1 قراءة دقيقة
الحلقة: الرابعة بعد المائة_ الحلقة: الحادية عشر بعد المائة

الحلقة: الرابعة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

في عام 1978 واجه والدي محنتين خلال مرحلة نضاله السياسي في تلك الفترة، المحنة الأولى كانت واقعة هكاري في صيف 1978، والثانية كان أعتقال والدي في خريف 1978.
لا بد من العودة مرة أخرى قليلاً لكي نوضح بعض الأحداث والظروف والأخطاء التي حدثت خلال هذه المرحلة التاريخية المهمة من نضال الشعب الكوردي.
كانت الفترة ما بعد نكسة 1975 تعتبر من أصعب الفترات والمراحل التي مرت على تاريخ السياسي للحركة الكوردية، لا على صعيد الحركة الكوردية في كوردستان العراق بل وحتى أثرت في باقي أجزاء كوردستان، فحصلت من خلالها مستجدات على الساحة السياسية الكوردية بشكل عام وعلى الساحة السياسية في كوردستان العراق بشكل خاص، وبما أن مصيرنا يرتبط مع بعضها البعض لابد من التطرق ولو بشكل عابر إلى تلك التغيرات التي توقعها والدي وأشار إليها في عدة مناسبات.
ففي باقي أجزاء كوردستان نرى إنقسام الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا إلى عدة أحزاب، وفي كردستان تركيا ظهرت مجموعة من الأحزاب الكردية ذات نهج ماركسي، وفي إيران ظهرت جماعة (كومله) إضافة إلى حزب الديمقراطي الكردي الإيراني، أما في كوردستان العراق وكما أشرت في الحلقات السابقة فقد تشتت القيادة الكوردية بعد النكسة المؤلمة عام 1975، وبعد فترة أضطر الزعيم ملا مصطفى البارزاني السفر إلى أمريكا للعلاج بعد أن أشتد به المرض برفقة نجليه السيدين مسعود وأدريس البارزاني والسيد محسن دزه يئ، أما القيادات الأخرى فالبعض منهم غادر إلى بيروت ومن ثم قرروا العودة إلى العراق والبعض الآخر لجأوا إلى الدول الغربية والبعض أستقروا في سوريا.
وكما أشرت في الحلقتين السابقتين ظهرت حركات وأحزاب ومنظمات في كوردستان العراق، كالحركة الأشتراكية الكوردستانية التي أسسسها والدي مع قيادات مناضلة سياسية وعسكرية، و(الكومله - عصبة كادحي كردستان) بقيادة الشهيد آرام، وفي داخل حدود سوريا تأسس الحزب الأتحاد الوطني بقيادة السيد جلال الطالباني.
أما بالنسبة للحزب الديمقراطي الكردستاني ففي نهاية عام 1975عاد الحزب نشاطه على الساحة السياسية وتأسست القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة السيدين مسعود وأدريس البارزاني والسيد سامي عبد الرحمن، وفي عام 1977 تأسست اللجنة التحضرية للحزب الديمقراطي الكوردستاني برئاسة الدكتور محمود عثمان، ولا أعرف أسباب هذا الإنقسام في الحزب.. هل كانت بقرارات ودوافع شخصية أو بتحريض من الدول الأقليمية أو بالتدخلات الخارجية.. ولكن على كل حال فأنا أستغرب..! فقد عرض والدي بعد أتفاقية 6 آذار 1975على القيادة ونصحهم بأن يستمروا في القيادة والمقاومة.. ولكن رفض أقتراحه بكل إصرار..! ثم بعد أشهر قليلة وفي نهايات 1975 عادوا إلى تطبيق أقتراح والدي..؟!

هذه التجزئات التي حدثت في واقع الحركة الكوردية الجديدة حينها، كانت تسعد أنظمة الدول الثلاثة (تركيا وإيران والعراق) فتعاونت هذه الدول الثلاثة لغرض إضعاف وتهميش الحركة الكردية ومنع ظهور ثورة كردية شعبية موحدة قوية كما كانت سابقاً، وحاولت على خلق المشاكل والخلافات بين الأحزاب والتكلات الكردية التي ظهرت سواء علناً أو في الخفاء وأخذت تحرضهم على الأقتتال الأخوي وإشعال نار الفتن فيما بينها لكي لا يستطيع حزب واحد من السيطرة على الساحة السياسية والعسكرية ويكتسب القوة والأستمرار، وكانت الأجواء حينها وبسبب النكسة مساعدة على خلق مثل هذه المشاكل والخلافات للأسف، حيث ظهر طموح لدى بعض القيادات للأستحواذ على السلطة وملئ الفراغ الذي تركتهُ القيادة السابقة.. وكلٌ منهم يحاول من جانبه الفوز على الآخر وكلٌ منهم يحق لنفسه شرف القيادة.
وأشار الأستاذ علي سنجاري على التدخلات الأقليمية: (( أخذت بعض الدول الأقليمية تتدخل في هذا الصراع وكل حسب مصالحه وحساباته السياسية وأهدافه المعادية للكورد وكودستان والبعض يشجع هذا الطرف ضد الطرف الآخر وتقديم بعض الدعم للطرفين في آن واحد وبخاصة إيران..(1))).

واقعة هكاري...
يذكر الأستاذ شكيب عقراوي: (( في بداية عام 1976 أرسل الزعيم مسعود البارزاني كلا من جوهر نامق وكريم سنجاري إلى هذه المنطقة لغرض إنشاء مقر في إحدى القرى الواقعة على الحدود مع كوردستان العراق للقيام بنشاط سياسي وعسكري إلى منطقة كردستان العراق، وبعد وضع مقر للحزب الديمقراطي الكردستاني (القيادة المؤقتة) في المنطقة وفي داخل أراضي الدولة التركية المجاورة لمنطقة (برواري) بقضاء العمادية فأن مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني سيطروا على منافذ العبور وطرق السابلة التي كانت تربط ولاية هكاري بكردستان العراق والتي كانت تعتبر في ذلك الوقت من المنافذ الرئيسية لتسلل حركة الثوار الأكراد والنشاط السري إلى كوردستان العراق..(2))).
من أبرز المواجهات الصعبة خلال تلك الفترة في نفوس الشعب الكوردي كانت واقعة هكاري.. تلك الحرب الأهلية، ففي صيف عام 1978 مرت محنة كبيرة على الحركة الكوردية نتيجة الصراع والأقتتال الداخلي الذي حدث بين القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني وبين مجموعة من قيادات الحركة الأشتراكية الكوردستانية، التي كانت حينها ما زالت البعض من قياداتها على توافق شكلي مع الأتحاد الوطني الكوردستاني، فتوجهت قوة كبيرة بقيادة علي عسكري ود. خالد سعيد وحسين بابا شيخ والملازم طاهر علي والي وسيد كاك ومجموعة من القياديين والبيشمركة من السليمانية وأربيل نحو منطقة بادينان في محافظة دهوك وفي جنوب غرب تركيا (هكاري) وذلك من أجل الحصول على بعض الأسلحة التي كانت تأتي عن طريق سوريا عبر الحدود.
يذكر الأستاذ كفاح حسن عن هذه الحادثة قائلاً: (( كانت مشكلة فصائل البيشمركة وقتذاك شحة السلاح والعتاد. فعرض جلال على دكتور خالد الذهاب مع مفرزة كبيرة من سوران إلى هكاري لجلب وجبة سلاح من هناك. وسارع دكتور سعيد فرحا لجمع البيشمركة في مفرزة كبيرة لجلب السلاح.. وفي نفس الوقت وصل خبر إلى مفرزة القيادة المؤقتة في بادينان بقيادة إدريس البارزاني وسامي عبد الرحمن بأن مفرزة كبيرة معادية من سوران في طريقها إليهم وعليهم المسارعة بضربها. وكانت معركة هكاري غير المتكافئة، والتي إستشهد فيها ببطولة دكتور خالد ورفاقه. معركة أزاحت من أمام جلال منافس كبير على الزعامة..(3))).
ونقلاً عن الأستاذ شكيب عقراوي يذكر:(( أما الأستاذ صالح اليوسفي فكان يقيم في بغداد في ذلك الوقت وبصورة عملية فأنه لم يستطيع التدخل لمنع الحرب الأهلية. كما أن الحركة الأشتراكية الكردستانية في ذلك الوقت كانت تعمل بالتعاون مع الأتحاد الوطني الكوردستاني. ولم تأخذ قيادة الحركة الأشتراكية الكردستانية موافقة صالح اليوسفي حول موضوع الهجوم على مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني في منطقة هكاري في شهر حزيران 1978 (4))).
يبدو هنا واضحاً ومن خلال تصريح الأستاذ شكيب أن تلك القيادات في الحركة التي جازفت من خلال هذه المحاولة.. لم يأخذوا برأي والدي وأستعجلوا في قرارهم وبتشجيع وتحريضات من جهات وقيادات أخرى..؟! فأن المبادرة بمثل هذه الخطوة الكبيرة (كصفقة أسلحة وفي تلك الظروف..!) كان لابد من وجود خبرة ودراسة دقيقة قبل تنفيذها تحذراً من النتائج السلبية.. فلو كانوا أستشاروا والدي قبل القيام والمجازفة بهذه الخطوة.. فلا شك كان حذرهم والدي من التسرع في مثل هذا القرار والمجازفة وبدخول الأراضي التركية دون ترتيبات مسبقة مع الجماعة الثانية بشكل سلمي وتفاوضي أولاً ثم البدأ بالمرحلة التي تليها ومن تلك الخطوة.. ولا شك كان يعرف والدي جيداً وببعد نظره لمثل هذه الأمور وتوقعاته للنتائج والردود السلبية..
في الحقيقة وبحكم عمري حينها لم أعرف شيئاً عن تلك الواقعة أو عن رأي والدي، ولكن لا شك أن الحادثة ألمت والدي كثيراً خاصة كان ضمن المجموعة شخصيات من خيرة القياديين السياسيين والعسكريين في الحركة، وكان أمله كبيراً بخبرة الشهيد علي عسكري في القيادة العسكرية هذا ما كنت أحياناً أسمعها من والدي ونقلاً أيضاً من بعض الشهادات، وأستطعت العثور من خلال مقتطف من رسالة والدي يعبر من خلالها عن مدى ألمه وتأسفه على خسارة خيرة القادة العسكريين من خلال هذه الحادثة المؤسفة فوالدي المعروف بمدى كرهه للقتال وإراقة الدماء وحبه للسلام.. فكيف الحال إذا كان هذا الأقتتال بين الأخوة..؟! ورغم ذلك يبدو من خلال مقتطف والدي كان يحث جماعته على ضبط النفس وعدم التمادي في الردود السلبية والمواجهة وإن لا يحملوا الأشخاص البسطاء أية مسؤولية وأن يبتعدوا عن روح الأنتقام، إلا من خلال واجب الدفاع عن النفس.... وقد ذكر والدي من خلال مقتطفه: ((رغم................ اغتيال المناضلين علي وخالد وحسين فمن المصلحة وتقديراً ل ب- م (البسطاء منهم) منها أرى ضرورة تحاشى الأصطدام المسلح معها.................).....يتبع

