الحلقة السابعة والأربعين
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
ذكرتُ في الحلقة السابقة بأن الأتحاد السوفيتي لعبت الدور الرئيسي في إنهاء الأقتتال ما بين حكومة بغداد والقيادة الكوردية وتمخضت بأتفاقية 11 آذار 1970 التاريخية، رغم محاولات الشاه ضدها..! هذا بالإضافة إلى شعور حكومة بغداد أيضاً بأنها بحاجة لوقف القتال في كوردستان العراق، لعدة أسباب منها تصفية خصومها في الداخل وهم كل من القوميين العرب، والجناح اليساري لحزب البعث (الموالين إلى سوريا)، والحزب الشيوعي العراقي، كما أن علاقة النظام كانت قد أتجهت إلى بعض العداء مع الشيعية والمرجعية والحوزة العلمية في العراق لأسباب ومواقف معادية من المرجعية لسياسة النظام وتسنم البعث لقيادة البلاد.. لذا كانت هناك العديد من المشاكل التي يتطلب إيجاد حلول لها لبقاء النظام في الحكم..
شرخ العلاقة بين حكومة بغداد وجماعة جلال الطالباني..
قد يتسأل البعض لماذا إذن تحول قرار الحكومة فجأة الطلاق من جماعة جلال الطالباني والتمسك بالقيادة الكوردية..؟! رغم أن الجلاليين كانوا موالين لهم وتوفقوا في عدة مواجهات ضد القيادة الكوردية..؟!
يذكر الأستاذ شكيب عقراوي حول هذه النقطة وهذا السبب ولا أستطيع أن أقيم وفق تصريحه هذا ولكن لابد المرور عليها، يقول العقراوي: (( في شهر كانون الأول / ديسمبر 1969 ظهر على السطح منشور باللغة الكوردية يتهجم فيه على حزب البعث الحاكم ويشير إلى نية بعض الضباط الوطنيين في الجيش العراقي للقيام بحركة عسكرية ضد حزب البعث الحاكم في العراق)، وكانت هذه النشرة تشير إلى أنها صادرة عن الحزب الديمقراطي الكردستاني (جناح جلال الطالباني)، وقد جرى توزيع المنشور في بعض الأماكن والتقطته أجهزة الأمن والأستخبارات العسكرية في مدينة أربيل، وقد سبب ذلك حصول شرخ في العلاقات بين قيادة حزب البعث في بغداد وجماعة جلال الطالباني ومهد ذلك السبيل إلى تحسين في العلاقات بين قيادة حزب البعث والزعيم مصطفى البارزاني (1)).
عودة والدي..
عاد والدي وكانت فرحتنا لا توصف بهذه العودة السعيدة، وتوافد العشرات من الضيوف وأبناء الشعب الكوردي ومن كافة المحافظات إلى بيتنا وعلى مدى أيام للترحيب بقدومه، وأخذت أمي ولأول مرة تفصّل لنا الملابس الكوردية أحتفاءاً بهذه المناسبة السعيدة، خاصة وقد بدأت الأحتفالات بأعياد نوروز بعد أيام من إعلان الأتفاقية، الأحتفالات مستمرة نهاراً في منطقة صدر القناة ومساءاً على مسرح (قاعة الخُلد) في بغداد، وكان والدي يشارك في أغلب هذه الأحتفالات بإلقاء كلمة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وقام والدي خلال شهر نيسان من نفس العام في عدة جولات رسمية في منطقة بهدينان وأستقبل بحفاوة بالغة من قبل المسؤولين والشعب.. شعر جميع العراقيين بعربه وأكراده وأقلياته أن بيان 11 آذار/ مارس 1970هو نصراً تاريخياً رائعاً، وكذلك قامات الأحتفالات في كافة المحافظات الوسط والجنوب من العراق.
تشكيل الوزارة الجديدة بعد أتفاقية 11 آذار / مارس 1970، في 29 آذار 1970
أناطت السلطة برئيس الحزب وقيادته في أمر توزيع المناصب مع أحتفاظها بحق التغيير أو التبديل، فكانت القيادة ترشح الأسماء للمناصب المختلفة وتعرضها على الزعيم البارزاني.
تشكلت الوزارة الجديد للحكومة العراقية أثر الأتفاقية وأدخلت خمسة وزراء أكراد فيها:
صالح اليوسفي وزيراً للدولة، نوري شاوه يس وزيراً الإسكان، نافذ جلال وزير الزراعة، إحسان شيرزاد وزير البلديات، محمد محمود عبد الرحمن وزير شؤون الشمال
ومن السفراء الأكراد:محسن دزه يى سفير العراق في جيكوسلوفاكيا، عبد الرحمن القاضي سفير العراق في أندونيسيا.
ومن المحافظين الأكراد:
علي عبد الله محافظ السليمانية، عبد الوهاب الأتروشي محافظ أربيل، هاشم عقراوي محافظ دهوك
كما تم تعيين مدراء شرطة، رضا كولاني مدير شرطة أربيل، كمال غريب مدير شرطة السليمانية، ومدير لشرطة دهوك ومدراء للتربية ونواب المحافظين في كل من أربيل وسليمانية ودهوك من الأكراد وتعيين القائم مقامين ومدراء النواحي في المحافظات الكوردية الثلاثة رشحهم حزب الديمقراطي الكوردستاني، كما قرر إعادة أفراد الشرطة الملتحقين الضباط الأكراد في الجيش والشرطة إلى الخدمة، وتم تعين قائمقام كردي لقضاء جمجمال الملحقة بمحافظة كركوك، وعين نائبي المحافظ من الأكراد في محافظتي كركوك والموصل وتعيين معاونين لمدراء التربية للدراسة الكردية في موصل وكركوك وديالى.. كما جرى تشكيل 7 أفواج لحرس الحدود من منتسبي قوات الثورة الكوردية شملت ستة آلاف من المقاتلين الأكراد(3).
