1 قراءة دقيقة
الحلقة السادسة والعشرين - (الجزء الرابع)

زوزان صالح اليوسفي



الحلقة السادسة والعشرين - (الجزء الرابع)
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
 (نضالنا ليس للبيع – حبيب عبدالله زه ندى)

 بعد أن تمكن رئيس الوفد مام جلال من السفر بحجة مشاركته مع الوفد العراقي للسفر إلى القاهرة للمرة الثانية وترك مصير رفاقه من أعضاء الوفد بيد الأقدار وبعد أن تيقن جيداً من المصير الذي سيواجهونه..! وأستطاع أيضاً الأستاذ حبيب عبد الكريم العضو في الوفد الهرب من الفندق عن طريق خداع رجال الأمن، وكذلك نجى كل من شوكت عقراوي وهاشم عقراوي (1)، لكن المناضل صالح اليوسفي مع أعضاء الوفد الباقين صمدوا وحتى آخر لحظة من أجل تحقيق خطوات إيجابية من خلال هذه المفاوضات وهم كل من (صالح اليوسفي، عكيد صديق ئاميدي، عبد الحسين الفيلي، رشيد عارف، محمد سعيد الخفاف، شاخوان نامق، مصطفى عزيز، بابكر بشدري، شيخ حسين خانقاه، مسعود محمد، عبد الصمد محمد (2)).
يذكر الأستاذ شكيب عقراوي: لقد أرتكب المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني خطأ تكتيكياً في إسهام الكادر القيادي للحزب الديمقراطي الكردستاني(فرع بغداد) في المفاوضات وهم كل من السادة (صالح اليوسفي وعبد الحسين فيلي وحبيب فيلي وشاخوان نامق) لأن أجهزة الأمن في بغداد كانت تراقب تحركات أعضاء الوفد الكردي المفاوض، وأستطاعت مديرية الأمن العامة تشخيص كوادر الحزب وأعضاء اللجنة المحلية في بغداد، وفي يوم 19 حزيران / يونيو ألقت مديرية أمن بغداد القبض على عدد غير قليل من كوادر وأعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد وعرضتهم إلى التعذيب الوحشي وحصلت على الأعترافات من بعضهم وتعرضت اللجنة المحلية بغداد للحزب الديمقراطي الكردستاني إلى موقف حرج جداً وأستطاع مسؤول اللجنة الدكتور )أسعد خيلاني( إخفاء نفسه في بغداد بصعوبة(3).
بعد أن يأس الوفد الكوردي المفاوض من الوصول إلى نتيجة طلب أعضاء الوفد في التاسع من حزيران/ يونيو 1963 من الحكومة بالعودة إلى كوردستان لمناقشة البيان ولعرض آخر مقترحات الجانب الحكومي مع القيادة الكوردية، وافقت الحكومة على طلبهم وعندما وصول الوفد إلى مدينة كركوك أعتقلتهم الحكومة في 9 حزيران/ يونيو 1963 وتم نقلهم إلى بغداد مقيدين بالسلاسل، وفي نفس فجر ذلك اليوم أذاع النظام بياناً رسمياً من خلال الإذاعة معلناً من خلالها الحرب على كردستان، وقد أستنكرت بعض الجهات العربية من النظام العراقي في بغداد بإلقاء القبض على أعضاء الوفد الكردي المفاوض لكونهم ضيوفاً لدى السلطات العراقية وذلك بموجب العرف والأخلاق والقيم العربية الأصيلة فإنه لا يجوز إلقاء القبض على الضيوف وخاصة السياسيين منهم اإن مصيرهم أمانة تقع على عاتق الجهة التي أستضافتهم، ولكن عنجهية وغرور نظام عبد السلام عارف لا تعترف بمثل هذه المبادئ..!