المصادر والهوامش:
(1)علي سنجاري - القضية الكوردية وحزب البعث العربي الأشتراكي في العراق - ص 202
(2)شكيب عقراوي - سنوات المحنة في كردستان - ص 455
(3)كفاح حسن في مجلس الفاتحة على روح جلال الطالباني - حوار المتمدن.
(4) شكيب عقراوي - سنوات المحنة في كردستان - ص 454



الحلقة: الخامسة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

دعوة من أتحاد أدباء الكورد في مؤتمره الخامس 1978 في بغداد..

كان هناك العديد من الكُتاب والأدباء من الذين يقومون بزيارة والدي يستلهمون من آرأئه ويتناقشون في الأمورالسياسية والأدبية والثقافية وبما يتعلق بالأدباء وبالثقافة الكوردية ومكتبتها، ويستشيرون والدي في مؤلفاتهم ويكتسبون من أفكاره وآرائه حول ذلك، منهم المناضل عزيز عقراوي الذي قام بتأليف كتابه الفريد وهو عِبارة عن قاموس مصور وبالألوان باللغة الكوردية والعربية عن جميع المصطلحات الطبية، وكذلك الكاتب المرموق صلاح سعد الله الذي كان يداوم على زيارات مستمرة لوالدي يستشيرهُ حول مؤلفاته وأحياناً كانت ترافقه السيدة حرمه الأميرة سينم خان أبنة الأمير جلادت بدرخان فكان يجري بينهم النقاشات الأدبية والتاريخية، وكان والدي يقدر السيدة سينم خان ويحمل لوالدها أشد التقدير، وحتى بعد رحيل والدي ومغادرتنا إلى زاخو كانت السيدة سينم خان تزورنا من خلال زيارتها إلى زاخو.
كما كان الكاتب والمؤرخ المعروف صادق بهاء الدين آميدي (رحمه الله) على زيارات مستمرة لوالدي يتداولان في الشؤون السياسية والأدبية والثقافية، كان يأتي أحياناً مع عائلته حيث تربطنا صداقة عائلية، أو كان بصحبتة عدد من الشخصيات الأدبية والثقافية، وكان قد بعث لي قبل فترة أبنه السيد ريبر صادق بهاءالدين بهذه الرسالة الكريمة من خلال تعقيبه على منشوراتي السابقة:
الأخت العزيزة والغالية زوزان:(( لي تعليق بسيط على قولك وأرجو أن تتقبليه بصدر رحب.. أليس من الواجب الوطني والقومي والإنساني وحق الأجيال القادمة أن نذكر الحقائق والتفاصيل ولا نجمل التاريخ كما عودونا في كثير من كتب التاريخ وخاصة المدرسية منها عن التاريخ الإسلامي وتجميل الأحوال السائدة وخاصة السلطة الحاكمة والخلفاء المستبدين..؟ وأنا بنفسي سمعت الكثير الكثير من الشهيد صالح اليوسفي بعد عودتكم إلى بغداد عند زيارتي وبصحبة والدي المرحوم صادق بهاءالدين وخاصة في إحدى الجلسات التي حضر فيها الدكتور مكرم الطالباني والتي كانت تربطهم صداقة قديمة (الثلاثة) وأسسوا سوية جمعية الثقافة الكردية والتي كانت تصدر مجلة شمس كردستان، وقد بدأ الحديث بالعتب على الدكتور مكرم الطالباني الذي كتب في إحدى المقالات الافتتاحية للمجلة أعلاه عنوان (أشداء على الكفار..رحماء بينهم) ولا أريد هنا أن أخوض في التفاصيل ولكن سيتم ذلك في مبحث آخر.. تقبلي كل الود والإحترام والتقدير))
أخي الفاضل أستاذ ريبر شكراً على رسالتك الكريمة التي ما زلت أحتفظ بها نظراً لأهمية إشاراتك لبعض المواضيع.. بالنسبة لسؤالك حول المقتطف الأول.. أعتقد أنني لم أقصر مدى الإمكان عن قول كل شاردة وواردة أعلم بها خلال تلك الفترة كشاهدة عيان وليس من طبعي أن أجمل أو أجامل في أي موضوع وأعتقد لا يغيب ذلك عن قرائي أيضاً ومدى علمهم بصراحتي في أي موضوع أو أي حدث يذكر.. ولكنني أشرت عدة مرات وبحكم عمري حينها وأنا في مرحلتي المتوسطة والثانوية لم يكن لديّ حينها ذلك الحس والإدراك الفكري الناضج لكي أطلع أو أفهم على كل الأحداث أو أتعمق فيها وأنا في تلك المرحلة من العمر، رغم شغفي بمعرفة ما يجري إلا أنهُ كان محذوراً عليّ أن أسأل أو أسمع نظراً لحرص والدتي على أبتعادنا عن الأجواء السياسية وما يخص نضال والدي، ولكن كنت أسترق السمع بمحض الصدفة بما كان يجري من بعض السرد أو الحوار ما بين والديّ، ولكن حبذا أخي الفاضل ريبر لو كنت تفيدنا ببعض من تلك المعلومات والحوارات القيمة التي كانت تجري بين والدي ووالدكم والزوار في تلك المرحلة كما أشرتم، كما أفادوني العديد من الأخوة الأعزاء الذين كانوا مثلك يحضرون مجالس والدي سواء برفقة أبائهم أو من خلال زيارتهم الشخصية، وسنكون أنا ومتابعيّ ممتنين لك.. فحبذا لو كنت تذكر لنا عن تلك الحوارات السياسية المهمة ما بين والدي ووالدكم والأستاذ مكرم الطالباني (أدامه الله).
كما كان يزور والدي كل من السادة د. كمال مظهر ود.عزالدين مصطفى رسول ومحمد البدري ومحمد ملا عبد الكريم وعباس البدري وسبق وأن أشرت إلى شهادات السادة محمد البدري ومحمد ملا عبد الكريم وعباس البدري في الحلقات السابقة، كما كان يزور والدي الأستاذ مصطفى صالح كريم وهنا أود أيضاً أن أضيف آخر رسالة أستلمتها من أستاذنا العزيز مصطفى صالح كريم (رحمه الله) هذا نصها: (( إلى إبنة الأخ العزيزة الست زوزان أجمل التحيات وأطيب التمنيات..
ما يخص علاقتي بأستاذي الشهيد اليوسفي بأنه كان يحبني كثيراً وكان يحترم آرائي ويقدر نشاطي كنت كالداينامو في إتحاد الأدباء الكرد وفي جمعية الثقافة الكردية وكان والدكم (رحمه الله) رئيساً لكلتا الجمعيتين، وحين صعدنا إلى الجبل عام 1974(بالمناسبة لم أكن عضواً في الحزب الديمقراطي الكردستاني) ولكني كمواطن كردي وكصاحب قلم لم أشأ البقاء تحت حكم النظام، وهناك بالنظر لعلاقتي بالشهيد دارا توفيق عينت مديراً للإذاعة وأسبوعياً كنت أزور الشهيد اليوسفي في مقره الرسمي في (بابكر آوا) وبالمناسبة جاءنا أحد أخوتك فترة إلى الإذاعة ليعمل عندنا كان شاباً متواضعاً جداً، ولم يكن يحب التباهي بمركز أبيه، كان دمث الخلق، ولكنه لم يبق عندنا طويلاً(يقصد أخي شيرزاد). وبعد إنتكاسة ثورة أيلول عام 1975 صدر قرار بتنزيل درجتي من مشرف تربوي إلى معلم وتم إبعادي إلى الفلوجة وثم الرمادي.. ولما كان بيتكم واقعاً على طريق عودتي من الرمادي، فكلما سنحت لي الفرصة كنت أزور الوالد ونجلس في الثيّل الأخضر ونشرب الشاي ثم أستمع إلى آرائه وبدوري أزوده بما كنت أعرفه من الأخبار...وحين ألقى القبض على الوالد تحركنا نحن الأدباء بحملة لإطلاق سراحه، وذات مرة قال لي بالحرف الواحد من وجهة نظره سيكون (على العسكري) موضع الأمل والبقية معروفة، آنذاك لم أكن أعرفها.. وبعد إنتفاضة آذار كنت أول من شارك مع السيد حازم اليوسفي بتقديم حلقات خاصة عن الشهيد من على شاشة التلفزيون وليس هذا منّة بل هو جزء من واجبي، بالمناسبة.. وأخيراً وليس آخراً آمل أن تعرفي بأن رسالتي كانت للتوضيح وأشكرك على حسن ظنك ودامت أسرتك بخير والمجد والخلود للشهيد المناضل الكاتب، الشاعر، الصحفي، الإنسان بكل معنى الكلمة الأستاذ صالح اليوسفي ذلك الرجل المتواضع الذي ستظل ذكراه حية في قلوبنا..)) مصطفى صالح كريم.
ومن المواظبين أيضاً على زياراتنا كان الشاعر صبري بوتاني الذي كان يزور والدي ويطلعهُ على قصائده ويتحاوران في الأمور الأدبية والسياسية، وكذلك عالم الدين ملا حمدي عبدالمجيد اسماعيل وقد ألف حينها كتاباً عن الحِكَم والأمثال الكوردية فكان يستلهم من والدي من خلالها، وأعتذر من الأساتذة الآخرين حيث للأسف لا أعرف أسماء البعض منهم.. أما على المستوى التنظيمي لأتحاد الأدباء الكورد فقد أصبح صورياً ومشلولاً منذ أندلاع ثورة 1974 وأزداد الوضع بعد نكسة 1975 نظراً لغياب الكلمة الحرة والجريئة التي كان يكتبها أعضاءه وأن معظم الأدباء الكورد الذين عادوا تم نفيهم إلى محافظات الوسط والجنوب، وهذا الشيء كان يؤلم والدي ويُشعرهُ بمدى الظلم الذي لحق بالثقافة والأدباء الكورد، خاصة وأن والدي ومنذ توليه رئاسة جمعية الثقافة الكوردية ورئاسة أتحاد الأدباء الكورد لأربع سنوات متتالية جعل أتحاد الأدباء الكورد وجمعية الثقافة الكوردية يبدعان بعطائهما المميز من الناحية الثقافية والأدبية وحتى الفنية، فأخذ والدي ينتقد ما آل إليه مصير الأدباء الكورد من نفي وترحيل لأعضائه وكان يجابه الحكومة على هذا القرار الجائر بأستمرار وبشكل علني.
أرسلت اللجنة التحضيرية لمؤتمر أتحاد الأدباء الكورد دعوة لوالدي (باللغة الكوردية) لحضور مؤتمرها، وبعد أستلام والدي الدعوة، رفض حضور المؤتمر وأرسل رسالة موجهة إلى الأتحاد، جاء فيها:

