1 قراءة دقيقة
الحلقة: السادسة والثمانون - الجزء الحادي عشر من أتفاقية 6 آذار/ مارس 1975

مشاهد حية ويوميات من أتفاقية 6 آذار 1975..(5)

يقول الأستاذ عوني البرزنجي: (( أصعب يوم وأقسى مساء حين سمعنا من إذاعة صوت كردستان العراق أستودعكم إلى ثورة أخرى (باللغة الكردية) وأعتقد إنه بصوت المذيع (مهدي أوميد) وكان اليأس يملأ نفوسنا.. وبعدها بدقأئق سمعنا إطلاقات نار عشوائية من كل صوب لأن الجميع فقدوا أعصابهم وهذا كان آخر خبر من الإذاعة وهكذا أنتهت اللعبة..!)).
ويذكر الأستاذ قيس قره داغي: (( تذكرت مشاهد مؤلمة جداً لا أنساها طالما عشت، لیتني متُ قبل أن أری ذلك الیوم المأساوي الألیم..! كنتُ في بنجوین یوم قاموا بإلصاق آخر برقیة من مقر البارزانی الخالد، لقد تقرر تأجیل الثورة إلی إشعار آخر، هكذا كان مضمون البرقية فخیمت الكآبة علی الجمیع..)).
بأعتقادي المتواضع الثورات ليست بصفقة يمكن أن تؤجل إلى إشعار آخر، فكما هو دارج في كل الثورات أما تتوج في النهاية بالنصر أو الهزيمة أو الإنهيار، ونحن دون شك تعرضنا للإنهيار بسبب عوامل متعددة وخطط مدبرة كما أشرت إليها سابقاً، وذلك التخطيط المدبر على ثورتنا لم يكن وليد تلك الساعة.. وإنما كان تخطيطاً منذ أمد بعيد من قِبل أعداء الكورد، وللأسف ولسوء تقدير قيادتنا حينذاك للنتائج التي ستنهال على الثورة وقعنا في فخ المؤامرة الدولية كما أشار إليها والدي الذي حذر القيادة منها في حينها.. وبعد النكسة كان يصرح والدي بكل أسف وحسرة سوف نحتاج على الأقل من ثلاثة إلى أربعة أجيال لإعادة ذلك المجد وبتلك القوة المتماسكة.
هناك من يصرح بأن الثورة عادت بعد عام من النكسة..! نعم كلنا نعرف إنها عادت.. ولكن هل عادت كما كانت..؟! بالتأكيد كلا.. ولا أستطيع توضيح ذلك لأنني سأحتاج إلى صفحات مليئة بالمأساة والكوارث والغدر لكي أشرح عن عودة ثورة أو بالأحرى ثورات مشتتة..!
الكل يعلم أن ثورتنا حينها كانت ثورة قوية ومتماسكة وبجذور صلبة لا تهزها أقوى الأعاصير، وأستطاعت في زمن قياسي أن تبرز نفسها على الساحة العالمية وتحقق الكثير من الإنتصارات والإنجازات والمكتسبات التاريخية العظيمة، كما أستطاعت أن تتدارك الكثير المخاطر والهزات العنيفة سواءاً الداخلية أو الخارجية.. فالقيادة والبيشمركة معاً كانت موحدة وذو خبرة سياسية وعسكرية، قدمت العشرات من التضحيات ونضال سنين عجاف تجرعها الثوار بإرادة صلبة.. وكانت أنظمة العراق ومنذ العهد الملكي إلى آخر نظام تخشها وتحسب لها ألف حساب، والدول الأقليمية كانت على حذر وخوف شديد من مدها إلى أراضيها، خاصة بعد أن حققت ثورتنا مكسباً تاريخياً خلال أتفاقية 11 آذار 1970، ذلك الشبح الذي أقضى مضاجع حكومتي إيران وتركيا حينها فبدأت تحيك المؤامرات بالخفاء أولاً ثم علناً، هذا إضافة إلى الدول العظمى التي جاء على رأسها كل البلاء على أمة الكورد من أجل مصالحها، فكان الجميع يخططون في إشعال فتيل الفتن والمؤامرات على الشعب الكوردي إلى آخر مؤامرة 1975، فأدى إلى إنهيار الثورة وتشتيت قيادتها.