ونقلاً عن الأستاذ المناضل علي سنجاري: ((أن أحمد حسن البكر قد سلم اليوسفي رسالة شخصية إلى الزعيم البارزاني بخصوص القضية الكوردية، إلا أنه تم إعتقال الوفد في مطار كركوك وعلى رأسهم صالح اليوسفي وتم إعادتهم إلى بغداد مقيدين بالسلاسل، وتم التحقيق معهم لكشف تنظيمات البارتي في بغداد والمناطق الجنوبية وأستخدمت أبشع أساليب التعذيب بحقهم وبخاصة المناضل صالح اليوسفي الذي تم كسر ذراعه اليمنى جراء التعذيب الوحشي البعيد عن كل القيم الأخلاقية والأنسانية، وقامت أجهزة الأمن والمخابرات والحرس القومي بحملة إعتقالات واسعة في بغداد شملت العشرات من كوادر البارتي وأعضائه ومؤيديه وأصبح كل كوردي مقيم في بغداد معرضاً للأعتقال، وجرى فصل المئات من الموظفين الكورد من وظائفهم، كما شملت الأعتقالات العشرات من العسكريين وأفراد الشرطة الكورد المبعدين إلى بغداد والمحافظات الجنوبية، الأمر الذي أفشل المفاوضات بين الطرفين ودفع بها إلى الأستعداد للمواجهة العسكرية، وفي حزيران / يونيو عام 1963 أستأنف البعثيون القتال(4).
صمدّ المناضل صالح اليوسفي أمام تحقيقاتهم وتعذيبهم بكل شجاعة وجرأة، رافضاً الأعتراف على الخلايا التنظيمية للمناضلين الكورد أو منح السلطات أي أسم من أسماء رفاقه المناضلين، كما كان يمتنع عن سب الحزب والقيادة والزعيم البارزاني حينما كان يجبرونه تحت التحقيق والتعذيب، وقد أدى ذلك التعذيب الوحشي إلى كسر يد والدي لكثرة تعليقة بمرواح التعذيب السقفية، وكسر أنفه وعدد من أضلاع ظهره وصدره من شدة الجلد، وبقيت آثار التعذيب هذه واضحة على ظهر والدي الحبيب (شلت أيديهم).
كانت فترة حكم الرئيس عبد السلام عارف من أشد الفترات قسوة على الشعب الكوردي بصورة عامة وعلى حياتنا العائلية بصورة خاصة، ومن خلال تلك اللحظات القاسية سأذكر شهادات من عائلتي ومن عدة أساتذة أفادوني ببعض الشهادات، في فترة سجن والدي ورفاقه بعد أعتقالهم في 9 حزيران/ يونيو 1963، وبدوري أقدم جزيل شكري وأمتناني على هذه الشهادات رغم قسوة ومعاناة تلك المرحلة، وعلى كل حال فهي جزء من تاريخ نضال شعبنا ونضال والدي ورفاقه، ونقلاً عن هذه الشهادات سوف أذكر بعض من أهم اللمحات الأشد قسوة ومعاناة التي مرت على والدي وعائلته.
