الحلقة السادسة والسبعون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
نكسة 1975 والفخ الدولي - الجزء الأول
سأبدأ بأختصار من الخيوط الأولى التي بدأت تحاك للسبيل إلى أتفاقية 6 آذار 1975، وما كان والدي يحلله من خلال تتبعه للأخبار والأحداث، وقد سبق وأن شرحت من خلال حلقاتي السابقة كيف كان والدي منذ 1973 يحذر القيادة الكوردية من مهبة الوقوع بالفخ الدولي...!! للقضاء على أكبر حركة تحررية كوردية في تاريخ العصر الحديث.
الرئيس الجزائري هواري بومدين.. أول من وصف كردستان العراق بإسرائيل الثانية خلال لقائه بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون(1).
ذكر سفير الجزائر بالعراق د.عثمان سعدي قائلا: (( زار الرئيس هواري بومدين الولايات المتحدة بعد القمة العربية التي عقدت بالجزائر في نهاية سنة 1973، ونقل لي الرئيس بو مدين ما دار بينه وبين الرئيس نيكسون حول شمال العراق. فقد حادثه بصفته رئيس مؤتمر القمة العربي ومؤتمر عدم الانحياز اللذين عقدا بالجزائر سنة 1973(2)، أستقبل بو مدين من طرف الرئيس ريتشارد نيكسون في 11 نيسان/ أبريل 1974 بحضور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية.. تكلم الرئيس نيكسون فقال: العلاقة بين الولايات المتحدة والعرب جيدة، توجد بيننا وبين العرب مسألة إسرائيل، ولا بد أن نتجاوز هذه المسألة.
فرد الرئيس بومدين وقال: نحن العرب نرى أن الولايات المتحدة لم تكتف بإسرائيل واحدة فنراها تعمل على تأسيس إسرائيل ثانية في شمال العراق.. أضاف الرئيس بومدين.. أن نيكسون أضطرب في كلامه فصار يردد عبارة: إسرائيل ثانية.. إسرائيل ثانية...
عندها تدخل كيسنجر فقال: سيادة الرئيس.. تقصد قضية الأكراد بشمال العراق..؟
فأجب بومدين: نعم.. أقصد التمرد الكردي بشمال العراق.. وأقصد ألا يذكر كلمة قضية..
رد كيسنجر: سيادة الرئيس.. قضية الأكراد تثيرها إيران ضد العراق.. ولا دخل للولايات المتحدة فيها..
الرئيس بومدين: شاه إيران حليفكم بالخليج العربي.. تزودونه بالسلاح كما تزودون إسرائيل.. وأنا على يقين لو تطلبون منه الكف عن دعم المتمردين الأكراد للتوقف عن هذا التمرد.. لماذا لا تطلبون من حليفتيكما تركيا وإيران اللتين يتواجد بهما الأكراد أكثر من تواجدهم بالعراق.. أن تعترفا بحقوق الأكراد مثلما أعترف العراق، العراق البلد الوحيد الذي منح حكما ذاتيا للأكراد واعترف بحقوقهم الثقافية..
أجاب كيسنجر: هذه دول حرة لا سيادة لنا عليها.. ثم أنا مستعد لزيارة بغداد لتوضيح موقفنا للعراقيين..)).
هنا كان والدي متابعا للأحداث وحذرا مما يجري على الساحة السياسية نظراً لخبرته السياسية وهو يحلل الأمور ببعد نظر، خاصة وكان يعلم بأتصالات الشاه والسفارة الأمريكية بالقيادة الكوردية والتأثير عليها منذ عام 1973، وكسب بعض القيادات إلى جانبها لتحريك الأجواء لصالحها ولتحقيق غاياتها ومصالحها الشخصية في المنطقة.. لذا كان يخشى والدي من وقوعنا في الفخ الدولي الذي بدأت الطبخة لها منذ عام 1973 ومنذ ذلك الحين كان يحذر القيادة منها، وينصحهم نحو خطواة السلام مع الحكومة العراقية في مفاوضات 1974، لأن العواقب ستكون أكبر في حالة فشل المفاوضات..(وهذا ماحصل فعلا).
من جهة أخرى أود أن أشير.. لو كان الرئيس هواري بومدين جاداً ومخلصاً في مشاعره نحو العراق، كان بأستطاعته أن يبذل هذه الجهود من أجل تحقيق السلام بين الحكومة العراقية والقيادة الكوردية بدل من إجتماعه بالرئيس الأمريكي وإثارة الموضوع بهذا الشكل الحساس والغير منطقي، وهو زعيم دولة وفي موقع قيادي بارز من الوطن العربي..! ثم هل صرف (بو مدين) النظر في مثل هذه المقابلة المهمة مع الرئيس الأمريكي لحل مشكلة الشعب الفلسطيني مع أسرائيل وفي ظل ذلك الوقت المهم والحساس من حرب أكتوبر 1973..؟! ليفجر قنبلة بل فتنة ومشكلة هي أصلاً مشكلة داخلية في العراق تتضمن حقوق قومية كوردية وهي جزء من الشعب العراقي..؟! فأي رئيس دولة هو.. حين يقارن وضع ومسألة كورد العراق بوضع ومسألة أسرائيل..؟! على العموم برأي إنه كان تدخل تاريخي جائر من جانب الرئيس (بو مدين) للتدخل في شؤون العراق الداخلية.. تاركاً المشكلة الفلسطينية وشعبها خارج أهدافه..! للأسف.. كان حينها للرئيس (بو مدين) الدور الأكبر للمشاركة في هذه الجريمة على حساب الشعب الكوردي والإنتقاص من سيادة وكرامة العراق لصالح إيران.. ولم يقدر النتائج بحكم موقعه.. لتجر هذه الخطوة العراق وشعبه ومنذ ذلك الحين إلى دوامة ومسلسل من الحروب والدماء والويلات والكوارث.. وإلى حد يومنا هذا..!
