1 قراءة دقيقة
الحلقة: السابعة والتسعون

من المؤسف أن لا يفرق البعض ما بين التحدي وما بين الجهل بمعادلات الصراع..
في بداية الحلقة أريد أن أوضح وأعلق على أحد الأساتذة ورئيس تحرير مجلة فكرية..... عن سؤاله الذي من المفروض وحسب خبرته ومركزه إنه يدرك جيداً مثل هذه الأمور ومطلع على سيرة الشخصيات والزعماء والقادة السياسيين مِن مَن أتسموا بصفات الجرأة والشجاعة وهم يتحدون الظلم والأنظمة الدكتاتورية والتعسفية في داخل بلدانهم دون خوف، وهنا برأي تأتي عظمة هؤلاء الزعماء ولا يقل دورهم عن دور الزعماء والقادة مِن مَن يناضلون في جبهات القِتال.. يتسأل الأخ رئيس تحرير المجلة.. هل كان موقف صالح اليوسفي من تأسيس الحزب في وكر العدو تحدياً أم جهلاً بمعادلات الصراع..؟
سيادة رئيس التحرير... إن عودة الشهيد صالح اليوسفي إلى بغداد ومعاودة نشاطه السياسي ضد السلطة الحاكمة هذه.. قد تكون هي بُدعة في التاريخ السياسي العراقي، وقد تكون أيضاً مصدر غرابة لدى الكثيرين وخصوصاً في ظل نظام حكم دكتاتوري مُغلق تماماً..
فالتاريخ العالمي يشهد بوجود عدد من الزعماء الوطنيين الذين قارعوا أنظمة حكم الدكتاتورية في بلدانهم تحدياً وليس جهلاً بمعادلات الصراع، وأمثال هؤلاء الزعماء هم في الحقيقة من العينات النادرة في التاريخ السياسي، رغم علمهم بأن مصيرهم سيكون أما النصر أو الشهادة أو الأعتقال، أنا لن أتحدث عن العديد من الزعماء الثوريين الذين ناضلوا من أجل حقوق شعبهم ضمن مناطق محررة في بلدانهم.. ولكني سأشير لك وسأتحدث عن زعماء وطنيين ناضلوا من أجل حقوق شعبهم وهم في قلب منطقة سلطة الحكم وتحت أيديهم.
فهناك مثلاً داعية الحقوق المدنية الأمريكية (مارتن لوثر كينك) الذي ناضل ضد التميز العنصري أتجاه أبناء جنسه في دولة تعتبر هي الأقوى في العالم وهي أمريكا، وهذا التميز العنصري كما نعرف أبتدأ منذ نشوء ما قبل تأسيس الدولة الأمريكية وأستمر لمئات السنين رغم علم هذا مارتن لوثر بأن هذا النظام متجذر في المجتمع الأمريكي.. وكان مصير هذا الزعيم المدني المسالم الأغتيال.
أما الزعيم الآخر فهو (نلسون مانديلا) الذي حارب أيضاً نظام التميز العنصري في دولة جنوب أفريقيا التي قامت أصلاً على أساس التميز العنصري الخالص فكانت بذلك هي الدولة الوحيدة في التاريخ التي تمارس وتطبق دستورياً مثل هذا النظام وذلك بأقصى وأبشع صوره العنصرية، فكان مصير هذا الزعيم الوطني هو السجن مدى الحياة ليصبح أشهر سجين سياسي في العالم، وبقي في السجن 27 عاماً.
مثالاً آخر وهو الزعيم (المهاتما غاندي) الذي حارب الأمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس من أجل وطنه الهند الذي كان يعتبر دُرة تاج هذه الأمبراطورية.
وهناك زعماء آخرون من الكورد الذين قارعوا سلطات حكوماتهم وهم من داخل أوطانهم مثل (الشيخ محمود الحفيد) مؤسس أول مملكة كوردية في السليمانية والذي تعرض إلى النفي من قِبل سلطات الأستعمار البريطاني، وهناك (الشيخ سعيد بيران) الذي قادة الثورة الكوردية في كوردستان تركيا والذي تم أعتقاله وتم تنفيذ حكم الإعدام من قِبل الرئيس التركي أتاتورك، والتاريخ فيه العديد من مثل هؤلاء الزعماء الوطنين.