على العموم لم يدوم حلمنا طويلا بعد إعلان وقف إطلاق النار فأنهار كل شيء في ساعات معدودة.. وجميع أبناء الشعب الكوردي من الملتحقين أصيبوا بالصدمة..؟! لم يُصدقوا ما حصل وأخذوا يصبّون جام غضبهم على القيادة والمسؤولين وبشكل علني(1)، ونقلاً عن أحد السؤولين الكبار قال:(( كنا نخشى خلال تلك الأيام من إنهيار الثورة؛ حتى من الخروج من البيت خوفاً من غضب الشعب..)).
عاد إلينا أبي من مقر قيادته في (بابكراوا) وكانت تبدو علامات الحزن والتوتر بادية عليه لِما كان يتوقع حدوثه ويحذر منه، وبدأ بمرحلة التفكير في مصير عشرات الألوف من الوافدين والمُلتحقين بالثورة من العسكريين والموظفين والطلبة والمتقاعدين وعوائلهم ناهيك عن عشرات الألوف من البيشمركة وعوائلهم، وأزداد توتر والدي ولم يهنأ لهُ بال مطلقاً.. ولأول مرة في حياتي أراهُ عصبي المزاج وحزيناً إلى أقصى حد.. حتى إنه لم يمنح لنفسه لحظات من الراحة من شدة القلق والتفكير.. ولا أبالغ لو وصفته حينها بأنه كان كالأسد الجريح..! كان متأثراً من بعض القيادات المسؤولة عن هذا المصير الذي آل إليه الشعب، ومتأثراً أيضاً من عدم السماح لهُ بخطوة السفر للمحاولة في إنقاذ ما يمكن إنقاذهُ، فكان همه الأكبر مصير شعبه المظلوم.. وأصبح منزلنا وكأنه مقر ثاني للقيادة في مدينة نغدة، حيث بدأ يتوافد العشرات من الملتحقين بالثورة ومن مختلف طبقات الشعب الكوردي..! يستنجدون ويستشيرون والدي بألم وحزن: (سيدا ئةم جئ بكةين - سيدا ماذا نفعل)..؟! وما مصيرنا إذا بقينا أو عدنا..؟!
كان والدي يخيرهم بألم وحسرة بأختيار القرار الذي يرغبون به لأنه لا يستطيع أن يضمن الأمان في كلا الحالتين، ومن جهة أخرى كان يأمل أن ترد الحكومة على رسائله بخطوة إيجابية من أجل إنقاذ شعبه من هذه المحنة ومن أجل خطوة السلام.. أو الأمان على الأقل للعائدين من أبناء الشعب الكوردي، هذا الوضع المؤلم ومعاناة هذا الشعب الطيب كانت تزيد من آلام وحزن والدي.. وكان في قرارة نفسه مصراً على القيام بأية محاولة يستطيع من خلالها إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى ولو ضحى بحياته من أجل العائدين من أبناء شعبه. وقد أخبر والدتي سوف أنتظر الجواب خلال بضعة أيام فقط.. وإذا لم يأتيني الرد سأكون في مقدمة أبناء شعبي العائدين ولن أدعهم يعودون لوحدهم، حتى لو نصبت الحكومة العشرات من المشانق في طريقي.
ذكر المناضل عبد الله بشدري قائلاً: (( من أهم المواقف لهذا الشهيد العظيم عندما أنهارت ثورة الكورد في 1975 والتجأنا إلى الأراضي الإيرانية، حينذاك قال اليوسفي: إني مستعد أن أدافع عن أرض الوطن إلى آخر قطرة من دمي ولكنني لست مستعداً البقاء تحت سلطة شاه إيران(2))).
هذا كان موقف والدي وبقي ملتزماً به.. في الحقيقة كانت مفاجئة غير متوقعة من رد الحكومة السريع والإيجابي على رسائل والدي..! ففي خضم تلك الأيام زارنا المناضل محسن دزه ي، وبعد مقابلته لوالدي أخبره بأنه قادم للتو من مقر الزعيم البارزاني حيث تلقى مقر البارزاني برقية مكتوبة بخط اليد من قبل قائد القوات العسكرية العراقية.. موجهة بالأسم إلى صالح اليوسفي ترحب بمجيئه إلى بغداد وعن أستعدادهم لأستقباله وكانت الرسالة موقعة من قِبل (اللواء الركن عبد المنعم لفتة الربيعي - قائد فرقة المشاة الألي الثامنة) وهذه الرسالة كانت جواباً على رسائل والدي إلى القيادة العراقية والتي أرسلها بيد ذلك الضابط الأسير (صفاء شلال) الذي وصل بأمان إلى القوات العراقية وسلم الرسائل.
