الحلقة: السابعة والستون - الجزء الأول
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
الترحيل والنفي إلى الوطن...
مرت الأيام علينا كئيبة ومتوترة بعد إلتحاق والدي، فقدنا من خلال غيابه طعم الفرح بكل معناها، وأخي شيرزاد بدأ يشعر مرة أخرى بالمسؤولية الصعبة التي وقعت على عاتقه في ظل سلطة الحكومة، والمصير المجهول الذي سيواجهنا في هذه المرحلة، فتغير كل شيء في حياتنا رأساً على عقب، حتى الأقارب والأصدقاء بدأوا يخشون ويتحاشون زيارتنا، وأصبحنا مرة ثانية وكأننا نعيش في المنفى..!
ذكر الأستاذ عادل مراد: في فجر يوم 24/4/1974 داهمت مفارز الأمن العام بيوت عدد عوائل المسؤولين الكورد في بغداد فتم تجميع العوائل في مديرية الأمن العام وأرسلتهم بسيارات إلى شقلاوة ومن هناك إلى قلعة دزه في محافظة السليمانية، وكانوا عوائل السادة، صالح اليوسفي ودارا توفيق ونوري شاويس وعبد الرزاق عزيز ومحمد أمين بك ويد الله كريم وعبد مراد وحسن حسين ومظفر النقشبندي وعادل مراد، بعدها بأيام بدأت حملة واسعة لطرد مئات العوائل من السليمانية وأربيل وكركوك وخانقين وكفري وسنجار وجنوب الموصل إلى المناطق المحررة من كوردستان للضغط على الثورة وإرباك الحياة الإجتماعية هناك(1).
كنا ضمن الوجبة الأولى من العوائل المرحلة مِن مَن ألتحق أرباب أسرهم بالثورة، وكانت هذه الوجبة تضم عوائل الشخصيات السياسية البارزة في بغداد ومنهم عائلتنا، ثم تلتها وجبات أخرى ومن عدة مدن عراقية.
وقد ذكرت التفاصيل الدقيقة عن لحظات ترحيلنا من خلال خواطري وكتابي(2)، ومن أجل متابعة أصدقائي الجدد للحلقات على صفحتي، سوف أمرُّ على مراحل هذه الرحلة بأختصار حسب تسلسل الزمني لحلقاتي.
بعد حوالي شهر من إلتحاق والدي بالقيادة، حاصرت منزلنا قوات الأمن العام في منتصف ليلة 24 نيسان، وأخذوا يطرقون الباب بكل قوة، نهضت والدتي مذعورة، ونهض أخي شيرزاد وساد الخوف والقلق كلاهما..! منعت أمي أن يفتح أخي الباب، وذهبت هي لترى مَن الطارق..؟! أخبروها بأنهم من الأمن وهناك أوامر فورية بحضور جميع العائلة، بعد حوار قصير طلبت منهم والدتي أن يمنحوها مهلة لتوقضنا، خلال هذه اللحظات العصيبة والسريعة، كانت أمي حائرة.. وقد داهمتها الأفكار والهواجس..! جاءتها فكرة الأتصال بأحد المسؤولين.. وعلى العجل تذكرت السيد محمد محجوب الدوري(3)، حيث كانت أمي على علاقة صداقة طيبة بزوجته، والسيد محمد محجوب كان يقدّر والدي أشد التقدير والأحترام، فأتصلت بهم تليفونياً رغم الوقت المتأخر.. ردت زوجته على الهاتف، فشرحت لها والدتي عما يجري.. فأسرعت في الحال لإيقاظ زوجها.. تكلم السيد محمد محجوب مع والدتي.. فأخبرته أمي بأن قوات من الأمن داهمت بيتنا وتريد أن تأخذنا إلى مكان لا يفصحون عنهُ..؟! أستاء السيد محمد محجوب من هذا التصرف..! وأقسم لوالدتي بأنه لا يعرف شيئاً عن هذا الموضوع مطلقاً.. ووعدها بالأستفسار عن ذلك في الصباح الباكر لأن الوقت متأخر الآن وليس بإستطاعته أن يفعل شيئاً.. وإنهُ لن يتأخر عن المساعدة مدى الإمكان.. فشكرتهُ أمي وودعتهُ..
توقعت والدتي وأخي شيرزاد أنهم سيعتقلوننا في إحدى السجون، ربما كرهائن إنتقاماً أو للضغط على والدي، خرجنا برفقتهم مُرغمين، كانت المحطة الأولى مديرية أمن المأمون، كان هناك ضابط والشهادة لله.. أبدى الضابط أحترامهُ حين علم بأننا عائلة صالح اليوسفي، لا شك أن أسم والدي كان لها تأثير إيجابي على أي عراقي ومهما كان مركزهُ، طلب من والدتي أسماء جميع أفراد الأسرة، وبعدها أخذتنا سيارة أخرى إلى مقر أمن آخر، كان أمام بابها منشأتان فيهما مجموعة من العوائل، وكانت علامات القلق والحيرة بادية على وجوه الجميع..! وبعد أن أكتمل عدد العوائل أنطلقت بنا المنشأتين في الصباح إلى مدينة أربيل..
