في البداية أشكر جميع الأخوات والأخوة الأعزاء على تعقيباتهم على الحلقة الماضية، وبما أنني جعلت تلك الحلقة (بمثابة تصويت حول آرائكم عن الحلقات) ونظراً لجميع التعقيبات الإيجابية من الأخوة الشغوفيين للإطلاع على مسيرة والدي النضالية، وبعد هذا التشجيع رأيت إنه لابد أن أستمر في هذه الرحلة وفاءاً وحباً لوالدي الشهيد.. خاصة وأن أحد من بيشمركته الأعزاء الذي كان يرافق والدي طوال فترة ثورة 1974 والذي كان يزور والدي بأستمرار إلى حين أستشهاده، أتصل بي شخصياً وأخبرني عن بعض مواقفه مع والدي، وقال حين كنت أزوره بعد النكسة في بغداد وأسأله: من المؤسف سيدا أن يضيع تاريخ نضالك الطويل بعد كل هذه التضحيات..؟ كان يقول لي بثقة: أعتمادي على أبنتي زوزان...!! والله أغرقت عيناي بالدموع وأنا أستمع لذلك.. وما زالت عيناي تدمع كلما أتذكر هذه العبارة.. فهل كان بعد نظر والدي لهذا الحد بحيث كان يؤمن وعلى ثقة بأنني وفي ذلك العمر الصغير حينها سيأتي يوماً وسأكتب عن هذا الأب القائد الذي عشق أرضه وشعبه وعن نضاله وتضحياته..؟! شكراً أبي الحبيب على هذه الثقة.
أعود إلى حلقة اليوم ورأيت لابد أن أمر خلال هذه الحلقة ولأول مرة إلى بعض المقتطفات من رسالة والدي إلى النائب صدام حسين حينها في نفس الوقت الذي أرسل رسالة إلى الرئيس البكر.. كشهادة موثقة على ما أشير إليه من الشهادات، وسوف أبتعد أيضاً عن كل ما هو حساس من خلال بعض المقتطفات، وأكرر رجائي من الأخوة الذين لهم تعليق أن لا يخرجوا عن منظور تلك الفترة الزمنية، وكما هو معلوم فوالدي كزعيم سياسي وذو خبرة سياسية كان يحاول من خلال هذه الرسائل وكما أشرتُ من إنقاذ شعبه من هذه المحنة وهذا الفخ السياسي الذي وقعنا فيه، ولا ينسى الجميع أن والدي ومن خلال رسالته إلى صدام كان يواجه أعتى نظام وأشد رجال النظام قوة وقسوة ورهبة حينها.
ومن خلال مقتطفات الرسالة سوف نرى مدى وقار حكمة والدي وخبرته السياسية وبعد نظره السياسي، من خلال محاولاته الحثيثة في كسب النظام لمعالجة أخطر مشكلة تواجه العراق إلا وهي قضية شعبنا الكوردي وإنقاذه من محنته المؤلمة فنرى تارة يعاتب صدام من تهميش مطالبه.. وتارة ينتقد سياسته أزاء الشعب الكوردي بكل جرأة كما جاءت في هذه الفقرة: (( أني أعتقد أن هناك إنخفاضاً بارزاً في مستوى الإنتاج السياسي ومردوده السلبي بصدد معالجة قضية شعبنا الكردي والعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في تشتيت وحدة حركته وكفاحه وإنهاكهما وحتى أمتصاصهما وفي تبديد ثقته وإثارة مشاعره الجريحة...)).
وتارة أخرى يوضح له ببعد نظر للآثار السلبية التي ستنهال على الشعب العراقي من خلال هذه الفقرة: (( وتنجم من وراء ذلك من مزيد من النكبات والأضرار المادية والبشرية على شعبنا العراقي بأسره وقواه المسلحة واستنزاف طاقات الكفاح المشترك بين القوميتين المتآخيتين مع بعضهما البعض...)).
كما لا يتوانى وبكل جرأة من ذكر أسم كوردستان العراق ( ذلك المصطلح الذي كان يرفض رفضاً قاطعاً حينها وكان سائداً بمصطلح شمال العراق حتى خلال فترة أتفاقية السلام 11 آذار.. فكيف الحال وأبي يشير إليها بعد نكسة 1975، ولا شك كان والدي متقصداً أن يُذكر أسم كوردستان من خلال هذه الفقرة:(( وجعل كوردستان العراق من أقوى قلاع السلطة الحصينة والمضمونة بدلاً من ابقائها حقلاً للألغام وإثارة مشاعر وهدر الطاقات في مثل هذه الظروف التي تتعرض فيها أمن ووحدة سلامة عراقنا الغالي إلى الأخطار الشديدة لغياب دور قوة ثاني القوميتين الرئيسيتين..)) ثم يختم والدي رسالته وكما أشرت في الحلقة السابقة بأنه مستعد أن يتحمل مسؤولية شعبه الكاملة فيما إذا أستلم رداً إيجابياً من النظام... هذا كان تحليلاً بسيطاً ومتواضعاً من جانبي عن رسالة والدي لكشف قوة الرسالة وجرأته المعهودة..