اللجنة التحضرية لتهيأة إنعقاد المؤتمر الخامس لأتحاد أدباء الأكراد المحترمة
تحية طيبة..
أستلمت كتابكم المؤرخ 5 آب/ أغسطس 1978 في هذا اليوم المصادف 29 آب/ أغسطس 1978
رغم إدراكي بأهمية وضرورة الأسراع في إحياء إتحاد أدباء الأكراد للقيام بمسؤولياته التأريخية الأدبية لشعبنا الكوردي بشكل خاص ولشقيقه الشعب العربي والأقليات المتآخية في عراقنا العزيز والبشرية التقدمية بشكل عام.. غير إني أعتقد إن الظروف والأوضاع الحالية التي تمر بشعبنا بصورة حقيقية لا تتوفر فيها الشروط والإمكانيات المتاحة لإنعقاد مؤتمر طبيعي ينبثق منه أختيار مسؤولية شرعية تجسد الأرادة الحقيقية للأتحاد كما ينبغي، سيما ولا يزال بعض الأخوة من الأعضاء البارزين الأصليين وغيرهم قد أُبعدوا من أماكنهم الأصلية إلى المناطق الجنوبية ولا يزالون هناك ومنذ أكثر ثلاث سنوات خلافاً حتى لمضمون بيان العفو العام، الأمر الذي أرى من المصلحة تأجيل إنعقاد المؤتمر ريثما تتوفر الظروف والشروط الطبيعية لإنعقاده، وقد أحجمتُ من الحضور والإسهام لهذا السبب.. مع تحياتي وتقديري لكل مَن يقدم بأمانة وصدق وإخلاص لإداء مسؤوليته التأريخية الأدبية ودمتم..
المخلص
صالح اليوسفي
هكذا عبر والدي بكل جرأة من خلال رده على دعوة أتحاد الأدباء، وهو يعلم جيداً إن ردهُ هذا سوف يصل بشكل أو بآخر إلى الجهات العليا في الحكومة العراقية، وفي الحقيقة لم يكن سوى صالح اليوسفي الذي يستطيع أن يكتب مثل هذا الرد في ظل ذلك النظام، فهكذا كان والدي عندما لم يقتنع بشيء، فأن أعتى نظام حكم لا يستطيع أن يردعهُ أو يغير من رأيه.
ومن خلال تعليق الأستاذ قيس قره داغي عبر عن رأيه:(( أن رسالة الشهيد اليوسفي الجوابية إلى أتحاد الأدباء لوحدها كافية أن يفكر العدو بتصفيته حسب مفهوم البعث.. فأتحاد الأدباء بعد النكسة كان مكتضاً بعيون وجواسيس الأمن والأسماء معروفة لدى الجميع.. من المؤكد أن النسخة الأصلية من تلك الرسالة قد أرسلت إلى الأمن العامة.. فتصوروا رجل مؤوسس للبارتي وعضو قيادي بارز في الثورة الكوردية يعود إلى بغداد بعد إنهيار الثورة ثم يؤوسس حركة كوردستانية فعالة جداً (الحركة الاشتراكية الكوردستانية ) ويقابل مندوبي الثورة في عقر داره ويقول رأيه بكل جرأة وصراحة ويكتب مثل هذه الرسالة مستنكراً أفعال السلطة فمن المؤكد كان المرحوم ينتظر حتفه شهيدا في طريق الكوردايتي له المجد والخلود..)).
كما عبر الأستاذ خسرو فارس:(( لم يكن رفض الشهيد الخالد الحضور في المؤتمر إلا لكونه كان يدرك جيدا بأنه مؤتمر كارتوني ولا يمثل حقيقة الطموحات لثقافة كوردية النابعة من الأدب والتراث والأرث الكوردي ويخدم الأدب الكوردي بشكل عام في كافة مجالات الحياة، لابد لقائد كوردي سياسي محنك أن يرفض المشاركة في مؤتمر يعقد في ظل سلطة شوفنية رفضت أدنى درجات الأقرار بحقوق الكورد..))... يتبع



الحلقة: السادسة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

أعتقال والدي في خريف 1978
كنا نشعر بالأطمئنان ووالدي بيننا ونحن من حوله وكنا نعتقد أنه ليس هناك ما يعكر صفو حياتنا العائلية فوجوده معنا كان من أجمل لحظات حياتنا.
في مساء إحدى الأيام من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1978 جاء أتصال لوالدي من مديرية الأمن العامة، أنهم سيحضرون للقاء به، فأستعد لأستقبالهم ولم يشأ أن يُقلقنا رغم أنه كان يبدو عليه بعض الحذر من خلال هذه المكالمة، كان والدي خلال لحظات الأنتظار في حالة من السكون، كنت أفهم مشاعر والدي حينما يكون شارداً ويفكر بأمر ما، أخذت أنظر إليه ببعض القلق، شعرتُ وكأن هناك شيء في داخلي ينبأني بأن هذه الأمسية لن تمر على خير، وهذا الشعور غالباً ما أشعر به حينما يكون هناك أمراً سيئاً يلوح في الأفق وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
في حوالي التاسعة ليلاً حضروا، أستقبلهم والدي وجلسوا في غرفة الضيوف برهة من الوقت، وبعد فترة خرج والدي ليخبر والدتي بأنهم جاءوا لأعتقاله وأنه يجهل الأسباب وأن الأمر يبدو قد صدر من المراجع العليا، وطمئنها أن لا تقلق ربما يكون مجرد تحقيق، كانت ليلة لا تُنسى صعقنا جميعنا وأرتبكت والدتي لا تعرف ماذا تُحضّر لوالدي من حاجيات..؟! لكنها كانت مسيطرة على مشاعرها حتى لا ترهبنا، فقد سبقت وإن مرت بالعديد من مثل هذه المواقف.
كانوا في أنتظار والدي في غرفة الضيوف بعد أن منحوهُ مهلة لترتيب متعلقاته، أنهارت دموعي في هذه اللحظة الصعبة، وحين بادر بالخروج ركضت إليه ورجوته أن لا يذهب..! وأخذت أسبهم بصوت عالي وكان حينها والدي أمام باب الضيوف وهم في غرفة الضيوف، بالكاد أستطاع والدي أن يُخلص نفسهُ من تشبثي به وأخذني بهدوء إلى الهول وقَبل رأسي بصمت وكانت نظرته التي لا أنساها توحي لي بألف جواب وحينها فقط ألتزمت بالصمت وأدركتُ أن الموضوع خارج عن إرادته، فرّحل بصمت وبهدوءه المعهود، وقضيتُ الليلة كلها وأنا في نار القلق على مصير أبي وأنتابتني حالة هيسترية من البكاء المتواصل.
في اليوم التالي لم نسمع شيئاً فتملكنا خوف شديد على مصيره، كنا نترقب جرس الباب أو الهاتف في أي وقت لسماع أي خبر عنهُ، وبعدها بليلة أتصل بنا والدي هاتفياً وتحدث مع والدتي وطمأنها على أحواله وأنه سوف يُرسل إليها رسالة مفصلة وطلب بعض الحاجيات الشخصية.. بعد تلك المكالمة زار أخي شيرزاد والدي وجلب لنا رسالة منهُ.