على العموم أخي الفاضل لو تتبعت بعمق عن حقائق ما أشير إليه من خلال حلقاتي وعن دور والدي حينها سوف تكتشف عظمة أمثال هؤلاء العينات من الزعماء في التاريخ السياسي، وستكتشف أيضاً في معادلات الصراع كيف..؟ ومتى..؟ ولماذا..؟ تكون مثل هذه التحديات..
أخي الفاضل سيادة رئيس تحرير المجلة الفكرية... أود أن أضيف إلى معلوماتك إن جرأة الزعيم الشهيد صالح اليوسفي لم تكون وليدة الظهور ما بعد نكسة 1975.. لقد شاء المناضل صالح اليوسفي أن يستمر في نضاله ويمارس تجربة نضالية فريدة متميزة في عراق ما بعد 1958 وذلك بأن يكون زعيماً معارضاً سياسياً يعارض النظام من خلال إدارته لندوات سياسية معارضة داخل منزله المراقب أمنياً أو من خلال كتابته لرموز الأنظمة حول سياستهم الخاطئة وهذه كانت تجربة فريدة في عراق ما بعد 1958 والتي تعودت الأنظمة المتعاقبة حينها على أصوات الموالين والمصفقين فقط، وإذا تابعت الحلقات الماضية سوف ترى نفس السياسة كان يتبعها الشهيد صالح اليوسفي في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم حين كان مختفياً في قلب العاصمة بغداد وعلى مدى أكثر من عام وعليه عدة أحكام بإلقاء القبض عليه وهو يدير الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكوردستاني من أخطر فروع الحزب حينها، ونفس السيناريو واجهها والدي في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف وهو يدير جريدة التآخي في قلب العاصمة بغداد أيضاً ومقالات أفتتاحياته كانت تهز عرش النظام أزاء كل ما هو سلبي حول السياسة البلاد، وقد أغلقت جريدة التآخي عدة مرات وكانت ترفض الرقابة نشر العديد من مقالات والدي في الجريدة وكاد أن يعتقل ويغتال في أي وقت، وأعتقل فعلاً بعد أشهر قليلة من إنقلاب 1968، وحتى بعد أتفاقية 11 آذار 1970 ظل والدي على نفس النهج، ولم يتوانى أو يتردد حين واجه فرع الحزب الديمقراطي الكوردستاني للمشاكل في مدينة بعقوبة، ورغم أن والدي كان حينها وزيراً في حكومة العراق لكنه حذرهم بكل جرأة من خلال هذه الجملة فقط حين قال: أنظروا إذا أنتم حكومة فنحن ثورة..! فهل بعد هذا كلهُ تشك بأن يليق عقلاً بزعيم وقائد مثل الشهيد صالح اليوسفي وهو زعيم وسكرتيراً لحزبه المسلح في الجبل وهو يصدر توجيهاته من قلب العاصمة..؟!
وليس هذا فقط بل حتى كان يكتب أهداف وتخطيطات وبرنامج الحزب، وحتى حوار المفاوضات مع حكومة النظام كتبها بنفسه، وكان الشهيد علي عسكري على رأس الوفد المفاوض في صيف1977(1).
وهنا سيتوضح لك أيضاً من خلال معادلات الصراع عن الكثير من الزعماء والقادة مَن كان يعمل من أجل قضية وحقوقه شعبه بإخلاص ونزاهة.. ومَن كان يعمل من أجل السلطة والزعامة والمصالح الذاتية.
ولعلمك لم يتحدى والدي نظام بغداد فقط وهو في العاصمة بغداد بل تحدى الأحزاب التي كانت قياداتها وزعمائها في المناطق المحررة حينما كان يرى منهم أية مجابهة سلبية أزاء حزبه، وهذه هي أرقى مشاعر الثقة لا بالنفس فقط بل وحتى بقضيته العادلة.. فأين نحن الآن من أمثال هؤلاء الزعماء العظام..؟!