تقيم صالح اليوسفي حول أتفاقية 11 آذار 1970
قيَّم والدي هذه الإتفاقية تقيماً عالياً وقال: ((لقد كانت إرادة شعبنا وطلائعه التقدمية حازمة رائعة وعلى مستوى الأحداث في مطلع عام 1970 والمنتهية بتتويج البيان التاريخي فبددت الأحلام السوداء التي كانت تراود قوى الشر والوقيعة والأنتفاع وكل أعداء السلم والأستقرار وأن تطوح بها فأحرزت نصرها المؤزر في الحادي عشر من آذار بحل معضلة شعبنا الكوردي ومنحه الحقوق المشروعة بما فيها الحكم الذاتي ضمن الجمهورية العراقية، هذا الحدث التاريخي الذي كان حصيلة جهود مضنية ونظرة مضيئة وحكمة عالية ساهم فيه شعبنا العراقي العزيز وقواه الوطنية.. وبمساندة كل أصدقاء شعبنا فوقفت بحرص وإخلاص ضد الأراء والمنطلقات الشوفينية وعملت ما بوسعها العمل لتغليب روح الحكمة والتبصر والمحبة والإخاء بدلاً عن روح التعالي والأنفعال والجحود بالحقوق القومية المشروعة لشعبنا الكردي ووضعت هذه الإرادة الخيرة والقاعدة الصلدة من تصميم الأخوة العربية الكردية الذي سيشاد فوقها صرح عراقنا الحضاري المتطور فكان نقطة تحول كبرى في تاريخ وطننا العراقي وبداية مشرقة للتآخي والصفاء والوئام..
وإننا نعتقد جازمين أن تضامننا وتحالفنا الوطني الواسع كفيل بتحقيق آمال شعبنا وإننا نعاهد شعبنا العراقي بعربه وأكراده وأقلياته المتآخية على الإيفاء بالتزاماتنا الوطنية تجاهه ونسعى جاهدين مع رفاقنا وكل المخلصين الأخيار من أجل تحقيق رغبته العارمة في الحرية والديمقراطية والتقدم الأجتماعي وترسيخ الوحدة الوطنية وتعميقها لضمان المزيد من الإنجازات والمكاسب.. (2))) وكان والدي يربط ويعتبر الحركة التحررية الكوردية جزءاً من حركة التحرر العالمي لذلك أكد مراراً: (( بأن شعبنا الكوردي يعتبر حركته النضالية جزءاً من حركة تحرر الشعوب في العالم وقد ناضل ببسالة من أجل السلام وحق تقرير المصير.
ومن المناصب الأخرى التي رشح والدي لها كانت جريدة التآخي.. فبعد أتفاقية 11 آذار، عاودت جريدة التآخي الصدور وكان هناك أقتراح من القيادة بأن يتولى صالح اليوسفي الإشراف عليها.. حيث يذكر الأستاذ جرجيس فتح الله قائلاً: (( دخل غرفتي الصديق (الشيخ محمد هرسين) وكان عضواً في اللجنة المركزية للبارتي وقال لي: صدر قرار اللجنة المركزية والمكتب السياسي بأقتراح البارزاني بإسناد مسؤولية رئاسة تحرير التآخي إليك على أن يكون (صالح اليوسفي) صاحب الأمتياز.. فما قولك..؟
أجبتهُ: الخبر بإسناد هذه المهمة إليّ ليس بجديد كما تعلم إلا أني أود أن يكون حبيب كريم صاحب الأمتياز بدلاً من (صالح اليوسفي) فصالح صديق قديم وهو الذي حبب إليّ الإنضواء إلى الحزب منذ عام 1948 وقد عملنا معاً وبيننا أحترام متبادل، وأنا أخشى من عنادٍ فيه ومحاولة فرض معين على سياسة الجريدة بواقع كونه رئيساً لتحريرها عند صدورها لأول مرة (في عام 1967) وهو يعد وزير ولا أظن القانون يجيز لهُ ملكية صحفية حزبية لذلك أرجو أن تبعدوهُ عنها، قال بأختصار: مَن تريد إذن..؟
قلت: حبيب..(وقد أكد الأستاذ جرجيس أن حبيب كريم هو الذي طلب وترجى منه ذلك وقد ذكر الأستاذ جرجيس تفاصيل ذلك في كتابه (زيارة للماضي القريب).
قال: فليكن حبيب وقفل راجعاً لينبئني بعد قليل أن الأمر تم كما شئت.
كيف تم..؟ لا أدري ولم أسأل أحداً، كيف أستقبل اليوسفي رفضي..؟ إنهُ لم يبدِ والحق يقال أي شيء ينم عن إنزعاجه، كان اليوسفي بطيبة قلبه وصفاء سريرته يسمو على جميع أقرانه ومع هذا لم يسلم من كيد محورٍ قيادي داخلي سيأتي الحديث عنهُ بالتفصيل(4)، وأعتبر صالح اليوسفي رفضي أن يكون صاحب أمتياز خدمة مشكورة، فقد رأى لسلامة نيته بأني فعلتُ ذلك من أجله حسب قوله رحمه الله (5))).... يتبع
المصادر والهوامش:
(1)سنوات المحنة في كوردستان – شكيب عقراوي - ص 287
(2)مقتطف من خطب صالح اليوسفي بمناسبة أتفاقية 11 آذار 1970.
(3)سنوات المحنة في كوردستان – شكيب ص 304
(4)جرجيس فتح الله، عضو السابق في اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني (زيارة للماضي القريب) الطبعة الأولى/1977 - ص 157
(5)نفس المصدر السابق – ص160