تطرق المناضل صالح اليوسفي من خلال هذا الموقف في مذكرته قائلاً: (( لقد قمت بما يمليه عليّ عقيدتي ولم يهمني لومة لائم بل كنت أؤمن بمبدأ حاولت تحقيقه وإن كنت لم أغفل قط ثقل المصاعب والمضاعفات التي لا بد من أن تعترض في مسالكها الوعرة نظراً لظروف وطبيعة تكوين أنتفاضتكم والسلطة الفتية المشحونتين ببعض التيارات الشوفينية من جهة وطبيعة، وتركيب وظروف وأوضاع قيادة الحركة الكردية من جهة أخرى، وكثرة أعداء الجانبين من المغرضين والمنتفعين والحاقدين في الداخل والخارج الذين يتربصون للإيقاع بينهما، ولكن على ذوي المبادئ الصادقة أن يكافحوا من أجلها ولا عبرة من نجاحهم أو فشلهم فلا يحكم عليهم بالنتائج سلباً وإيجاباً - لذا فقد كنت مرتاح البال والضمير لكوني حاولت بحرص وإخلاص ردم هوة عميقة بين الحركتين القوميتين وفتحت بينهما جميع أبواب الثقة والتضامن على مصراعها – ولكن ثقل حمم الترسبات والمضاعفات والأطماع والمصالح الفردية والحزبية والداخلية والخارجية وتصعيد قوى الهدم والتخريب والدس والتآمر وضحالة الوعي الثوري المشحون بالغباء والأستعلاء والمكابرة كلها كانت تترصد للنيل بها وتفوق على قدرتي الضعيفة بأضعاف مضاعفة ومع ذلك لم أنفك من بذل محاولاتي البائسة والحرص الشديد بالأحتفاظ بأي خيط من الأمل مهما كان رفيعاً من أجل تحريك الوضع المتدهور نحو الأحسن أو على الأقل الأبتعاد عن المواجهة فكان آخرها المجازفة بحياتي من أجل التمسك بآخر أطياف الأمل للحيلولة دون تدمير جهودنا المضنية والتي ذهبت أدراج الرياح، وتعرضت جسدياً ونفسياً إلى آلام مبرحة وإلى أسوء أشكال المعاملة غير اللائقة والمنافية لأبسط التقاليد العربية النبيلة كجزاء على جهودي النبيلة مع الأسف الشديد.. ومع ذلك فإني والحمد لله أحمل في قفصي صدري قلباً نقياً طيباً يأبى أن يحمل ضغينة أو حقداً حتى لؤلئك الذين قاموا بإذائي أشد إيذاء فقد غفرت لهم جميعاً عن سو معاملتهم الطائشة.. وكنت أدرك أن مصلحة القوميتين ومبادئهما تتجاوزان وتسموان على ألوف من نزوات التشنجات والأنفعالات الشخصية غير المدركة لمسؤوليتها ومهما جرت عليهما من سيل الفواجع والدماء والدموع فلا بد من لقاءات متواصلة بين طلائعهما مهما كانت الظروف والأوضاع وأستخلاص العبر من تجاربها المريرة(5))).
شهادة ورسالة من الأستاذ الفاضل عادل الزه ندي: ((مساء الخير أخت زوزان لي الشرف أن أكون في حضرت عائلة أعتبره معلم والدي ومعلمي.. لا أبالغ أن هو مَن علمنا ألف باء الكراديتي النزيه.. أن المرحوم والدي كان معلقاً في نفس الغرفة التي عذب فيها الشهيد اليوسفي ووصف شكل التعذيب الذي كان يعذب به الشهيد اليوسفي الذي كان عن طريق أنبوب حديد (بوري بالعامية) من النوع الثقيل وكان يمررونه على ساقي الشهيد وصدره مما أدى إلى كسرها.. وأضاف الوالد أن صلابة الشهيد زادت من معنويات مَن كان يشاركهُ في غرفة التعذيب حيث كانوا ستة..
أختي العزيزة أذكر جيداً بساطة ونعمة كلمات الشهيد عند أستقباله لنا أنا ووالدي في الطابق المخصص لهُ في الفندق حينما كان مع أعضاء اللجنة المحلية للبارتي في بغداد.. وأذكر عندما قال لوالدي ها قد وصلنا خطوة إلى الأمام ولكن الطريق طويل وفخرنا أننا سنترك للأجيال القادمة هذا النجاح.. أخيراً لك بأن تفخري بالتاريخ المشرف النظيف للشهيد فكان المفاوض الصلد لتحقيق المكاسب للحركة التحررية الكردستانية وقضايا السلم في المنطقة والعالم.. والدي حبيب عبد الله زه ندى وقد وافته المنية قبل حوالي ثلاث سنوات، وكان من مريدي والدك الشهيد رفض أستلام تعويضات السجناء السياسيين.. وفائاً لرفاقه شهداء الدرب وكان يقول نضالنا ليس للبيع...))..!