وهذه نص رسالة والدي(1): ((عزيزتي أم شيرزاد المحترمة..
تحية وأشواقاً مع وابل القبلات الحنونة للمحروسات وللمحروس شيرزاد مع تحياتي للأخت ونسيبه(2).
صحتي جيدة حمداً لله وأنا مرتاح البال والضمير والراحة التامة مع الأخوان أرجو أن لا تقلقوا من طرفي أبداً.. أستلمت رسالتك وجميع الأغراض مع الشكر.
في الليلة التي خابرتك فيها تلفونياً واجهت السيد مدير الأمن العام وقد أستقبلني ببالغ المودة والترحيب ومكثت معه في غرفته وبوحدنا قرابة ثلاثة أرباع الساعة وأعرب مقدماً عن أسفه وتأثره الشديدين بتوقيفي (حجزي) الذي تم خارج نطاق قدرته ورغبته وبشكل مفاجئ من القيادة رأساً رغم أنها لا تود إيذائك أو الإسائة إليك وهو شيء مؤقت حسبما أتصور وربما ومن المحتمل أنها قد أخذت بعض الإنطباعات حول مواقفك المتشددة وأنها لا تزال تقدر مواقفك الأخرى، وأخبرني لو كان الأمر بيده لما قام أصلاً بأستدعائي وحجزي وأخلي سبيلي حالاً وأنه يتفق معي أن حجزي لا يخدم المصلحة وأشعرني أنه يرى من المستحسن توجيه رسالة خاصة بواسطته إلى السيد الرئيس تتسم بالملاطفة.
ومن خلال حديثنا المتبادل أدركت بأن ذلك ناتج من بعض الترسبات النابعة من مواقفي الموضوعية الصريحة بإنتقاد المسؤولين وسبل وأساليب معالجة قضية شعبنا ومن رفضي لأية مسؤولية وربما من مذكرتي القديمة أيضاً وربما أيضاً من جواب رسالتي الموجهة إلى اللجنة التحضيرية الهزيلة التي أشرفت على مؤتمر أدباء الأكراد وفشلت مع المسؤولين المؤيدين لها فشلاً ذريعاً فحاولو تغطية فشلهم بسبب رسالتي كما من المحتمل أنه جرى حجزي قبل إنعقاد مؤتمر على وزارة الخارجية والقمة(3) خشية قيامي بتحرير وتقديم مذكرات إليهم وأنتقادهم أو أي نشاط آخر.
وأخبرته لا مانع من تقديم الرسالة إلى السيد الرئيس مع بيان صحة وجهة نظري حول المعالجة الجذرية السليمة لهذه القضية المهمة لضمان نجاحها الكامل لكي لا أخجل أمام ضميري وشعبي ومعه، حيث ثبت بالتجارب التي مرّت على صحة وصواب رأي الذي يخدم المصلحة العامة ومصلحة الدولة دون أية غاية أو منفعة شخصية وفعلاً في اليوم التالي قدمت رسالتين للسيد الرئيس والسيد النائب عن طريقه.
وقد شعر المسؤولين بمراعاتهم لكل ما أطلبه من الحاجات واللوازم وتأمين راحتي بقدر الإمكان مدة بقائي عندهم وحتى كلّف بإرسال سيارة خاصة يومياً عندكم لجلب كل ما أحتاجه ولكني قلت لا حاجة إلى ذلك.
أما بخصوص ما قاله الأخ شوكت(4) بأن الذين يزوروني هم السبب في ذلك فلا صحة لهذا التوهم مطلقاً، أما قوله (بأني أستحق ذلك) بسبب إنتقاد المسؤولين وسبل وأساليبهم الفاشلة في معالجة هذه القضية الحيوية - كما ثبت لحد الآن والتي لا تخدم لا مصلحتهم ولا مصلحة الشعب ولا يمكن أن أسكت عن الحق والحقيقة التي تهم مصلحة الجميع – وأخبريه بعد تحياتي إليه ليخبر بدوره المسؤولين بأني أُفضّل قضاء ما تبقى من عمري بإباء وشرف وأستشهاد في المواقف والسجون دفاعاً عن الحق والمصلحة العامة وأستجابة لصوت الواجب المقدس الذي يدفعني بحرارة وإيمان ورغبة عارمة بالدفاع عن قضية شعبنا العادلة ووضع الأسس الناجحة في سبيلها والمشاطرة معه في محنته وآلامه التي تحملتها منذ فجر شبابي قرابة الأربعين عاماً بصدق وأمانة وإخلاص.
إنهم يتوهمون جداً بأنه بالإمكان أستخدام أساليب التخويف والإرهاب والضغط عليّ أو أي أسلوب آخر لترويضي وإذلالي للركوع أمام كل مَن يريد إملاء إرادته الكيفية عليّ وعلى شعبي كائن مَن كان وعن طريق الإستجابة لوشايات الواشين والحاقدين والإنتهازيين المتطفلين اللاهثين وراء منافعهم الآثمة لتحريف الحقيقة والمصلحة ومحاولة تدميرهما ولا بد الحق والحقيقة أن ينجلي قريباً وسوف أبقى كما كنت مرفوع الرأس مهيب القامة شامخاً بسلوكي ومبدئي شموخ وصلابة جبال كوردستان الشمم وأبناً باراً لشعبي والشعب العراقي ومتفانياً في خدمتهما بصدق وإخلاص مادمت حياً.
نظراً لإحتمال عدم إخلاء سبيلي إلا بعد إنهاء مؤتمري وزراء الخارجية ومؤتمر القمة حيث ربما بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرتها آنفاً التي أدت إلى حجزي هو خشية قيامي بتحرير وإيصال مذكرات إلى رؤساء مؤتمر القمة وإنتقاد المسؤولين نظراً لقدرتي الكتابية العالية وشخصيتي المعروفة وإيقاف أي نشاط آخر لتأثير شعبيتي ومع ذلك فمن المحتمل إخلاء سبيلي في كل لحظة..)).
كانت رسالة والدي هذه كالبلسم على الجرح.. والحمد لله أطمئنينا على سلامته.
يبدو من خلال رسالة والدي أنه توقع عدة أحتمالات لأعتقاله، وقد أستنتج هذه الأحتمالات من خلال لقائه وحواره مع مدير الأمن العام (فاضل البراك) وأن أمر أعتقاله جاءت من القيادة وبقرار مفاجئ كما صرح لهُ، وهذه الأحتمالات كلها كانت واردة وهي: ربما بسبب مواقف والدي المتشددة أزاء النظام ومواقفه الصريحة بأنتقاد المسؤولين من سبل وأساليب معالجة قضية شعبنا..
أو ومن خلال رفضه لتسنم أي مسؤولية من المسؤوليات التي عرضت عليه..
أو من خلال مذكرته الجريئة التي كتبها(5)
أو من خلال جواب والدي التي وجهها إلى أتحاد الأدباء في مؤتمره الخامس.
والأحتمال الآخر الذي توقعه والدي ربما من أجل إنعقاد مؤتمر القمة للرؤساء العرب في بغداد، وخشية النظام من قيام والدي بتحرير وتقديم مذكرات إليهم، ومحاولة إصال صوته إلى مؤتمر القمة، فكما أشرتُ سابقاً كان والدي على صداقة مع أغلب هؤلاء الرؤساء والوزراء الحاضرين للقمة.. وأكبر دليل على ذلك أخلي سبيل والدي بعد أنتهاء القمة بأيام قليلة، كما أنهُ قبل أعتقال والدي وفي أحدى الأيام كنت قادمة من المدرسة وعندما دخلت البيت رأيت والدي جالساً مع شخصين في حديقة منزلنا كان يبدو عليهما ذو هيئة مميزة أدركت أنهما ليسا عراقيين.. وحينما دخلت البيت سألت أمي مَن هؤلاء الرجلين..؟ أخبرتني أنهما صحفيان من سوريا ولبنان جاءوا للقاء بوالدك.. وبعد رحيلهما سألت والدي عنهما أخبرني بنفس الرد، ولكن للأسف أكتفيت بهذا فلم أكن أستوعب حينها لأخبرهُ عن أسباب لقائهما به..! وأكد والدي لاحقاً لوالدتي أن كل تلك الأحتمالات كانت واردة.
كما طلب مدير الأمن من والدي أن يكتب مذكرة للقيادة، فلم يتردد فكتب رسالتين للبكر وصدام (كنت أتمنى لو كانت لدي مسودة تلك الرسالتين.. لكن للأسف كتبها والدي من المعتقل.. ورغم أحتفاظ والدي بمسودات كتاباته في أغلب الأوقات..إلا أنه وللأسف فأن أغلب أرشيفه في حالات المحن كانت أمي تحرقها..).
ولا أعرف معلومات من قِبل (الحركة الأشتراكية الديمقراطية) ورد فعلهم أزاء حدث أعتقال والدي فلا شك وصلت الأخبار إليهم..؟!
وهكذا هي الأقدار تعيد نفسها علينا وهذه هي ضريبة الوطن وقضية شعب هضمت حقوقه.. وأمام هذا المشهد وحين يُعتقل رب الأسرة.. ترى فجأة الكل يبتعد القريب والبعيد، وكأن البيت أصابته لعنة فمرت الأيام وكأننا في المنفى.....(يتبع).

الهوامش:
(1)النسخة الأصلية للرسالة موجودة في التصميم.
(2)الأخت يقصد عمتي أسماء، ونسيبة هي جدتي من أمي، والأثنتان كانتا يسكننا معنا.
(3)جرى مؤتمر قمة بغداد ما بيم 2- 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978 أثر أتفاقات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في 17 أيلول/ سبتمبر 1978في كامب ديفيد، تم التوقيع على الأتفاقيتين الإطارية في البيت الأبيض وشهدهما الرئيس جيمي كارتر، أدى إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
(4)يقصد والدي حينها الأستاذ شوكت عقراوي حيث زارنا صدفة لزيارة والدي.
(5)نشرتُ مقتطفات من مذكرة والدي للرئيس البكر ونائبه صدام في الحلقات السابقة.