توقفنا لساعات أمام إحدى مراكز أمن أربيل، ثم بعدها توجهت بنا إلى شقلاوة، عندما وصلنا شقلاوة كان قد حلّ المساء، فجمعونا في إحدى البنايات المهجورة الفارغة تماماً..! وحشروا النساء والأطفال في غرفة، والرجال في غرفة ثانية، قضينا ليلتنا ونحن منهكين من الجوع والبرد وبالكاد كان يكفينا المكان للجلوس..
في الصباح الباكر طلبت النساء من الحرس بعض الطعام ليسد رمق جوع الأطفال، فلم نأكل شيئاً منذ صباح الأمس.. بالكاد أستطاعوا الحصول على بعض اللبن والخبز فقد كانت المدينة فارغة تقريباً إلا من بعض العوائل القليلة جداً، وبعد ساعات من الإنتظار أحضروا سيارات النقل (كوسترات)، أخذتنا إلى أن وصلت بنا إلى آخر منطقة تحت سيطرة الجيش العراقي، بالقرب من راوندوز، كانت منطقة حرب وكان الجنود منتشرون في كل مكان، طلبوا منا الترجل.. وقفنا على شارع خالي يمتد إلى حيث المناطق المحرمة، وأخلوا سبيلنا لكي نتوجه إلى ذلك الطريق إلى حين أن نصل لمناطق سيطرة القوات الكوردية، ويبدو من ذلك لكي يزيدوا من عبئ الثورة بتحمل مسؤولية عوائلهم.
طريق وجسر هاملتون..
كان هذا الطريق الذي سرنا فيه يدعى بطريق هاملتون، بدأنا السير لمسافة طويلة عبر الشارع.. الشباب وبرفقة أخي شيرزاد أخذوا على عاتقهم مسؤولية قيادتنا لكي يوصلونا إلى بر الأمان، فأقترح أخي شيرزاد في بداية المسير أن يرفعوا راية بيضاء، ويتقدموا القافلة لتكون إشارة تعريف منهم، فربما تتوهم البيشمركة بأن هذا كمين من قِبل الحكومة فتستهدفنا، ولكن لم يكن لديهم قطعة قماش بيضاء..! فجاءت أخي فكرة وضع فانيلة بيضاء لأحدهم، وربطوها بإحدى فروع الأشجار ورفعها أخي شيرزاد وسار مع الشباب في المقدمة ونحن خلفهم.
بعد مسافة طويلة من السير كانت هناك مفاجأة غير متوقعة..! حيث وصلنا إلى طريق مسدود تماماً..! كان المكان يقطعهُ نهر يتدفق فيه الماء بكل قوة عبر الصخور، خاصة والموسم كان فصل الربيع، وكان تيار الماء في النهر حينها يتدفق بأقوى سرعة لكثرة الأمطار وموسم ذوبان الثلوج من شهر نيسان، وفوق هذا النهر كان هناك جسراً حديدياً يدعى (جسر هاملتون)، كان قد تم نسفه كلياً..! ولا أعلم إن كان من قِبل الحكومة أو من قِبل البيشمركة، وذلك لعرقلة تقدم القوات من أية جهة على الأخرى.
أُصبنا بحالة من الصدمة والحيرة..! أمام هذا الموقف والتحدي الصعب وكأننا وصلنا إلى طريق مسدود..! حيث كان لا بد لنا من العبور إلى الجهة الثانية ولا سبيل آخر للتقدم، الجميع كانوا في أشد حالات التردد من المجازفة في عبور النهر، وبرفقة هذه المجموعة من الأطفال والنساء والمسنين..! قرروا أن يرموا الصخور في النهر ظناً بأن نقيم جسراً من الصخور للمرور فوقه إلى الجهة الثانية، ولكن هيهات..! فكلما كنا نقذف بالأحجار، كانت تجرفها المياه من شدة قوة تدفقها..! البعض أقترح أن نصعد الجبال، ولكن كان من المستحيل أن يستطيع النساء والأطفال والشيوخ من تسلق الجبال لوعورتها وعلوها وصخورها..!