وهذه مقتطفات من رسالته(1):
(( سيادة نائب رئيس مجلس قيادة الثورة...........
تحية وأحترام...
كنت قد صممت على أعتزال العمل السياسي بعد عودتي نظراً لما قاسيته من شتى صنوف المحن والمشاكسات خلال ما يقارب من أربعين عاماً إلى أن كان آخرها..................... وإلحاق أضرار فادحة بالمصلحة العامة ومن ثم ما تلقيته منكم من الإهمال والإغفال وعدم أستثمار خبرتي الطويلة النزيهة وما أتمتع به من شعبية بين جماهير شعبنا للإسهام بأخلاص وتفاني في أستكمال معالجة قضية شعبنا المعقدة مع الألوف من أبنائه الطيبين بعد أن أوضحت لكم موقفي المناهض والمعروف لدى الجميع أزاء السياسة ........................ بيد أن متطلبات المصلحة العامة الملحة التي هي فوق كل أعتبار وتترفع عن كل نزوة من نزوات الإنفعال والأستعلاء تحتم على كل مواطن عراقي مخلص أن يتوجه بتقديم كل ما يملك من امكانيات متوفرة لديه لأستخدامها في سبيلها..............
وبصفتي كمواطن عراقي أعتيادي أتمنى لكم التوفيق في كل جهد نبيل...حيث كنت ولا أزال أؤمن إيماناً عميقاً بأهمية تجسيد التحالف المصيري الحقيقي بكل قوته وأصالته بين الشعبين الشقيقين وحركتيهما التقدميتين وساهمت بقسط وافر من أجله وقد دافعت ولا أزال وساهمت بقسط وافر من أجله وقد دافعت ولا أزال أدافع عن تحقيق هذه الأمنية الحيوية وحمايتها في نطاق جهودى المحدودة رغم ما عبثت بها روح التشويه والتحريف ووضع المصاعب الجمة والتعقيدات والعراقيل الطارئة في طريقها إلى يومنا هذا خلافاً لجوهرها ولارادة كل الخيريين الطيبين... ولا يسعني إلا أن أرجو منكم السماح لي بابداء وجهة نظري عليكم بكل صراحة واخلاص حيث أعتقد بعد عودة الألوف من جماهير شعبنا المخلصين ورغم بعض المقررات الايجابية فأني أعتقد أن هناك إنخفاضاً بارزاً في مستوى الإنتاج السياسي ومردوده السلبي بصدد معالجة قضية شعبنا الكردي والعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في تشتيت وحدة حركته وكفاحه وإنهاكهما وحتى أمتصاصهما وفي تبديد ثقته وإثارة مشاعره الجريحة بدلاً من تحسس وتلمس أوجاعه وتضميدها وتفهم نفسيته وبرائته الناصعة من أوزار نفر معدود من قيادته........ واحتضانه بكل مودة ووئام وتسامح والنهوض به من كبوته واسترداد ثقته وقوته ليواكب مسيرة التحالف المصيري... كقوة رادعة ترهب جميع أعدائكم وأعدائها.... ويحسب لهما ألف حساب ويكوّنان في نفس الوقت مقومات أرقى وأقوى دولة حضارية في هذه المنطق الحساسة ذات الأهمية العالية.