الحلقة: السابعة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

والدي وسماحة الإمام الشيخ محمد مهدي الخالصي في المعتقل..
تعرّف والدي في المعتقل على عدد من الشخصيات الوطنية المهمة ممن كانوا رهن الأعتقال وذلك لأسباب سياسية أو دينية والذين كانوا يشاركونه بنفس زنزانة الأعتقال، وكان من هؤلاء الشخصية الوطنية والدينية سماحة الإمام الشيخ مهدي الخالصي (وهو نجل أية الله العظمى الإمام المجاهد محمد الخالصي الكبير(1)) من زعماء الشيعة المعروفين في العراق ومن كبار معارضي النظام، وكان هناك أيضاً الأستاذ ثابت الألوسي وكيل وزير الداخلية، والكابتن الطيار نجاح الزبيدي.
كان أخي شيرزاد يزور والدي في مكان أعتقاله في مديرية الأمن العامة كل يوم جمعة، وكانت عوائل المعتقلين تتناوب أيام الجمعة على إرسال وجبات الغذاء لهم.
عند هذه الحلقة سأخذكم إلى فترة زمنية قريبة إلى عام 2013 حين صادفني الحظ لأتعرف على سماحة الإمام محمد مهدي الخالصي بعد هذه السنين وأطلب من سيادته أن يزودني ببعض ذكريات مع والدي في المعتقل عام 1978، وذلك حين قامت فضائية (روداو) بعمل فيلم وثائقي عن سيرة والدي، فأخبرني القائمون على إنتاج الفلم بأنهم ذاهبون إلى بغداد لمقابلة بعض الشخصيات التي عاصرت والدي ومن الذين يحتفظون بذكريات عنه مثل الدكتور محمود عثمان والأستاذ مكرم طالباني والأستاذ إحسان شيرزاد وطلبوا مني أن أزودهم بأسماء بعض الشخصيات العراقية الأخرى ليتسنى لهم إجراء مقابلة معهم.. فأخبرتهم عن سماحة الإمام الشيخ محمد مهدي الخالصي لعلاقته الطيبة بوالدي وتقديره ومحبته لهُ.
وبعد لقاء كادر فضائية رووداو بسماحة الشيخ الشيخ محمد مهدي الخالصي، أتصال بي سماحة الشيخ (جواد مهدي الخالصي) شقيق سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي، وبعد السلام والترحيب، تأسف جداً من عدم إمكانية الشيخ محمد مهدي الخالصي من إجراء المقابلة التلفزيونية لوعكة صحية ألّمت به في تلك الفترة وإنه هو الذي قام بأجراء المقابلة بالنيابة عن أخيه، ووعدني بأتصال سماحة الشيخ فور تعافيه من الوعكة الصحية.. وبعد مرور أيام قام سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي بالأتصال بي وأعرب عن أحـترامه وتقديره الكبيرين لعائلتنا وأخذ يسأل علينا واحداً تلوا الآخر وعن أخي شيرزاد وقد حزن وتأسف جداً لوفاته في تلك الظروف الغامضة، حيث كان قد تعرف على أخي شيرزاد منذ أيام أعتقال والدي، كما زارنا بعد أنتفاضة 1991 قادماً من سوريا، ثم عرض عليّ سماحته إن كنا بحاجة إلى أي طلب أو مساعدة يستطيع تقديمها لنا، فشكرته جداً على كرمه وعلى هذه البادرة النبيلة، وأن موقف سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي جعلني أفكر بمدى الحظوة والتقدير التي كان يتمتع بها والدي عند هذه الشخصيات الوطنية.
أرسلتُ لسماحة الشيخ الطبعة الأولى من كتابي عن سيرة والدي، ثم طلبت منه أن يزودني ببعض المعلومات وذكرياته عن الفترة التي قضاها مع والدي في المعتقل حتى أضيفها على الطبعة الثانية من كتابي، ورغم وعكته الصحية إلا أن سماحته قام مشكوراً بأرسال رسالة لي تحتوي على بعض المعلومات المفصلة عن فترة أعتقالهما عام 1978. وهنا أعرض رسالة سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي (أدامه الله) مع الشكر والتقدير لسماحته وهذه نص الرسالة:

السيدة الفاضلة زوزان صالح اليوسفي دام توفيقها..
السلام عليكم ورحمة الله.. بعد الحمد والصلاة.
فقد تلقيت منذ مدة هديتك القيمة، نسخة من كتابك القيم عن حياة والدك الفقيد رحمه الله، فشكراً على الهدية وأكباراً لهمتك على جمع هذه المعلومات المفيدة وأخراجها في كتاب أنيق يُعرّف به ويخلد ذكره للأجيال القادمة. فوفاءاً لذكرى الفقيد، الذي أسعدت بمعاشرته عن قرب لفترة قصيرة في ذلك الزمن العصيب من سنة 1978، حيث جمعنا معتقل في بغداد، جراء معارضتنا للحكم الأستبدادي الجائر السائد في تلك الآونة، وأنتقادنا لسياسة القمع والعنف الممارسة ضد الشعب، وتلبية لرغبتك الكريمة، أرسل إليك هذه الأسطرالموجزة عن ذكريات تلك الحقبة.. ففي تلك السنة حيث كنت أقضي إحدى فترات الحبس الإنفرادي في بعض معتقلات بغداد، وما يصاحبه عادة من المضايقات والتلويح بالإبادة، كما كان دأب النظام مع معارضيه، زارني يوماً المسؤول عن إدارة المعتقل كما عرّف نفسه، وبلهجةٍ حاول أن يكون مؤدباً فيها قال: (شيخنا نريد أن نأتي إليك بضيف) فراودتني لأول وهلة الهواجس عن مهمات ضيوف النظام للسجناء، وما يتعلق منها بالتصفية الجسدية لا سيما إذا كان السجن إنفرادياً. فأستعذت بالله في نفسي، وفوضت أمري إلى الله وقلت له:(نحن ضيوفكم على كل حال، مرحباً بكم وبضيوفكم).
غادر المكان، أنفتح الباب الحديدي وأدخل شخص وأغلق الباب دونه، أقبلت إليه مرحباً، فبدا أنه قد أخبر عن شخصي، سألني أن كنت عرفته، ابديت أسفي لعدم سبق التعرف عليه، قدّم نفسه قائلاً: (أنا ثابت الآلوسي، وكيل وزارة الداخلية) هان الأمر بعض الشيء، فأنه ينتمي إلى بيت معروف فيهم العلماء والفضلاء ولنا معهم صلات علمية قديمة، لا سيما العالم الجليل الشيخ فؤاد الآلوسي رحمه الله، قلت له من باب الملاطفة:(ما الذي جاء بك إلى هنا معتقلاً ؟) أبدى ما هو المتوقع في ظل الأنظمة الإستبدادية قائلاً: (أختلفتُ مع الوزير فأمر بإعتقالي) شكرنا الله على نجاته مما هو أسوأ وعلى أن أنس وحدتي بإنسان يؤمن شره.
مضت أيام فإذا بضيف جديد يضاف إلينا، بعد أن هدأ روعه تعارفنا فإذا به كما عرف نفسه: (أنا الكابتن نجاح الزبيدي أبوغيث، مقدّم طيارين) رحبنا به، وذكر لنا سبب الغضب عليه وأعتقاله، بما لا يختلف كثيراً عن سبب أختلاف أعتقال الضيف السابق.
بعد مضي أيام، كنا تواً قد أنتهينا من صلاة الظهر جماعةً، فإذا الباب الحديدي يفتح بقرقعته المعهودة، والجلاوزة يسوقون ضيفاً ثالثاً، عليه سيماء الوقار والأتزان، قبل أن يغلق الباب، أندفع نحوه السيد ثابت الآلوسي وهو يقول لهُ: ( أبو شيرزاد شمدريك أنا هنا )..؟ ظاناً أن أبا شيرزاد (صالح اليوسفي) قد علم بإعتقاله فجاء لزيارته، فلما أحكم غلق الباب دونه، أيقن أن الزائر الجديد مُعتقل مثلنا، خلا الجو للمعانقة والترحيب بالقادم الجديد، فلما أكتشف القادم شخوص معانيقه والمرحبين به أطمئن باله، جلسنا نتداول أطراف الحديث بمقدار ما يسمح به جو المعتقل وأحتمال التنصت والمراقبة، ظهر أبو شيرزاد كما هو متوقع شخصاً ذكياً مثقفاً مُلما بالأمور، كما أكتشفنا فيه أيام المعاشرة حُسن الخُلق ولين الجانب والتحليل الواعي لجوانب الأمور، الأجتماعية والسياسية في البلد وما حولها، سعدنا بجمعنا رغم ما يحيط بنا، ليس من أهوال المعتقل فحسب، بل من هموم ما يجري في الوطن كله في ظل حكم تلك الزمرة العابثة بمقدراته، فقضيناها أياماً لاتنسي بين العبادة والصلاة جماعةً والدعاء، وتدارس في القرآن ومحاضرات مختصرة يلقيها كلٌ في مجال أختصاصه بعد الصلاة وحيثما تسنح الفرصة.
بعد إطلاق سراحنا على مراحل أفترقنا على أمل اللقاء ولكن الظروف خارج السجن كانت من القسوة إلى درجة تذكرنا بقول يوسف الصديق كما حكاه عنه القرآن الكريم:(رَبِّ السِّجْنُ أحَبَّ إلَيَّ مَّمِا يَدْعُونَنيِ إلَيْهِ)، وما زالت الأوضاع تتفاقم حتى تعذر اللقاء، والمضايقات على الهجرة من الوطن لمدة دامت أكثر من ثلاثين سنة، علمت خلالها ضمن ما عملت من المآسي التي حاقت بالوطن نبأ إستشهاد الكثير من اللأخوة والأحبة، ومنها الجناية الفظيعة في تفجير الخلق الرفيع والسجايا الكريمة بقتل أبي شيرزاد بعد ما عانى من الشدائد والاجحاف وما زالت عائلته تعانيه من بعده، وكذلك نبأ وفاة الأستاذ الآلوسي، فحزنت كثيراً لفرقاهم ولم ألتق بعد ذلك برفاق الأعتقال إلا بأبي غيث الذي وجدته، ولله الحمد، مؤمنا محتسباً رغم ما عاناه من القوم بعد الافراج عنه، ثبته الله وأيانا وجعل عاقبة الجميع الى خير بفضله تعالى.
السيدة زوزان، هذا موجز ما في الذاكرة عن تلك الحقبة المفعمة بالأحداث والعِبَر وفيما يتعلق باللقاء الغنيّ بالذكريات، رغم قصره، بالفقيد العزيز والدك رحمه الله تعالى.
أكرر أمتناني على كتابك الذي توسعتي فيه، وكشفتي من جوانب مشرقة ومهمة في حياته وأفكاره ومواقفه، مما زادني حزناً وأسفاً على فرقه؛ تغمده الله برحمته الواسعة وآجاركم الله على فقده، ووفقكم لكل الخير، ولنشر المزيد من مآثره وآثاره. والسلام عليكم ورحمته الله وبركاته. مع تمنيات الخير والسعادة..
محمد مهدي الخالصي
25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013