(نضالنا ليس للبيع – حبيب عبدالله زه ندى)...! يا لروعة فكر وتضحيات عمالقة مناضلينا ومعنى روح النضال الحقيقي، أين نحن الآن من أمثال هؤلاء المناضلين العمالقة..؟؟!!
شهادة من السيد رعد رؤوف عبد القادر من أهالي زاخو يذكر من خلال مذكرات والده الذي كان سجيناً سياسياً حينها بصحبة والدي في زنزانة واحدة وهو أيضاً لاق التعذيب مع والدي في نفس السجن، ونصاً عن قول السجين السيد رؤوف عبد القادر: (( كنت مع سه يدا صالح اليوسفي في نفس الزنزانة عام 1963، كان صالح اليوسفي رجلاً شجاعاً وبطلاً.. حيث كانوا يأتون به من التعذيب فكن نتجمع حوله ونداوي جروحه بقطع القماش المبللة.. ثم يهدء لينام ورأسه في حجري.. من شدة آلام التعذيب..)).
شهادة من السيد كاميران عبد الصمد يذكر فيها: (( عام 1963عندما سجن الأستاذ صالح اليوسفي مع مجموعة من المناضلين الكورد (الوفد المفاوض) كان الشهيد اليوسفي مع والدي والمرحوم حسين خانقاه والمرحوم مسعود محمد زرتهم في السجن المركزي في موقع وزارة الصحة الحالي في بغداد آنذاك، وكان عمري 13عام وقد هرّبت رسالة منهم لأعطيه إلى حمة أمين خانقاه ليتوسط بعدم أخراجهم في التلفزيون بغرض الإهانة..)) كاميران عبد الصمد.
يذكر الأستاذ المناضل علي سنجاري: ((تم توقيف المناضل صالح اليوسفي في سجن الفضل حيث تعرض إلى أشد أنواع التعذيب حتى أصيب كتفه الأيسر بالخلع وكان تعذيب الأستاذ صالح اليوسفي بعيداً عن كل الأخلاقيات لأنه معروفاً بمواقفه السلمية ويدعى (غاندي) الكورد وكان قبل يوم واحد قد أجتمع مع قادة الإنقلاب وشرب الشاي معهم..!(6)
نقلاً عن الأستاذ حسن عوينة (الإنسان والمناضل الشهيد):خلال شهر حزيران / يونيو 1963 حينما كنت مع المعتقلين في سجن بغداد المركزي ـ باب المعظم ـ الحقوا بنا المرحوم (صالح اليوسفي) نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث أعتقلوه والوفد المفاوض الذي كان يترأسه للتفاوض مع الإنقلابيين حول القضية الكردية، وكانوا يعانون من آثار التعذيب الذي تعرضوا له، وخصوصاً المرحوم اليوسفي، وقد دارت بيني وبينه الكثير من الأحاديث، ومنها ما تعرض له الشهيد (سلام عادل) ورفاقه الأبرار، حتى فارقوا الحياة تحت التعذيب..! فأجابني اليوسفي بالحرف: ((هؤلاء الرجال أساطير، ولسنا أساطير..)) هكذا وصفهم هذا الرجل المنصف.