يذكر المناضل الأستاذ محسن دزه يى قائلاً: (( كان الشهيد صالح اليوسفي يتمتع بأحترام خاص لديَّ ولدى كل من عرفه وذلك لإخلاصه ونزاهته وطيبته، أما عن عودة الشهيد صالح اليوسفي، ففي اليوم 22 شهر آذار سنة 1975، كان السيد اليوسفي في مدينة نغدة الإيرانية مع عائلته وكنا في قرية حاج عمران عند الزعيم البارزاني، عندما وردت برقية بواسطة محطة المخابرة الخاصة بمقر البارزاني، وهي معنونة إلى السيد صالح اليوسفي من أحد القادة العسكريين في منطقة راوندوز، طالباً عودته لمناقشة بعض الأمور، وقد طلب مني البارزاني الذهاب إلى نغدة لإبلاغ اليوسفي بمضمون البرقية وقال: إنه لا مانع لديه - أي لدى البارزاني من عودته فلا شك أنه سيكون عنصر خير هناك.. وعند وصولي دار الشهيد اليوسفي كان بملابس نومه (البيجامة) وبلَّغته بمضمون البرقية وبرأي البارزاني وبحضور السيدة عقيلته، فنهض السيد اليوسفي رأساً، وشرع بتبديل ملابسه وعاد معي إلى حاجي عمران، وقال إن وجوده هناك سوف يكون مفيداً وأن له أصدقاء كثيرين والأفضل هو عودته إلى العراق فله تأثير كبير على المسؤولين(3))).
كما يذكر الأستاذ محسن دزه يى في مقالة ثانية قائلاً: (( بعد أن فضلت قيادة الثورة تجميد نشاطها في ذلك الوقت بعد النكسة وبعد وضوح أبعاد المؤمرة.. كان الشهيد اليوسفي قد ذهب إلى مدينة نغدة الإيرانية، كنا لا نزال مع البارزاني الخالد على أرض كوردستان حين تلقت أجهزة الأتصال للقيادة برقية من قيادة القوات العراقية في منطقة راوندوز موجهة إلى السيد صالح اليوسفي تطلب منه العودة إلى بغداد، وقد بعثني البارزاني الراحل إلى نغدة لتبليغ اليوسفي بمضمون البرقية على أن يلتقي به (أي البارزاني) قبل عودته إلى بغداد فيما إذا قرر ذلك، ذهبت إلى مدينة نغدة وإلى دار صالح اليوسفي وأبلغته بمضمون البرقية، فنهض وأرتدى ملابسه وكان يكرر القول بأنه سيسعى لأجل عمل شيء مفيد يقدّم بعض الخدمات لشعبه، ذهب صالح اليوسفي شهيداً نتيجة أخلاصه لمبادئه وشعبه وحرصه على مصلحة شعبه وذهب ضحية الغدر والخيانة، رحم الله الشهيد الخالد صالح اليوسفي وأسكنه فسيح جناته(4))).
المصادر والهوامش:
(1) نقلاً عن جميل محو سكرتير عام الحزب الديمقراطي الكوردستاني في لبنان في مذكراته، عقب خروجه من (رايات) إلى داخل الأراضي الايرانية بعد نكسة 1975 قائلًا: (( لما وصلنا إلى بلدة (خانه - الإيرانية) توقفنا مدة خمس دقائق وإذا بنا نسمع صراخاً وضجيجاً من أحد الأماكن فنزلنا من السيارات، وكم كانت دهشتنا كبيرة عندما رأينا عشرات البيشمركة مجتمعين حول (علي عبد الله) عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني، يكيلون الضربات والشتائم له ولأمثاله قائلين: لقد خربتم بيوتنا وشردتمونا فكان يقول الذنب ليس ذنبي...)).
(2)مقالة له تحت عنوان - نبذة عن سيرة النضال الطويل للشهيد صالح اليوسفي - عبد الله بشدري.
(3)شهادة بعنوان: هل الدفاع عن الحق في حاجة إلى تخويل ؟ جريدة خه بات العدد 961 في 28 يناير 2000
(4)كيف عرفت الشهيد صالح اليوسفي محسن دزه يي صلاح الدين 6 – 6 – 2004


تم عمل هذا الموقع بواسطة