دامت فترة أعتقال والدي حوالي الشهر، وهي كانت وكما ظهر جلياً بسبب إنعقاد مؤتمر القمة العربي وذلك لحجبه عن الأتصال بأي من أعضاء الوفود العربية التي كانت مدعوة للمؤتمر.
خرج والدي وعاد إلينا وفرحتنا لا تضاهيها فرحة، ويبدو أن والدي أطمأن في داخله بأن الحكومة ما زالت على غير دراية بنشاطه السياسي، وزاد والدي تصميماً بالمضي في طريقه، فأدرك من خلال حدث أعتقاله، وكأن السلطة أخذت تحسب له ألف حساب وتدرك مدى قوة رأيه وشخصيته، ومدركين حينها بأنه هو الرجل المؤثر والقوي في القيادة عند الكورد والأكثر شعبية بينهم، وإلا لما قامت الحكومة بهذه المبادرة المفضوحة، حيث أيقنوا مدى قدرته وشجاعته وجرأته ليعبر عن رأيه، خاصة بعد رده الجريئ على دعوة مؤتمر إتحاد الأدباء الكورد، بعد فترة من خروج والدي من المعتقل أعقبه خروج زملائه في المعتقل ومنهم سماحة الشيخ مهدي الخالصي الذي أستمر بالتواصل مع والدي وكان سماحته يدعوه للزيارة أو لمأدبة غذاء، وكان والدي يُلبي دعوته التي كان يحضرها عدد من كبار الشخصيات الوطنية والأجتماعية في العراق، وأستمر تواصلهما بين الحين والآخر حيث كان سماحته يحترم ويُقدر شخصية وأراء والدي أشد تقدير... وأنطوى عام 1978 وجاء عام 1979 يحمل الكثير من المضايقات والمشاكل أتجاه حركته... يتبع

المصادر والهوامش:
(1)يذكر الأستاذ بلند المفتي:((أن عائلة الخالصي لهم علاقات قديمة مع الكورد، كان الشيخ محمد الخالصي نائباً في مجلس النواب ثم الأعيان العراقيين، وكان صديقاً مقرباً للنواب الكورد ومنهم جدنا المرحوم هبة الله مفتي عقرة ومنذ بداية تأسيسها سنة 1925، وفي فترة كان المفتي نائباً لرئيس مجلس الأعيان من سنة 1947 ولحد وفاته سنة 1955بينما كان الخالصي رئيساً للمجلس، ولوفائه زار عقرة وبقي أيام فيها بعد وفاة المفتي بسنتين في سنة 1957 ضيفاً عزيزاً عند والدي القاضي محمد شكري، كما كان الوالد يزوره في مقره بالحوزة الكاظمية في بغداد، نحيي شعورهم ونرحب بعلاقاتهم ونتمنى لهم التوفيق في سبيل التقارب الكوردي والإسلامي المستمر..))



الحلقة: الثامنة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

كل مَن عاصر الشهيد صالح اليوسفي أو سمع به عن طريق أبائهم أو أقربائهم يدرك جيداً بشخصيته التي أتسمت بالجرأة والشجاعة في تحدي الظلم والأنظمة الدكتاتورية والتعسفية وأي خطأ دون خوف أو وجل حتى وهو في عقر داره وتحت حكم أقسى الأنظمة، وكما أشرت سابقاً كان والدي يمارس تجربة نضالية فريدة متميزة في العراق حيث كان زعيماً معارضاً سياسياً يعارض أخطاء النظام بكل جرأة ويدير الندوات السياسية المعارضة داخل منزله المراقب أمنياً أو من خلال كتابته لرموز الأنظمة حول سياستهم الخاطئة وهذه كانت تجربة فريدة في عراق ما بعد 1958 والتي تعودت الأنظمة المتعاقبة حينها على أصوات الموالين والمصفقين فقط.. وللأسف ما زالت هذه الأصوات الناشزة لحد الآن سارية المفعول..!
أفادوني بعض الأخوة الأعزاء بأن والدي ومن خلال نضاله السري في بغداد وبطريقة سرية كان قد أجرى تحالفاً مع الشهيد الصدر، وهناك شهادتين مهمتين تشير إلى هذا الموضوع السري والمهم.. إحدى هذه الشهادات من الأستاذ الفاضل نور علي (من أعز أصدقاء أخي شيرزاد) وشهادة أخرى من الأستاذ المناضل دلير علي.. وأنا بدوري سأشير إلى الشهادتين وأستند عليهما إلى حين أن أستطيع الحصول على حقائق أكثر عن هذا الموضوع المهم.
يذكر الأستاذ نور علي: (( لم ينقل اليوسفي رسالة فقط ولكن ليوثق تحالف مع الشيعة يكون طرفها صالح اليوسفي الممثل الوحيد للشعب الكردي بعد أن أنطفأت وهجة الأحزاب الكبيرة وخمدت وبقي هو الحزب الوحيد الذي يقاوم حكم صدام بالكلمة جهراً وبالسلاح سراً.. كان هناك تحالف بين الصدر واليوسفي، واللقاء الذي دار بين الصدر واليوسفي حقيقة، وأتفقا على تشكيل تحالف بين الطرفين وعلى ما أظن أن والدك سلمّهُ رسالةً إلى المرجعية الدينية بخصوص ذلك، وقد وعد الصدر بنقل رسالته الشفوية الى رجال الدين الشيعة في مدينة الكاظمية هو عن لسان والدك وليس نقلاً عن.... أو تكهنات.... وقد ذهب اليوسفي إلى الكاظمية بعد إطلاق سراحه مباشرةً من دائرة الأمن.. حتى أن الأستاذ نجيب بابان نصحه بعدم الذهاب إلى هناك لكن والدك أصرَّ... وعلى أثر ذلك التحالف أنتهى بأغتيال الشهيد صالح اليوسفي وقتل وتصفية الشهيد السيد الصدر رحمهما الله..)).
ويضيف الأستاذ دلير علي عن نفس الموضوع نقلاً عن والدي: ((جرى موعدا بين والدك وبين الشهيد الصدر فيما إذا شاء القدر أن يلتقيان في جامع الخالصي في الكاظمية.. وشاءت الأقدار أن يلتقيان ليخبره الشهيد الصدر مافي جعبته بصدد وعودات الخميني للأكراد في حالة أستلامه السلطة.. وهذا الكلام كله كان من الوالد رحمه الله والجنة مثوى لهذا البطل الخالد الذي حمل هموم هذه الأمة فلنكن له أوفياء كما كان لنا..)).
يبدو أن أعتقال والدي مع سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي قد فتحت أبواب جديدة لمحاولات وبصورة سرية جداً، حول تقيم بعض الأمور ببعد نظره حول التطورات السياسية التي كانت تجري حينها على الساحة السياسية بصورة سريعة وحساسة ومؤثرة..!

أستلمت اليوم هذه الرسالة الكريمة من الأستاذ دلير علي.. في البداية أشكرهُ على هذا الأهتمام لِما أنشره من الحلقات ومن شهادات الأخوة الأفاضل.. كما وأشكر شهادته الكريمة والتي أشار إليها أيضاً مرة أخرى عن هذا الموضوع التاريخي المهم.. وهذه هي نص الرسالة:

