كان الأستاذ الشهيد محللاً سياسياً ويملك بعد نظر قوي في الأحداث وفي النتيجة للأسف ندمت القيادة الكوردية على تجدد القتال مع السلطة..)).
يذكر الأستاذ علي سنجاري: (( جرى لقاء بين هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا حينذاك وممثلي الثورة الكوردية وبحضور ممثل عن شاه إيران في طهران في أواخر حزيران 1972 أي بعد قيام المعاهدة العراقية السوفيتة، ودار الحديث حول الحكم في العراق وأهتمام أمريكا بتغير نظام البعث ووعد بدعم الثورة الكوردية في حالة قيام الحكم البعثي في بغداد بشن الحرب على كوردستان ووعد كيسنجر الثورة الكوردية بوعود سخية مغرية للكورد والخ (6)... ثم يضيف الأستاذ السنجاري عن تخطيطات وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر: كان قد ألتقى كيسنجر مع صدام حسين في إحدى القواعد العسكرية الأمريكية في المملكة العربية السعودية نهاية عام 1973 وتعهد صدام بأن يلغي المعاهدة مع السوفيت ويوافق على قرار 242 بخصوص القضية الفلسطينية إذا ما ساعدت أمريكا حكومة البعث للتخلص من الثورة الكوردية، وأقنعت شاه إيران بالتخلي عن البارزاني وثورته عام 1975.. وهذا ما حصل(7))).
يذكر الأستاذ علي سنجاري: (( كان لجهاز مخابرات شاه إيران الدور التخريبي لنسف أتفاقية الحادي عشر من آذار 1970 من خلال علاقات الأمن الإيراني ببعض المسؤولين في الثورة الكوردية مع إيران والدليل على ذلك حيث ظهرت قائمة بأسماء هؤلاء المتعاطين مع المخابرات الإيرانية بعد سقوط نظام الشاه في شباط 1979 ولدينا القائمة..(8))).
أستغل كيسنجر نقطة الضعف لدى بغداد وقرر اللعب بالورقة الكوردية وأجرى أتصالات سرية مع قادة حزب البعث عن طريق بعض الوسطاء من الحكام العرب وغيرهم وأ عدا حكام البعث بوعود كبيرة تتعلق بثورة الكوردية.
المصادر والهوامش:
(1) ذكر الأستاذ القاضي كاوه فتحي معصوم نقلاً عن والده حين كان والده مسؤول الحزب الديمقراطي الكوردستاني، أنه حدثت مشاكل بين منظمة البارتي مع نقابة المعلمين في محافظة الحلة، أضطر صالح اليوسفي لزيارة مدينة الحلة ومقر نقابة المعلمين لحل تلك المشكلة العالقة، وبعد أجتماع اليوسفي مع الطرفين وبحثهما في موضوع الخلاف أحتد النقاش بينهما، فصاح الشهيد صالح اليوسفي وقال للهم بالحرف الواحد:((أسمعوا...إذا أنتم حكومة...فنحن ثورة)).
(2)من أرشيف شيرزاد صالح اليوسفي.
(3)شكري الحديثي يحمل في ذاكرته الكثير عن القضية الكوردية وقد ذكر في إحدى رسائل الزعيم البارزاني يقول لهُ: (أنا أثق بك يا أستاذ شكري لأنني أعرف أنك رجل..)، وكان يعتز الحديثي بمحاولاته لتثبيت السلام في المنطقة الكوردية أبان عمله محافظاً في السليمانية وكركوك، وكان أول قيادي يهاجم الحلول الأمنية للقضية الكوردية وفي إحدى أجتماعات الحزب بحضور الرئيس البكر ونائبه صدام أشار الحديثي إلى ناظم كزار وقال لهم: ( أبعدوا هذا الرجل من الملف الكوردي وأنا كفيل بحل جميع المشكلات)، وكانت لهُ علاقات مع العديد من الشخصيات الكوردية وقد قال أكثر من مرة عن الكورد: إنهم الأصدقاء الأكثر وفاءاً لي أيام محنتي في السجن. (دنيا الوطن شكري الحديثي - المناضل يموت واقفاً - بقلم ليث الحمداني).
(4)شكيب عقراوي - سنوات المحنة في كوردستان - ص 304
(5)شكيب عقراوي - سنوات المحنة في كوردستان - ص 334
(6)علي سنجاري - القضية الكوردية وحزب البعث العربي الإشتراكي في العراق - ص 55
(7)علي سنجاري - أوراق من أرشيف كوردستان - ص 95
(8)علي سنجاري - القضية الكوردية وحزب البعث العربي الإشتراكي في العراق - ص 84