يذكر الأستاذ عادل مراد: (( عندما توسعت الحركة الكردية عامي 1974 و1975 بعد التحاق الآلاف من المثقفين وأساتذة الجامعة والأطباء والعسكريين، صارت الحركة مصدراً كبيراً للخوف لدول المنطقة، خصوصاً الدول التي تتقاسم (كردستان) والدول الاستعمارية آنذاك المستفيدة من نفط المنطقة وخيراتها، فبدأت عملية التخطيط للقضاء عليها، وتحرك هنري كيسنجر لتنفيذ عملية إنهاء تلك الثورة، فعقد لقاءً تمهيدياً في أنقرة بين العراق وإيران والجزائر في شباط 1975 سبقته لقاءات سرية عديدة في مدن مختلفة للتفاهم على ترتيب العملية بالكامل، بما فيها (اتفاقية الجزائر)، والتنازلات التي على النظام العراقي تقديمها(3))).
مؤتمر أوبك 1975.. وتعليق إذاعة مونت كارلو: (سوف لن يضحك أي كوردي بعد الآن من الأعماق..!)
يذكر الأستاذ فاروق ئاكره يى: (( كنا نستمع إلى إذاعتي (لندن، ومونت كارلو) بشكل متواصل. فأعلن عقد مؤتمر (الأوبك) في الجزائر وسوف يحضرهُ (شاه إيران) وصدام حسين. لم نتوقع حضورهما..! وخاصة والمؤتمر أعتيادياً وكان بمستوى وزراء النفط، حدد يوم 6 آذار 1975 لعقد المؤتمر وهيأ له إعلامياً وبشكل عالمي، قبل سفر الشاه إلى الجزائر سافر الزعيم ملا مصطفى يرافقه كل من دكتور محمود عثمان ومحسن دزه يى ويعتقد بأنهُ قابل الشاه، وأشيع من خلال الدعايات.. بأنهم قدموا مطاليب الكورد ووضعوها في ذمة الشاه والأخير أطمئنهم إلى الأمانة وأنه سيكون مدافعاً عن حقوق الكورد..!
لم يقتنع اليوسفي بالموضوع وكان مصراً بأننا نقترب في الوقوع في الفخ الدولي.!! مساء يوم 6 آذار/ مارس 1975 سمعنا من إذاعة لندن، بأن أتفاقا لحل كافة مشاكل الحدود بين العراق وإيران تم توقيعه بين (شاه إيران وصدام حسين، بدعم هواري بو مدين رئيس الجزائر، والأتفاقية لاقت الترحيب الدولي لإستقرار منطقة الشرق الأوسط وقد تساعد على حل شامل لقضية فلسطين وإنهاء الصراع (العربي - الإسرائيلي)..! حسب التحليلات والتوقعات، لم تتضمن الإتفاقية أية إشارة إلى قضية كوردستان، وفي وقت لاحق أعلن عن بنودها وتضمنت تنازل العراق عن أراضيه الحدودية ونصف (شط العرب) مقابل إنهاء (التمرد الكوردي)(4)).
ويضيف الأستاذ فاروق ئاكره يى: (( في البداية ساد الفرح جموع الحاضرين..!، لكني أسرعت إلى مقابلة (سه يدا صالح اليوسفي) في داره المتواضع في عمق الوادي في (بابكرآوا)، فوجئت لأول مرة أنه يذرف الدموع..! والحزن العميق يبدو على ملامحه سألته: ماذا سيكون مصير الكورد في الحدث سه يدا..؟
أخبرني.. بأن كل ما كان يتوقعهُ من المخاطر قد وقع وتداعيات الحدث ستواكب قضية الكورد ولسنوات طويلة وسندفع الثمن غالياً.. إلا إذا تمكن البارزاني ودعم الشعب لهُ من أمتصاص الخطر المحدق.. وإجراء تغيرات صائبة لمؤسسات الحزب والثورة والإستعداد للمقاومة من جديد..(5))).
(نه شةفا مه شةف بو.. و نه روزا مه روز بو) يعني في الأيام التالية للحدث (لم يصبح ليلنا للرقاد.. ولا يومنا نهاراً..!)، فصدقت إذاعة (مونت كارلو) حين علقت بأختصار على الحدث مساء 7 آذار/ مارس 1975 .. سوف لن يضحك أي كوردي بعد الآن من الأعماق..!!(6)))... يتبع
الهوامش والمصادر:
(1)صفحة الرئيس هواري بو مدين في صفحات الفيس بوك.
(2)القمة العربية في الجزائر في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1973 بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بمشاركة 16 دولة عربية، وبمبادرة من سوريا ومصر، وقاطعته العراق وليبيا.
(3)عادل مراد: اعلن تضامني المطلق مع الشباب المتظاهرين ضد التفرد والدكتاتورية - رام الله - دنيا الوطن.
(4)من ذاكرة ناشط بارتي - الأستاذ فاروق محمود ئاكره يى - ص 86
(5،6)من ذاكرة ناشط بارتي - الأستاذ فاروق محمود ئاكره يى - ص 87