(( إطلالة مشرقه على ماورد في الحلقة السابعة بعد المئة لذكريات وماثر الشهيد والقائد سيدا صالح اليوسفي
بلا شك بأن ما تقوم به الأستاذة القديرة زوزان من جهوداً وسعياً ومثابرة لتجميع ذلك الأرث والموروث الكبير والمتناثر هنا وهناك يشكر له وتكون نهاية ذلك العمل نتائج قيمة وتحفة ثمينة تضع إلى جانب التحف التأريخة في المكتبة الكوردية ولتخدم الباحثين والمتابعين والدارسين للتاريخ النضالي للشعب الكوردي وستقدم حتما بعملها هذا خدمة جلية للجهود والساعين في إيجاد مسيرة ناجحة ونهجا جديدا للأجيال الحالية والقادمة ولتستنبط من صفحاتها وإخفاقاتها ونجاحاتها من الدروس والعبر لتصحيح وتعبيد المسيرة الطويلة لهذا الشعب العريق الذي ناضل لسنين ولم تتعبه الأيام ولا السنين من أجل نيل حقوقه المشروعة على أرضه وجغرافيته التي منح الله له وأغتصبت من بني البشر وعلى أيدي عباده وأحرقوا بايديهم الأرض والنسل
مضت السنين ودارت الأيام وأنتهت قساوتها ومرارتها وباتت تكتبها وتدون في حقل الذكريات تذكر وتتزاحم كلماتها وأحداثها لتدخل أبواب التاريخ فمنها مايكتب بالقلم الأبيض وعلى صفحات بيضاء ساطعة بريقها ونورها سيكون الضوء المنير في نهاية النفق المظلم والقاسي وهناك صفحات سوداء كتبت بالقلم الأسود ستكون بقعا ومحطات ستزال وتبدد ظلامها عندما ينهض الشعب ويدرس أمجاده وتاريخه وما هذه الصفحات التي تدونها الأخت زوزان سليلة وحملة أرث ذلك المعلم والقائد سيدا صالح اليوسفي إلا واحدة من تلك الصفحات لكتاب كبير حافل في تاريخ أمتنا أشترك فيه العظماء والذين قدموا ما بوسعهم لهذه المسيرة الطويلة..
أعتقل سيدا صالح في سنة ١٩٧٨ وكنت آنذاك طالباً أدرس في الجامعة كانت الأجواء مشحونة والحراك السياسي سيدة الساحة فالجبهة التي كانت تجمع الشيوعين والبعثيين على أبواب أسدال ستارها وحملات الأعتقال وحياكة الدسائس تنشر معالمها في كل صوب.
والكورد المخلصين بداءوا يشحذون هممهم ويجمعون قواتهم التي أصابتها الإنتكاسه والسقوط العسكري من جراء اللعبة الدولية والأقليمية التي تكالبت على حركتنا فشلتها وأصبغتها بفقدان القدرة في الإستمرار ومواصلة النضال
فبدأت النخب الكوردية تدرس وتحلل وتبحث عن مخرج ومنقذ لها..
فكنا شباباً كوردياً متحمساً لانعرف الركوع ولا الخنوع تجمعنا روح الكوردياتي فلم تكن الجغرافيه ولا بعد المسافات تفرقنا نعرف بعضنا البعض ونقوي صلتنا وروابطنا يعرف طلبة جامعة الموصل بطلبة جامعة بغداد وبطلبة جامعة السليمانية وبطلبة جامعة البصرة نعرف بعضنا بعضا ونتبادل الحماس والآراء ونثق بعضنا بعضا رغم الأجواء والإضطهاد والرعب المسلط على رقاب الجامعات حيث كانت الجامعات بمثابة ثكنات عسكرية مدججة أبوابها بأزلام النظام يسأل ويمنع بعض الأحيان الزيارات بين الطلبة مابينهم.
وصل إلى أسماعي بأن الشهيد سيدا صالح ألتقى في زنزانته مع الشيخ المناضل محمد مهدي الخالصي وتبادلا الحديث حول أمور متعددة وعلى رأسها القضية الكوردية ولم يبخل الشيخ بابداء حبه للشعب الكوردي وحبه العميق وأحترامه الشديد لصالح اليوسفي وأشار لهُ آنذاك بموقف الإمام الخميني والذي كان يقود الثورة الإيرانيه من موقعه آنذاك في باريس وآراء الإمام حيال حل المسألة الكوردية حالما تتاح لهم إسقاط الشاه وأستلام السلطة ووعده حالما يتم فك قيدهما والخروج إلى بر الأمان سيلتقيان خارج المعتقل ويكون اللقاء في جامع الخالصي الكبير والذي يقع في مدينة الكاظمية بغداد عندها سيظهر له الوثائق والبيانات والتصريحات المنسوبة إلى الأمام الخميني..
وفعلا تم اللقاء المنشود في المكان والزمان المحدد من يوم الجمعة وأظهر كل الأمور السرية للشهيد ولذا وحسب ما نقل لي بأن الشهيد كان متفائلاً جداً بسقوط الشاه اللعين وإحلال مرحلة جديدة سينعم بها الشعب الكوردي بنوع من الحرية ويجد من خلالها متنفساً يمكنه في الأستمرار في نضاله ونيل حريته..
وفعلاً تم إنهاء حقبة الشاه اللعين وجاءت الثورة وكانت بلا شك بداية جيدة وزفة بوادر الفرح وبدأت تباشير الأمل بأعلان بداية طيبة وشكلت طلائع الحركة التحررية الكوردية كياناتها وهيكلياتها وجرت التفاوضات إلا أن من المؤسف أشابها الخلل والنهاية المؤسفة وهذا موضوع آخر سوف لن أخوض به..
جدير بالذكر أكملت أعداديتي في أعدادية الكاظمية حيث مركز نشاط الجماعة الخالصية ويتمتعون بثقافة عالية آنذاك وكان في أعداديتنا العديد من الشباب الخالصي كانوا مناضلين أشداء على النظام البعثي ويعملون بحماس ونشاط دووب..
أكثر الجماعة الشيعية التي تؤمن بالتقارب بين المذاهب وكانت تؤمن بأزالة تلك الفوارق وكانوا يحثون جماعتهم الصلاة في جوامع السنة حيث يذهب أهالي الكاظمية للصلاة في جامع أبو حنيفة في الأعظميه وكذلك كانوا يصومون ويحتفلون بالعيد مع السنه لذا كان ينظر إليهم من الجماعات الأخرى الشيعية على إنهم شواذ وخارجين عن الصف الشيعي.
أرجوا عدم المؤاخذة للخروج بعض الأحيان من السياق المطلوب.
شكرا لتعريجيك وخوضك في دهاليز بعض الأمور المهمة.
لإعطاء موضوع كتابتك رونقاً وبهاءاً
ولابد لي أن أقتنص هذه الفسحة ومن خلالك أحيي مواقف الشيخ البارز محمد مهدي الخالصي على ضيافته وتكريمه للشهيد سيدا صالح اليوسفي وموقفه حيال قضيتنا العادلة والشعب الكوردي وفيا لمن وقف معه في أيام الشدة والمحن..)).
كما أشار سماحة الشيخ محمد مهدي الخالصي بأن والدي كان يختلي لوحده أحياناً في المعتقل ويكتب بعض الملاحظات على قصصات صغيرة ثم يتخلص منها بطريقة ما حين يدرك أن هناك تفتيش في المعتقل.

عاد والدي مرة ثانية لنشاطه السياسي بعد عودته إلى البيت.. فواجه مرحلة في غاية الصعوبة وتعرض للعديد من النكبات سواء من نظام الحكم أو من الأحزاب المعادية لهُ في المناطق المحررة... يتبع



الحلقة: التاسعة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي

أحداث عام 1979 (الجزءالأول)
جاء عام 1979 وهو يحمل بين طياته الكثير من الأحداث والمفاجأت سواء ما يخص الحركة التحررية الكوردية في العراق أو ما يخص سياسة ونظام العراق، أما بالنسبة لوالدي ونشاطه السياسي فالأعتقال لم يمنعه من مواصلة مسيرة نضاله الثوري، بل ظل مستمراً عليه وبأصرار وشجاعة، وسيأتي الحديث حسب التسلسل الزمني لهذه الأحداث في هذا العام.