يذكر الأستاذ أبراهيم ميراني: (( كان صالح اليوسفي (رحمه الله) مثلي الأعلى في العمل الوطني، عرفته منذ المؤتمر الخامس للحزب، توثقت العلاقة بيننا وكانت هناك ثقة متبادلة وأحتفظ بذكريات نضالية سامية معه، فبعد أن دارت بنا الدوائر وقيام الثورة في أيلول/ سبتمبر1961 حينها كنت مسؤولا طلابياً فأعتقلت في 19حزيران/ يونيو 1962 وحكم على بالسجن مدة تسعة أشهر، فأودعت سجن الرمادي لقضاء محكوميتى حتى قيام إنقلاب شباط / فبراير 1963 وحينها أطلق سراحي بطلب من الوفد الكردي المفاوض مع الحكومة الإنقلابية فألتقيت بهم في فندق بغداد أطلعني الشهيد (صالح اليوسفي) على عدم أرتياحه من سير المفاوضات وبعد التداول معهُ وجلال الطالباني تقرر إلتحاقي بالثورة ومغادرة بغداد على الفور وهكذا أستقر بي المقام في مقر المكتب السياسي في كهف(مالومة) محافظة السليمانية.. وبقي الشهيد اليوسفي وبقية الوفد في بغداد بأنتظار التطورات اللاحقة فما كان من الحكومة البعثية الغادرة إلا أن أعتقلت اليوسفي وبقية أعضاء الوفد وإيداعهم السجن رقم واحد في معسكر الرشيد وذلك بعد أن وعدتهم بأرسالهم بالطائرة إلى كوردستان للتداول مع البارزاني وقيادة الثورة الكردية وهكذا أجهضت المفاوضات وأستأنف القتال، وهكذا بقي الوفد رهن الأعتقال حتى إنقلاب عبد السلام عارف على البعثيين في 18تشرين الثاني / نوفمبر 1964 وفتح باب التفاوض مرة أخرى مع الحكومة العارفية والتي أفرزت إطلاق سراح المناضل صالح اليوسفي وزملائة وعودتهم بالطائرة إلى (رانية) وبما أنني كنت حينها مسؤولا لمحلية (قلعة دزة) كان لي الشرف أن أكون بين المستقبلين... وبعدها أمرني القائد البارزاني بإقامة حفل غداء وتكريم لهم أحتفاء بسلامتهم وعودتهم سالمين إلى أحضان الثورة... وهكذا تستمر الذكريات... الأستاذ أبراهيم ميراني)).
من خلال هذه العملية الإجرامية الدولية في أعتقال الوفد المفاوض، كان على رأس هيئة التحقيق المجرم (ناظم كزار(7)) وعضواً فيها وقد أتخذوا من إحدى الدور المجاورة لمحكمة الشعب بالقرب من وزارة الدفاع وسط بغداد مقراً لها، لتتولى التحقيق مع الشيوعيين وغيرهم من القوى المعادية لحزب البعث وكان لإعضاء البارتي والوطنيين الكورد النصيب كبير من وسائل التعذيب على أيدي جلاوزة هذه الهيئة.
ومن خلال مشاهد التعذيب ونقلاً عن عائلتي بأن والدي بعد جلسة تحقيق وتعذيب كان يرد عليهم في النهاية: (راح يجي يوم راح تبوسون قندرتي حتى أحجي وياكم – سيأتي يوماً تقبلون حذائي لكي أتحدث معكم)..! ودارات الأيام وتحققت نبوءة والدي بعد أتفاقية 11 آذار 1970، وفعلاً ومع كل المفاوضات كانوا يعتمدون عليه في الكثير من المواقف والمهمات الصعبة..!
لم يتوقف جلاوزة الدكتاتور عبد السلام عارف على أعتقال والدي فقط، بل طالت أيديهم الخبيثة على أعتقال والدتي أيضاً من مدينة زاخو وترحيلها إلى إحدى سجون مدينة الموصل، وكان خبر إعتقال والدتي مفاجأة وصدمة مؤلمة على عائلتها وعلى معظم أهالي مدينة زاخو، كان أعتقال والدتي بناءاً على تحريض من أحد الأغوات المعروفين في زاخو ومن الرجال المتنفذين فيها، وكان يحمل لوالدي حقداً شخصياً متهماً والدي بأنه كان رأس البلاء في إشعال نار الحس القومي والوطني، مدعياً أنه هو الذي أجج روح الكوردايتي في مدينة زاخو وفي منطقة بهدينان، وهو الذي أسس الخلايا التنظيمية للبارتي في عموم بهدينان، وكان لهذا الآغا مقولة مشهورة يذكر في الكثير من المناسبات: ((أحدنا سيعيش في هذه الحياة.. أما أنا أو سيدا صالح (قاصداً والدي)).
