الحلقة: التاسعة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
أحداث عام 1979 (الجزءالأول)
جاء عام 1979 وهو يحمل بين طياته الكثير من الأحداث والمفاجأت سواء ما يخص الحركة التحررية الكوردية في العراق أو ما يخص سياسة ونظام العراق، أما بالنسبة لوالدي ونشاطه السياسي فالأعتقال لم يمنعه من مواصلة مسيرة نضاله الثوري، بل ظل مستمراً عليه وبأصرار وشجاعة، وسيأتي الحديث حسب التسلسل الزمني لهذه الأحداث في هذا العام.
في مساء الأول من آذار/ مارس 1979 وبينما والدي يستمع إلى الأخبار العالمية عبر المذياع، وإذا به يسمع عن خبر وفاة الزعيم ملا مصطفى البارزاني (رحمه الله) وكان وقع الخبر مُحزنا علينا جميعاً، وظل والدي حزيناً لعدة أيام وكنت أشعر من خلال صمته وكأنه يسترجع سلسلة ذكرياته النضالية الطويلة برفقة الزعيم، ونحن بدورنا أحترمنا مشاعره وخلوته.
أتسمت حياة والدي السياسية في هذه المرحلة الجديدة بالكثير من ألوان التحدي والصبر، حيث شعر لأول مرة منذ أن بدأ حياته السياسية بأنهُ يحمل على عاتقه مسؤولية تحدي السلطة بكل جبروتها ويحمل عبئ مصير الآلاف من الكورد الذين دخلوا مرحلة جديدة تحت ظلم السلطة الحاكمة، وقد وجدت الكثير من الجماهير والشخصيات الكوردية أن وجود صالح اليوسفي في بغداد هي فرصة طيبة ومتنفس لهم ليظهروا بعض من مشاعرهم نحو قضيتهم القومية وسماع ما يجول في أفكار والدي حول المستقبل القادم..
أستمرت أغلب الشخصيات الوطنية من المناضلين الكورد على زيارات والدي حتى بعد علمهم بأعتقاله وبمراقبات النظام لهُ، وكانوا يدركون جيداً بأنهم يغامرون ويجازفون بحياتهم بهذه الزيارات في ظل سلطة غارقة في الدكتاتورية من رأسها إلى أخمص قدميها خاصة بعد أن تولى صدام حسين زمام الأمور والسلطة في صيف 1979، يذكر الأستاذ شيرزاد محمد صالح جبرائيل:((لقد عشت قريباً جداً من الشهيد والدكم وأقدر أكثر من غيري ما قدمه لشعبه وأدرك نزاهته المنقطع النظير وأدرك كم كان يتمتع ببعد النظر، وتعلمت منه حب الآخرين دون تفرقة، لم أبتعد عنه أيام ثورة أيلول 1974 ولم أبتعد عنه بعد نكسة 1975 بل كنت أزورهُ في بغداد، وفي حينه قال لي أحد الأصدقاء وهو يوصلني إلى قرب داركم أنزلني على بعد 2 كم خوفاً من أن يتهم بأنه أقترب من داركم وقال لي بالحرف الواحد: هل أنت مجنون لتقوم بزيارة سيدا صالح وبيته مراقب من قبل مخابرات صدام..؟! وكان جوابي لهُ.. لقد عاشرناهُ صديقاً لوالدي، كنت أزورهُ عندما كان وزيراً في بغداد واليوم غيرة الرجولة لن تسمح لي بنسيان هذا الإنسان العظيم وسوف أستمر بزيارته وليكن ما يكون.. وفعلا كان بيتكم تحت المراقبة الشديدة من مخابرات صدام، فكيف أنساه اليوم نعيش أحرار في كوردستان ومبادئه في الوطنية والنزاهة وحب الناس مغروسة في عروق..)).