كل الأقتراحات فشلت وبدأ المساء يقترب والبرد يشتد..! أخيراً وبعد أن فقدنا أي أمل في العبور إلى الضفة الأخرى، وبعد أن بلغ منا التعب والبرد والأعياء والجوع مداهُ، أقترحت والدتي أن نعود إلى المنطقة العسكرية التي أنطلقنا منها ونشرح لهم الوضع لعلهم يُوجهوننا إلى مسلك آخر..؟ لم يكن إقتراح أمي مقبولاً من البعض، حيث كانوا يخشون من العودة، ولكن أمي أخبرتهم إذا بقينا الليلة هنا فسيموت الصغار والمُسنين من البرد، وليس بإمكاننا حتى أن نشعل النار، لأن الطائرات سوف تستهدفنا إذا ما أغارت، أو ربما يستهدفوننا البيشمركة ظناً منها إنها القوات الحكومية، وغداً أيضاً سيكون حالنا كما هو..؟
رفض الأغلبية إقتراح والدتي، فقررت والدتي المجازفة والتطوع بالعودة لوحدها إلى حيث مقر القوات العراقية التي أنطلقنا منها لتخبرهم وتتفاوض حول هذه المشكلة ومصيرنا من خلالها..! وهنا أشارت إحدى السيدات لتعلن عن تأيدها لرأي والدتي وتطوعت بمرافقتها للتفاوض مع القوات العسكرية التي إنطلقنا منها لإيجاد حل لمحنتنا..
كانت تلك السيدة الشجاعة السيدة (حمدية - أم نجم) زوجة المناضل عبد مراد نجف الذي هو من خيرة المناضلين الكورد الفيليين، وصديق قريب من والدي طول رحلة نضالهما، رافقت السيدة حمدية والدتي بكل جرأة، وجعلتا نفسيهما من خلال هذه المهمة كبشاً للفداء من أجل تقرير مصير هؤلاء العوائل.
أما المجموعة التي لم توافق.. فقد تطوع من خلالهم ثلاثة من الشباب بتسلق الجبال لجلب النجدة من البيشمركة، فودّعوا أهاليهم في ظل لحظات وداع حزين والمصير المجهول الذي سيواجههم في الطريق..! وبدأوا الشباب الثلاثة برحلتهم صوب الجبال الشاهقة وهم يتحدون الصخور ووعورة الجبال..
في نفس الوقت كانت والدتي والسيدة حمدية في طريقهم إلى حيث القوات العراقية، في تلك اللحظة وقفتُ في مكاني وفي منتصف الطريق أمام منظرين متناقضين تماماً..! يميناً أنظر إلى الشبان الثلاثة الذين مضوا وهم بالكاد يتسلقون ويتحدون الصخور والجبال، ويساراً إلى أمي وهي تسير إلى حيث القوات العراقية وبصحبة السيدة حمدية..!
كان الوقت يقترب من المساء أكثر وما زلنا على نفس الحال، البرد أخذ يشتد والأطفال يبكون جوعاً وبرداً، والكبار يخشون من أن يشعلوا النار للتدفئة خوفاً من الطائرات..
وفجأة وفي هذه اللحظة سمعنا صوت هدير الطائرات الحربية..! أخذت تقصف الجبل المقابل لنا بوابل من الصواريخ والقنابل..! لأول مرة أرى الطائرات كيف تقصف على حقيقتها (صوت وصورة)، منظر مروع..! بدأت العوائل تخاف من الطائرات وقصفها ومع أشتداد البرد قرر الجميع إلى العودة حيث إقتراح والدتي... خاصة بعد رؤيتنا للسيدة حمدية تعود بكل سرعتها وهي تلوح لنا من بعيد بالعودة، وإنهما نجحتا في مهمتهما وسمحت القيادة عن تلك النقطة العسكرية بعودتنا لحل المشكلة....يتبع
ملاحظة: في نهاية حلقتي وضعت فلماً قصيراً عن جسر هاملتون ألتقطتها قبل سنتين، حيث شدني الحنين أن أزور الجسر وأعيش لحظات مع تلك الذكريات الحزينة والجميلة في نفس الوقت..! الحزينة بمعانتها والجميلة بأمل اللقاء بأبي الحبيب..
ولكن منسوب الماء كان ضعيفاً خلال زيارتي في 1/ 1/ 2017 ولم يكن تدفق المياه في ذلك النهر الصغير كما هو الحال في شهر نيسان/ أبريل، وفترة حيث الأمطار ذوبان الثلوج في موسم الربيع.. يشدني الحنين أن أعيد الكرّة مرة أخرى سيراً من المنطقة التي بدأنا منها الرحلة.. وإلى جسر هاملتون.
المصادر والهوامش:
(1)الإنطلاقـة.. من طليطلة إلى بـغداد- عـادل مــراد.
(2)خواطر من ذاكرتي - فيها صفحات من حياة الشهيد صالح اليوسفي- في أيام من الثورة الكوردية كما عشتها معهُ.
(3)محمد محجوب الدوري: وزير عراقي سابق، عضو القيادة قطرية في حزب البعث العربي الأشتراكي، ذو شخصية نبيلة ومحبوبة عند الجميع، تم إعدامه في 8 آب / أغسطس 1979 بتهمة الإشتراك بما سمي حينها مؤامرة محمد عايش.