ألقوا القبض على والدتي في زاخو، وأضطرت أن تصطحبني معها حيث كنت طفلة صغيرة، تاركة أطفالها الأربعة الباقين تحت مسؤولية جدتهم التي صُعقت من الخبر، ولم يستطيع بدنها الضعيف ونفسيتها المنهارة من التحمل، خاصة حينما كانت تسمع من البعض بأنه قد تم تصفية والدي تحتى التعذيب..! فشلت أطرافها ووافتها المنية من الحزن بعد إلقاء القبض على والدتي وأضطرارها لإصطحاب أبنتها الصغيرة برفقتها، كان لرحيل جدتي أشد تأثير على إخوتي اللذين حُرموا من الحضن الوحيد الذي كان قد بقى لهم بعد سجن والدي ووالدتي.
نقلاً عن والدتي: كانت مساحة سجن نساء الموصل صغيرة قياساً لتواجد العديد من النساء المحكومات بتهم متنوعة، وكانت هناك زنزانة خاصة للسجينات السياسيات، كانت والدتي من ضمنهم، وأن هؤلاء السجينات كانوا أغلبهن من المنتميات إلى الحزب الشيوعي واللاتي تم أعتقالهن عقب أنقلاب 1963، وكانت من بين تلك المعتقلات، سجينة متميزة عن الأخريات لها هيبتها وسلطتها وتتمتع بقوة الشخصية، وكانت من الكادر النسائي الشيوعي المتقدم حيث كانت ناشطة سياسية معروفة ومن العضوات البارزات في الحزب الشيوعي، والحقيقة فإن هذه السجينة ونظراً لمركزها حتى في السجن أولتنا برعاية خاصة داخل الزنزانة، وكان الجميع يخشونها ويحترمونها ولها سلطة واسعة عليهن.
كنتُ أصغر السجينات بتهمة ليس لي فيها أي بصمة، ولعل تهمتي الوحيدة أنني كنت أبنة ذلك الثائر والمناضل السياسي صالح اليوسفي، لم تذكر لي والدتي تفاصيل أكثر عن الأحداث والمعاناة في ذلك السجن سوى أن الظروف المعيشية التي مرت علينا داخل الزنزانة لا تختلف عن ظروف أي سجين سياسي داخل معتقل في أي زمان وأي مكان في العالم، عدا حادثة واحدة ذكرتها لي حصلت في السجن سبّب الكثير من الخوف والذعر..! حيث ذكرت والدتي أنه في صباح أحد الأيام كانت هناك سجينة أصابتها حالة هيستيريا شديدة، فسكبت النفط على جسدها لتحرق نفسها في وسط ساحة السجن، فلم يستطعن السجينات الأقتراب منها حيث كانت في حالة هيستريا، فقد أيقن جميع السجينات أن الحريق سوف يدب في الحال في كل السجن، وكانت أمي واثقة بأن النهاية قد أقتربت وسوف نكون بعد لحظات رماداً، في الأخير وبعد أن دب الحريق فيها وسط صراخها..! حاولن بعض السجينات المجازفة بأرواحهن دون أن يكون لهن خيار آخر وبادرن بإخماد النار حولها وسط الصراخ والفزع، وأخيراً تدخل المسؤولين وأخذوا السجينة.
بعد مرور عدة أشهر أخبرتني أمي إن حالتي الصحية تدهورت في السجن،حيثُ أصبتُ بمرض الحصبة فأصبحتُ قاب قوسين أو أدنى من الموت، وبعد أن علم الكثير من أهالي زاخو بمعاناة والدتي، قام بعض من الأقارب والأصدقاء للعائلة بإجراء محاولات حثيثة لإطلاق سراحنا، بدفع الهدايا والمال من أجل إنقاذنا من السجن، (ونقلاً عن أختي الكبيرة نارين) كان آخر من لجأوا إليه في هذه المحاولة، هو أحد الشخصيات من سكنة الموصل ومن الموالين للحكومة يدعى (محمد ياسين حلّوكى)، وبعد هذه المحاولات الحثيثة وبعد مرور عدة شهور أستطاعت تلك الشخصية المتنفذة من إخلاء سبيلنا، خاصة وإن حكومة عبد السلام عارف خلال تلك الفترة وفي نهايات عام 1963 كانت تحاول فتح باب الحوار والمفاوضات مرة أخرى مع القيادة الكوردية بعد أن أنهكها الحرب مع الثور الكورد، وقد تدخل الزعيم المصري جمال عبد الناصر لإقناع الحكومة العراقية بوقف القِتال وإجراء حوار لحل القضية الكوردية، فوافقت الحكومة العراقية وأوقفت الحرب وتبادل الطرفان إطلاق سراح الأسرى.