المراقبات الأمنية علينا لم تمنع المخلصين من المناضلين من المواصلة من أجل قضية شعبهم وبأي ثمن كان، فكانوا يستلهمون من والدي الجرأة والشجاعة والنفس الطويل والنضال من أجل تحقيق الهدف (وعلى التاريخ الكوردي أن يطرز أسماء هؤلاء المناضلين بماء الذهب) وعلى رأسهم الشهداء الأبرار صالح اليوسفي ودارا توفيق وعلي هزار وكاردو كلالي ولقمان البارزاني وشوكت عقراوي وبرهان مرشد وآخرين.. وقد أشرت إلى أسماء هؤلاء المناضلين من المنتمين إلى حركة والدي لأنهم أستشهدوا بأيدي السلطات القمعية لنظام صدام سواء بخطفهم مثل كل من دارا توفيق وعلي هزار وكاردو كلالي.. ناهيك عن مدى ما تعرضوا من تعذيب ودون معرفة مصيرهم لحد يومنا هذا..! أو بتسميمهم مثل المهندس شوكت عقراوي ولا شك آخرين(1) وقد حاولوا نفس الطريقة مع والدي، أو مِن مَن تعرضوا لحوادث السيارات والدهس مثل المناضل برهان مرشد ومحاولات عدة لدهس المقدم عزيز عقراوي ولكنهُ أستطاع الهروب من بغداد، أما عن الكوادر وأعضاء حزب والدي الذين أستشهدوا من خلال أقتتال الأخوة فيفوق عن هؤلاء الشهداء الذين أغتيلوا بأيدي النظام أضعاف ذلك للأسف..!
أزدادت زيارات المقدم عزيز عقراوي لمنزلنا، وكان غالباً ما يُدخل سيارته في كراج بيتنا لإخفائها تحذراً من المراقبات، وكانت أغلب زيارته تتم في أوقات الظهيرة وكان يبدو عليه القلق والخوف على غير عادته ويقضي بصحبة والدي عدة ساعات، بعد فترة تمكن عزيز عقراوي الفرار من خلال محاولة مُباغتة للحكومة العراقية، ثم بعدها أذيع في نشرات الأخبار العالمية نبأ فراره من العراق طالباً اللجوء السياسي في سوريا، وكان نجاحه في هذه الخطوة مفاجأة مخيبة للحكومة العراقية، فقامت بأستدعاء عائلته والتحقيق معها وطلبت منهم أعلان البراءة منه عن طريق وسائل الإعلام .
نقلاً عن الأستاذ بلند المفتي ونقلاً عن حرم المقدم عزيز عقراوي (السيدة فضيلة):(( قامت الحكومة العراقية بتدبير خمسة محاولات لأغتيال عزيز عقراوي عن طريق محاولات لدهسه أو بحوادث لسيارته..! كما أضافت.. عند محاولة زوجها الخروج من العراق بطريقة رسمية دعى بأن سفره كان لحضور مؤتمر خارج العراق، وبعد هروبه تم أعتقال مدير عام الجوازات آنذاك وإعدامه لأن المقدم عزيز عقراوي لم يكن يمتلك موافقة حكومية رسمية على سفره كما كان ينص القانون..)).
كان والدي على علم بهرب عزيز عقراوي حيث كان قد أخبرهُ مسبقاً بتحرشات الحكومة بمحاولات أغتياله، وكان والدي سعيداً بنجاحه في هذه الخطوة، إن علاقة والدي بالمقدم عزيز عقراوي هي علاقة ثقة وصداقة قوية منذ بدايات الستينيات، إضافة إلى ذلك أصبحت لنا علاقة عائلية، حيث أن (السيدة فضيلة - زوجة المقدم عزيز) هي خالة الأستاذ شكيب عقراوي(زوج أختي نارين) وكان عزيز عقراوي سعيداً بلقاء والدي مرة أخرى بعد نكسة 1975 نظراً لمحبته وتقديره الشديد لوالدي، وكان يزورنا بأستمرار دون خوف أو وجل.. وعن بدايات لقاء والدي بالمقدم عزيز عقراوي بعد نكسة 1975 يذكر الأستاذ مير عقراوي الذي ألتقى بالمقدم عزيز عقراوي عام 1983 في مدينة قم الإيرانية وبعد الحوار والسؤال عن والدي وعن الحركة التي أسسها أجابه المقدم عزيز عقراوي:((بعد أكثر من لقاء لي مع صالح اليوسفي في بيته في بغداد، قال لي: أنا بصدد تأسيس حزب كردستاني يختلف فكراً وثقافة وقيادة عن الحزب الديمقراطي الكردستاني وغيره، وفي هذا الشأن أريد منك المساعدة والعمل سوية في هذا الأمر.. فأتصلت بدوري ببعض الشخصيات الكردية مثل رسول مامند وأخبرته فوافقوا على الموضوع..)).