فاسمحوا لي لأقول ثانية بأن مثل هذه التصرفات السلبية التي حدثت لا تتناسب وتنسجم مطلقاً مع مصلحة ومبادئ ومقرارات حزبكم ومنها بيان آذار التأريخي وما نجمت وتنجم من وراء ذلك من مزيد من النكبات والأضرار المادية والبشرية على شعبنا العراقي بأسره وقواه المسلحة واستنزاف طاقات الكفاح المشترك بين القوميتين المتآخيتين مع بعض بعضهما البعض منذ فجر التاريخ والفتح الإسلامي والحيلولة دون توجيههما ضد أعدائهما المشتركة من المستعمرين والرجعيين والمنتفعين وتقوية روح المودة والتضامن فيما بينهما وتكريس كل قواهما في التنمية والازدهار وجعل كوردستان العراق من أقوى قلاع السلطة الحصينة والمضمونة بدلاً من ابقائها حقلاً للألغام وإثارة مشاعر وهدر الطاقات في مثل هذه الظروف التي تتعرض فيها أمن ووحدة سلامة عراقنا الغالي إلى الأخطار الشديدة لغياب دور قوة ثاني القوميتين الرئيسيتين بجانب قوتكم الرادعة وأثارة مشاعر أبنائها دون أية مصحلة ومبرر ولا يستفاد من ذلك سوى أعداء الشعبين الشقيقين الأمر الذي يتطلب تفاديها بصورة ملحة وبالتي هي أحسن وبانتاج أفضل.
وبما أني أعتقد بأنه بامكاني أن أقوم بجهد مؤثر وربما إلى حد كبير فيما إذا تلقيت منكم أية أستجابة ومساعدة لائقة في مستوى حجم هذه المعضلة الكبيرة دون أن يكون لي أية غاية أو مصلحة شخصية سوى التضحية والتفاني من أجل المصلحة العامة الأمر الذي جعلني أن أتوجه اليكم برسالتي هذه راجيا التفضل بمقابلة سيادتكم من أجل هذه الغاية النبيلة مع فائق المودة والاحترام
المخلص
صالح اليوسفي)).
عجبي من مثل هذه الرسالة التي يملئها الحكمة والوقار والإرشادات والنصح لم يُحمل على محمل الجد من قِبل النظام حينها..!! وبرأي لا يدل ذلك سوى مدى الشعور بالخوف من هيبة وقوة شخصية والدي.. وسيأتي البرهان لاحقاً على ذلك من خلال بعض المواقف وردود الأفعال من صدام حسين أزاء والدي..
هكذا كان يحاول والدي مع النظام كأول مرحلة وبالطرق السلمية لكي يوصل أبناء شعبه إلى بر الأمان والسلام وإنقاذهم من محنتهم، ولكن وللأسف ولقصر النظر من جانب الحكومة العراقية حينها لم يستقبل والدي أي رد إيجابي.. وفي النهاية كان الخاسر الأكبر هو النظام نفسه الذي توالى عليه النكبات واحدة تلوا الأخرى كما توقع والدي وكما حذرهم منها..!
بعد حوالي سنة تقريباً تم رفع الإقامة الجبرية علينا، وذلك بناءاً على طلب والدي من السلطات فلم يرفضوا وتم سحب أفراد الأمن من بيتنا.
بعد أن يأس والدي من إقناع النظام بالطرق السلمية، بدأ بالمرحلة الثانية من تخطيطاته فكما يعرف الجميع وحتى نظام بغداد حينها.. إن صالح اليوسفي ليس بذلك الرجل الذي يستسلم بسهولة للواقع مهما كانت الظروف ومهما كان رد النظام ومهما كانت الصعوبات التي ستواجههُ من خلال هذه المرحلة الصعبة من أجل قضية شعبه، فالفكر السياسي والنضال هي بذرة نبتت في أعماقه منذ مراحل شبابه الأولى وإن تلك البذرة أثمرت الكثير من الإنجازات والنفس الطويل والتضحيات الشخصية، وليس من المنطق والمعقول شخصية مثل صالح اليوسفي سيتنازل عن كل تلك التضحيات وطوال أربعة عقود ليختم تاريخه نضالي هكذا دون أن يتوجها أما بتحقيق الهدف أو الشهادة.. ومن خلال هذا المنطلق أطلق والدي صرخة حركة ثورية جديدة وبسرية تامة في أيار 1976 وهي الحركة الأشتراكية الديمقراطية الكوردستانية وهو في قلب العاصمة بغداد ومن داخل بيته وبمشاركة كوكبة من المناضلين.. حيث فصمم والدي على إحياء حركة كوردية جديدة للضغط على الحكومة العراقية، وبهذا لعب دوراً بارزاً وجريئاً في وقف الأنتكاسة التي لحقت بثورة أيلول في آذار 1975 وواصل كفاحه المشهود بكافة الطرق وقام بتجميع خيرة المناضلين رغم الجراح التي لحقت بالشعب الكوردي وذلك للأرتقاء مرة أخرى إلى مطاف طموحاتهم القومية والديمقراطية في قضية شعبه..... يتبع
مصادر وهوامش:
(1)الرسالة كانت من صفحتين، ويوجد من مقتطفات رسالته وبخط يد والدي في التصميم.