ما بعد نكسة 1975
كلنا نعرف عقب نكسة 1975 حصل شتات وتشتت داخل الحزب والحركة الكردية بدءاً من رأس الهرم وحتى أسفل القاعدة، بعد أن قرر الزعيم البارزاني إنهاء المقاومة في يوم 19 آذار 1975 بسبب ضغوطات الشاه، وفي يوم 25 آذار 1975غادر الزعيم أراضي كوردستان العراق إلى إيران، وقد أشتد المرض على الزعيم وزداد مع هذه الظروف مما أضطر إلى السفر بعد مدة إلى أمريكا للعلاج، وخلال هذه الفترة العصيبة كاد أن لا يكون للحزب وجود سوى مَن بقى في مخيمات اللاجئين في إيران خوفاً من العودة، والقسم الآخر (هاجوا وماجوا) وأصيبوا بإحباط وخيبة أمل، ويذكر الأستاذ عادل مراد نحو وضع الحركة الكوردية بعد نكسة 1975 قائلاً: (( كان لإنهيار الحركة الكردية عام 1975 دور في خلق حالة من الهزات النظرية في فكر النخب السياسية الكردية، ليس في العراق فحسب بل حتى في بقية أجزاء كردستان..)).

تأسيس الحركة الأشتراكية الديمقراطية الكوردستانية
عبر رحلة حياة والدي السياسية ومنذ تأسيسه لجمعية بروسك وللأحزاب الكوردية مروراً بحزب هيوا ثم رزگاري كورد، ثم الحزب الديمقراطي الكوردستاني وإلى حين النكسة، فمن خلال هذه المسيرة النضالية الطويلة والخبرة السياسية من مراحل تأسيس الأحزاب كان والدي يؤمن إنه من الضرورات التاريخية يتطلب تأسيس حركات أو أحزاب جديدة تتوافق وشروط تأسيسها مع الأحداث الجديدة والتي كانت تتقلب دائماً أمام الشعب الكوردي.. وهذا شيء طبيعي، لذا قرر والدي خلق قيادة جديدة يؤمن بها الشعب ويحيي الثورة من جديد، ونقلاً عن الأستاذ عادل مراد عن دور والدي وحركته الجديدة قائلاً: (( دعى الشهيد صالح اليوسفي إلى أجتماعات سرية في صيف 1975، مع عدد من الكوادر الأساسية للثورة الكردية، لتدارس الأوضاع ودشن لقاءاته السرية بالسادة (علي العسكري، رسول مامند، نور الدين عبد الرحمن، الدكتور خالد سعيد، عمر مصطفى دبابه، الشيخ محمد شاكلي، نجم الدين كلي، طاهر علي والي، سيد كاكه سيد اسماعيل، سعدي عزيز كجكه، اللواء عزيز عقراوي، ملا ناصح اسماعيل سيد أحمد، علي عبد الله علي (علي هزار)، عارب عبد القهار (كاردو كلاللي)، عبد الرحمن كومشيني، يد الله كريم وعن طريق هؤلاء تم تدارس الأوضاع مع المئات من المناضلين منهم سيد مجيد ومحمد بحركة ومام ياسين والد بهروز كلالي والعريف عثمان والعريف سليم وأحمد حاجي علي ومامه حمد أمين وأحمد ماهي وسليم أغوب والملا عمر حويزي وسعد عبد الله وسيد سليم روزاندوي... وآخرين على إنفراد أو عن طريق شخص ثاني.. وقد تقرر تنظيم الكوادر للتصدي سلمياً للأجراءات العنصرية للنظام، وتقرر تشكيل تنظيم بأسم (الحركة الاشتراكية الديمقراطية الكردستانية) وكان من المقرر الإعلان عن الحركة في 1/1/1976 إلا أن عدم أكتمال الأستعدادات اللازمة أرجأ الاعلان إلى موعد لاحق، إذ لم يتم الاتصال بالعديد من كوادر الثورة السابقين الذين بقوا في مخيمات اللاجئين في إيران بشكل خفي، حيث كان الساواك (مخابرات الشاه) يراقب الأوضاع عن كثب ويقمع كل حركة مناوئة لأتفاقية الجزائر ونظام صدام حسين.. وقد طلب الشهيد المؤسس صالح اليوسفي من المناضل الكردي الإيراني (كريم حسامي) التوجه إلى بيروت والأتصال بالسيد صلاح بدر الدين (من كبار سياسي الكوادر في سوريا) لطبع البيان التأسيسي للحركة هناك، وتم طبع البيان (على أوراق ملونة - كما أتذكر) في بيروت وقد وزع البيان وفي وقت واحد في كل من بيروت وبغداد وبعض العواصم الأوربية وذلك في آب 1976 وحمل البيان أسم (الحركة الاشتراكية الديمقراطية الكردستانية) الذي تغير أسمه لاحقاً إلى (الحزب الاشتراكي الكردستاني(2))...يتبع

مصادر:
(1)طلب صدام حسين التفاوض مع الحركة الكوردية المسلحة الجديدة، لأحتوائها والحد من طموحاتها وتحجيمها، وكان ذلك بعد أن سافر في القيادي علي العسكري إلى بغداد بطائرة مروحية والتقى بصدام حسين وعرض مطالب الحركة الكردية على الحكومة والتي كانت تتمحور في ثلاث نقاط.. اتصل بالقائد علي العسكري واستقبله في بغداد في تموز 1977 لأجراء مفاوضات ثنائية.
1-تطبيق الحكم الذاتي في كردستان العراق.
2-صدار قانون الاحزاب بهدف اشاعة الديمقراطية في البلاد.
3-تطبيع الاوضاع على الحدود العراقية الايرانية والعراقية التركية واعادة سكان القرى المهجرة الى مناطقهم... رفض صدام حسين المطالب الكردية ففشلت المفاوضات ورجع علي العسكري الى منطقته - الأستاذ عادل مراد.
(2)عادل مراد - كوردستان والاتحاد الوطني الكوردستاني ... تأريخ وأفاق

تم عمل هذا الموقع بواسطة