بعد أن وصل عزيز عقراوي إلى سوريا طلب اللجوء السياسي ثم حاول الأقتراب من الحركة الأشتراكية الديمقراطية في المناطق المحررة كعضواً من أعضائه في قيادة الحركة بعد مشاركته مع والدي في هذا النشاط والتأسيس منذ البداية، إلا أن المشاكل والمعادات وواقعة هكاري ووجود بعض الأعضاء من الموالين للأتحاد الوطني حال دون أن يستطيع المقدم عزيز عقراوي التوافق معهم، خاصة وكانت هناك معادات شخصية ونفور ما بينه وبين مام جلال، فترك الحركة الأشتراكية وأتجه نحو جماعة الأحزاب الكوردية في باكور وروز آفا كوردستان، ثم ترك السياسة لفترة ورحل إلى مدينة قم في إيران وكان يرحل ما بين إيران ولندن وسوريا...
هنا أود أن أتقدم بالتاريخ إلى الأمام وأتحدث عن المناضل عزيز عقراوي الذي أنقطعت عنا أخبارهُ منذ عام 1979 إلى أن جاء عام 1991 بعد إعلان المنطقة الآمنة في كوردستان من قبل الحلفاء عُقب أنتفاضة 1991، ففي أحد الأيام من نهايات ربيع 1991 جاء العم عزيز عقراوي لزيارتنا وهو يرتدي الزي الكردي وملثما، وتشاء الأقدار أن أفتح لهُ الباب، كانت زيارته الأولى إلى كوردستان العراق منذ عام 1979 لم أتعرف عليه وهو بتلك الهيئة الغريبة..! فسألني عن والدتي وأخي شيرزاد فناديتهما. رحبت به والدتي وأخي شيرزاد كثيراً وأخبرتني والدتي كيف لم تتعرفي على عمك عزيز عقراوي..؟ فقبل رأسي وأخذ أخي شيرزاد بالأحضان بكل شوق وأنهارت دموعه في لحظة صمت لم أنساها..! وأنهارت دموعنا جميعنا ونحن نتذكر والدي.. كان موقفاً ومؤثراً جداً وكأنهُ أعاد علينا ذكرى رحيل والدي، أخذ يتحدث لهما عن الكثير مما صادفه طوال هذه السنين بعد هروبه من بغداد وبعلم والدي وتشجيعه، ثم عبر عن مدى تأثره البالغ بأغتيال والدي، وكيف تعرض حزبه للنكسات والمعاناة والمكائد من بعده..؟!
كان العم عزيز سعيداً جداً بلقاء أخي شيرزاد، وتكررت زياراته لأخي، حيث كان العم عزيز بصدد مشروع تأسيس حزب وعرض الفكرة على أخي شيرزاد حيث كان أمله في شيرزاد كبيراً لكي يحل محل والدي.. بالرغم من أن أخي شيرزاد لم يميل إلى السياسية ولكن كان للعم عزيز تأثيراً كبيراً في تشجيعه (وستأتي التفاصيل في مناسبة أخرى)، ولكن للأسف في 16 نيسان/ أبريل 1993 تفاجئنا بحادثة وفاة أخي شيرزاد الغامضة والغريبة..! وبعدها أنقطعت زيارات العم عزيز عقراوي لنا وأنقطعت عنا أخبارهُ إلى أن سمعنا لاحقاً بوفاته في بلاد الغربة (رحمه الله) وعرفتُ لاحقاً أنهُ تأثر أشد تأثير بوفاة أخي شيرزاد، ومن حينها ترك هدفه وحلمه الذي كان يعمل من أجل تحقيقها ليعيد شخصية صالح اليوسفي على الساحة السياسية والحركة الكوردية من خلال أبنه.
في نفس الفترة من نهايات السبعينيات حاول المناضل الشهيد لقمان البارزاني، الذي بدوره كان يواظب على زيارات والدي بأستمرار، أن يفر من العراق ولكن للأسف لم ينجح في مسعاه حيث ألقت القبض عليه من خلال محاولته ولحد الآن لم يعرف عن مصيره... يتبع
هوامش:
(1)ذكر الأستاذ صباح مصطفى صالح رسول:((أختي العزيزة زوزان بعد التحية ومزيداً من الأحترام، أود أن أذكر قصة والدي المدعو مصطفى صالح رسول وهو صديقاً للعم الشهيد المناضل صالح اليوسفي منذ الستينيات والسبعينيات كما كان أيضاً صديقاً للشهدين دارا توفيق وشوكت عقراوي، بعد عودتنا إلى العراق من إيران بعد نكسة 1975 كان والدي يزوركم بأستمرار في بغداد، توفي والدي في بغداد في سنة 1982 في ظروف غامضة ومرض غريب، أنا متبع خواطرك بكل إعجاب أرجوا أن تستمري على هذا الدرب والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار)).