وقد حدث في نهايات عام 1963 إنشقاق بين عبد السلام عارف والبعثيين، فسيطر عارف على السلطة، ودفع الوضع الجديد، الحكومة إلى معاودة الأتصال بالقيادة لغرض أستكمال المفاوضات، فكلما شعرت الحكومة العراقية بضعفها وبقوة الأكراد أتجهوا إلى إجراء المفاوضات..!
 وفي يوم 10 شباط/ فبراير 1964 أصدر الرئيس عبد الرحمن عارف والزعيم الملا مصطفى البارزاني بيان وقف الحرب وأتخذ الإجراءات اللازمة للبدء بالمفاوضات، فكان عام 1964 محملاً بمفاجأت لم تكن بالحسبان حيث ظهرات بوادر إنشقاق الحزب الديمقراطي الكوردستاني.. (يتبع)

 المصادر والهوامش:
(1)في نهاية شهر نيسان 1963 حمل عضو الوفد المفاوض هاشم عقراوي رسالة من بغداد للبارزاني فأمرهُ البارزاني بعدم العودة إلى بغداد – سنوات المحنة في كوردستان – الأستاذ شكيب عقراوي – ص 115.
(2)أطلقت الحكومة في صيف 1963 سراح كل من: مسعود محمد، شيخ حسين خانقاه، صمد محمد، بابكر بشدري وكلفوا بإيصال رسالة من الحكومة إلى بعض رؤساء العشائر الكوردية والمكتب السياسي للبارتي تضمنت رغبة الحكومة بإجراء حوار معهم من دون البارزاني، أما بقية الوفد المعتقل فقد بقوا في المعتقل وذاقوا أشد أنواع التعذيب، حتى إطلاق سراحهم بعد هدنة 10 شباط/ فبراير 1964 – الحركة القومية الكوردية في كوردستان العراق – شيرزاد زكريا محمد – ص 113
(3)سنوات المحنة في كوردستان – الأستاذ شكيب عقراوي – ص 114.
(4) الأستاذ علي سنجاري – القضية الكوردية وحزب البعث العربي الإشتراكي.
(5) من مذكرة المناضل صالح اليوسفي للرئيس أحمد حسن البكر.
(6) القضية الكوردية وحزب البعث العربي الإشتراكي في العراق – الأستاذ علي سنجاري ج3
(7)يذكر د . هادي حسن عليوي عن شخصية ناظم كزار: شخصية بعثية غامضة، سجله الشخصي معروف بالعنف والدموية وبالإجرام ،وتلذذه بتعذيب المعتقلين والتفنن بقتل الآلاف من الشيوعيين والديمقراطيين والقاسميين بعد إنقلاب 8 شباط 1963،وصلت قسوته وجرمه أن وضع أحد أصلب المعتقلين الشيوعيين في تابوت وهو حي، وقطع التابوت إلى نصفين بمن فيه بمنشار بدم بارد وأمام جميع المعتقلين الآخرين، أشتهر بوضع المعتقلين بأحواض التيزاب لإذابتهم..!
 وكان ينفذ حكم الإعدام خنقاً بكلتا يديه على رقبة المحكوم حتى يلفظ أنفاسه..



تم عمل هذا الموقع بواسطة