في مساء الأول من آذار/ مارس 1979 وبينما والدي يستمع إلى الأخبار العالمية عبر المذياع، وإذا به يسمع عن خبر وفاة الزعيم ملا مصطفى البارزاني (رحمه الله) وكان وقع الخبر مُحزنا علينا جميعاً، وظل والدي حزيناً لعدة أيام وكنت أشعر من خلال صمته وكأنه يسترجع سلسلة ذكرياته النضالية الطويلة برفقة الزعيم، ونحن بدورنا أحترمنا مشاعره وخلوته.
أتسمت حياة والدي السياسية في هذه المرحلة الجديدة بالكثير من ألوان التحدي والصبر، حيث شعر لأول مرة منذ أن بدأ حياته السياسية بأنهُ يحمل على عاتقه مسؤولية تحدي السلطة بكل جبروتها ويحمل عبئ مصير الآلاف من الكورد الذين دخلوا مرحلة جديدة تحت ظلم السلطة الحاكمة، وقد وجدت الكثير من الجماهير والشخصيات الكوردية أن وجود صالح اليوسفي في بغداد هي فرصة طيبة ومتنفس لهم ليظهروا بعض من مشاعرهم نحو قضيتهم القومية وسماع ما يجول في أفكار والدي حول المستقبل القادم..
أستمرت أغلب الشخصيات الوطنية من المناضلين الكورد على زيارات والدي حتى بعد علمهم بأعتقاله وبمراقبات النظام لهُ، وكانوا يدركون جيداً بأنهم يغامرون ويجازفون بحياتهم بهذه الزيارات في ظل سلطة غارقة في الدكتاتورية من رأسها إلى أخمص قدميها خاصة بعد أن تولى صدام حسين زمام الأمور والسلطة في صيف 1979، يذكر الأستاذ شيرزاد محمد صالح جبرائيل:((لقد عشت قريباً جداً من الشهيد والدكم وأقدر أكثر من غيري ما قدمه لشعبه وأدرك نزاهته المنقطع النظير وأدرك كم كان يتمتع ببعد النظر، وتعلمت منه حب الآخرين دون تفرقة، لم أبتعد عنه أيام ثورة أيلول 1974 ولم أبتعد عنه بعد نكسة 1975 بل كنت أزورهُ في بغداد، وفي حينه قال لي أحد الأصدقاء وهو يوصلني إلى قرب داركم أنزلني على بعد 2 كم خوفاً من أن يتهم بأنه أقترب من داركم وقال لي بالحرف الواحد: هل أنت مجنون لتقوم بزيارة سيدا صالح وبيته مراقب من قبل مخابرات صدام..؟! وكان جوابي لهُ.. لقد عاشرناهُ صديقاً لوالدي، كنت أزورهُ عندما كان وزيراً في بغداد واليوم غيرة الرجولة لن تسمح لي بنسيان هذا الإنسان العظيم وسوف أستمر بزيارته وليكن ما يكون.. وفعلا كان بيتكم تحت المراقبة الشديدة من مخابرات صدام، فكيف أنساه اليوم نعيش أحرار في كوردستان ومبادئه في الوطنية والنزاهة وحب الناس مغروسة في عروق..)).
المراقبات الأمنية علينا لم تمنع المخلصين من المناضلين من المواصلة من أجل قضية شعبهم وبأي ثمن كان، فكانوا يستلهمون من والدي الجرأة والشجاعة والنفس الطويل والنضال من أجل تحقيق الهدف (وعلى التاريخ الكوردي أن يطرز أسماء هؤلاء المناضلين بماء الذهب) وعلى رأسهم الشهداء الأبرار صالح اليوسفي ودارا توفيق وعلي هزار وكاردو كلالي ولقمان البارزاني وشوكت عقراوي وبرهان مرشد وآخرين.. وقد أشرت إلى أسماء هؤلاء المناضلين من المنتمين إلى حركة والدي لأنهم أستشهدوا بأيدي السلطات القمعية لنظام صدام سواء بخطفهم مثل كل من دارا توفيق وعلي هزار وكاردو كلالي.. ناهيك عن مدى ما تعرضوا من تعذيب ودون معرفة مصيرهم لحد يومنا هذا..! أو بتسميمهم مثل المهندس شوكت عقراوي ولا شك آخرين(1) وقد حاولوا نفس الطريقة مع والدي، أو مِن مَن تعرضوا لحوادث السيارات والدهس مثل المناضل برهان مرشد ومحاولات عدة لدهس المقدم عزيز عقراوي ولكنهُ أستطاع الهروب من بغداد، أما عن الكوادر وأعضاء حزب والدي الذين أستشهدوا من خلال أقتتال الأخوة فيفوق عن هؤلاء الشهداء الذين أغتيلوا بأيدي النظام أضعاف ذلك للأسف..!
أزدادت زيارات المقدم عزيز عقراوي لمنزلنا، وكان غالباً ما يُدخل سيارته في كراج بيتنا لإخفائها تحذراً من المراقبات، وكانت أغلب زيارته تتم في أوقات الظهيرة وكان يبدو عليه القلق والخوف على غير عادته ويقضي بصحبة والدي عدة ساعات، بعد فترة تمكن عزيز عقراوي الفرار من خلال محاولة مُباغتة للحكومة العراقية، ثم بعدها أذيع في نشرات الأخبار العالمية نبأ فراره من العراق طالباً اللجوء السياسي في سوريا، وكان نجاحه في هذه الخطوة مفاجأة مخيبة للحكومة العراقية، فقامت بأستدعاء عائلته والتحقيق معها وطلبت منهم أعلان البراءة منه عن طريق وسائل الإعلام .
نقلاً عن الأستاذ بلند المفتي ونقلاً عن حرم المقدم عزيز عقراوي (السيدة فضيلة):(( قامت الحكومة العراقية بتدبير خمسة محاولات لأغتيال عزيز عقراوي عن طريق محاولات لدهسه أو بحوادث لسيارته..! كما أضافت.. عند محاولة زوجها الخروج من العراق بطريقة رسمية دعى بأن سفره كان لحضور مؤتمر خارج العراق، وبعد هروبه تم أعتقال مدير عام الجوازات آنذاك وإعدامه لأن المقدم عزيز عقراوي لم يكن يمتلك موافقة حكومية رسمية على سفره كما كان ينص القانون..)).
كان والدي على علم بهرب عزيز عقراوي حيث كان قد أخبرهُ مسبقاً بتحرشات الحكومة بمحاولات أغتياله، وكان والدي سعيداً بنجاحه في هذه الخطوة، إن علاقة والدي بالمقدم عزيز عقراوي هي علاقة ثقة وصداقة قوية منذ بدايات الستينيات، إضافة إلى ذلك أصبحت لنا علاقة عائلية، حيث أن (السيدة فضيلة - زوجة المقدم عزيز) هي خالة الأستاذ شكيب عقراوي(زوج أختي نارين) وكان عزيز عقراوي سعيداً بلقاء والدي مرة أخرى بعد نكسة 1975 نظراً لمحبته وتقديره الشديد لوالدي، وكان يزورنا بأستمرار دون خوف أو وجل.. وعن بدايات لقاء والدي بالمقدم عزيز عقراوي بعد نكسة 1975 يذكر الأستاذ مير عقراوي الذي ألتقى بالمقدم عزيز عقراوي عام 1983 في مدينة قم الإيرانية وبعد الحوار والسؤال عن والدي وعن الحركة التي أسسها أجابه المقدم عزيز عقراوي:((بعد أكثر من لقاء لي مع صالح اليوسفي في بيته في بغداد، قال لي: أنا بصدد تأسيس حزب كردستاني يختلف فكراً وثقافة وقيادة عن الحزب الديمقراطي الكردستاني وغيره، وفي هذا الشأن أريد منك المساعدة والعمل سوية في هذا الأمر.. فأتصلت بدوري ببعض الشخصيات الكردية مثل رسول مامند وأخبرته فوافقوا على الموضوع..)).
بعد أن وصل عزيز عقراوي إلى سوريا طلب اللجوء السياسي ثم حاول الأقتراب من الحركة الأشتراكية الديمقراطية في المناطق المحررة كعضواً من أعضائه في قيادة الحركة بعد مشاركته مع والدي في هذا النشاط والتأسيس منذ البداية، إلا أن المشاكل والمعادات وواقعة هكاري ووجود بعض الأعضاء من الموالين للأتحاد الوطني حال دون أن يستطيع المقدم عزيز عقراوي التوافق معهم، خاصة وكانت هناك معادات شخصية ونفور ما بينه وبين مام جلال، فترك الحركة الأشتراكية وأتجه نحو جماعة الأحزاب الكوردية في باكور وروز آفا كوردستان، ثم ترك السياسة لفترة ورحل إلى مدينة قم في إيران وكان يرحل ما بين إيران ولندن وسوريا...
هنا أود أن أتقدم بالتاريخ إلى الأمام وأتحدث عن المناضل عزيز عقراوي الذي أنقطعت عنا أخبارهُ منذ عام 1979 إلى أن جاء عام 1991 بعد إعلان المنطقة الآمنة في كوردستان من قبل الحلفاء عُقب أنتفاضة 1991، ففي أحد الأيام من نهايات ربيع 1991 جاء العم عزيز عقراوي لزيارتنا وهو يرتدي الزي الكردي وملثما، وتشاء الأقدار أن أفتح لهُ الباب، كانت زيارته الأولى إلى كوردستان العراق منذ عام 1979 لم أتعرف عليه وهو بتلك الهيئة الغريبة..! فسألني عن والدتي وأخي شيرزاد فناديتهما. رحبت به والدتي وأخي شيرزاد كثيراً وأخبرتني والدتي كيف لم تتعرفي على عمك عزيز عقراوي..؟ فقبل رأسي وأخذ أخي شيرزاد بالأحضان بكل شوق وأنهارت دموعه في لحظة صمت لم أنساها..! وأنهارت دموعنا جميعنا ونحن نتذكر والدي.. كان موقفاً ومؤثراً جداً وكأنهُ أعاد علينا ذكرى رحيل والدي، أخذ يتحدث لهما عن الكثير مما صادفه طوال هذه السنين بعد هروبه من بغداد وبعلم والدي وتشجيعه، ثم عبر عن مدى تأثره البالغ بأغتيال والدي، وكيف تعرض حزبه للنكسات والمعاناة والمكائد من بعده..؟!
كان العم عزيز سعيداً جداً بلقاء أخي شيرزاد، وتكررت زياراته لأخي، حيث كان العم عزيز بصدد مشروع تأسيس حزب وعرض الفكرة على أخي شيرزاد حيث كان أمله في شيرزاد كبيراً لكي يحل محل والدي.. بالرغم من أن أخي شيرزاد لم يميل إلى السياسية ولكن كان للعم عزيز تأثيراً كبيراً في تشجيعه (وستأتي التفاصيل في مناسبة أخرى)، ولكن للأسف في 16 نيسان/ أبريل 1993 تفاجئنا بحادثة وفاة أخي شيرزاد الغامضة والغريبة..! وبعدها أنقطعت زيارات العم عزيز عقراوي لنا وأنقطعت عنا أخبارهُ إلى أن سمعنا لاحقاً بوفاته في بلاد الغربة (رحمه الله) وعرفتُ لاحقاً أنهُ تأثر أشد تأثير بوفاة أخي شيرزاد، ومن حينها ترك هدفه وحلمه الذي كان يعمل من أجل تحقيقها ليعيد شخصية صالح اليوسفي على الساحة السياسية والحركة الكوردية من خلال أبنه.
في نفس الفترة من نهايات السبعينيات حاول المناضل الشهيد لقمان البارزاني، الذي بدوره كان يواظب على زيارات والدي بأستمرار، أن يفر من العراق ولكن للأسف لم ينجح في مسعاه حيث ألقت القبض عليه من خلال محاولته ولحد الآن لم يعرف عن مصيره... يتبع

هوامش:
(1)ذكر الأستاذ صباح مصطفى صالح رسول:((أختي العزيزة زوزان بعد التحية ومزيداً من الأحترام، أود أن أذكر قصة والدي المدعو مصطفى صالح رسول وهو صديقاً للعم الشهيد المناضل صالح اليوسفي منذ الستينيات والسبعينيات كما كان أيضاً صديقاً للشهدين دارا توفيق وشوكت عقراوي، بعد عودتنا إلى العراق من إيران بعد نكسة 1975 كان والدي يزوركم بأستمرار في بغداد، توفي والدي في بغداد في سنة 1982 في ظروف غامضة ومرض غريب، أنا متبع خواطرك بكل إعجاب أرجوا أن تستمري على هذا الدرب والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار)).





الحلقة: العاشرة بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
أحداث عام 1979 (الجزءالثاني).
مقدمة لا بد منها..

من خلال هذه الأجزاء من الحلقات لست بصدد فتح المواجع القديمة أو حتى أنتقاد أية جهة، فجميعنا نعلم أن لكل قائد سياسي طريقته الخاصة التي يتبعها في السياسة حسب فكره ونهجه بغض النظر عن أي شيء آخر، ولكل منهم مُريديه ومُحبيه، ونحن بدورنا نقدر نضال الجميع حتى لو لم نتفق معهم، ولكن الحق يجب يقال كما يقول المثل (قل الحق ولو على نفسك) وكما جاءت في الآية الكريمة:( ياأيُّها الذينَ آمنوا كونوا قوّامِينَ بالقسطِ شُهداءَ لِلَّه ولو على أَنفسِكُم(1))، ما أعرفهُ وما أؤمن به يجب أن تنقل الحقائق التاريخية بصدق وأمانة دون نفاق أو رياء لكي نستفيد من أخطائنا، خاصة إذا كانت هناك حقائق دامغة وموثقة.. أحد الأخوة يقول بأن القادة هم رموز تاريخية يجب تمجيدهم وتعظيمهم مشيراً أنهم خط أحمر لا يمكن تجاوزهم..؟! المجد والعظمة للخالق فقط.. كلنا ندرك أن القادة هم رموز تاريخية.. ولكن هذا ليس معناه أنهم معصومين من الأخطاء ونعتبرهم بمنزلة الأنبياء والرسل ولا يمكن تجاوزهم، فحتى الأنبياء لهم أخطاء فكيف بالشخص العادي..؟

معادات الحركة الأشتراكية الديمقراطية الكوردستانية (بزوتنه وى سوشاليست).
كما أشرت أزدادت شعبية الحركة الأشتراكية الكوردستانية وتوسعت وأصبح لها زخماً سياسياً وثقلاً جماهيرياً واسعاً خاصة في عام 1979، وهذا الشيء لم يكن يسعد الأحزاب الباقية على الساحة السياسية وعلى رأسها الأتحاد الوطني وقد بدأوا يعادون والدي والحركة الأشتراكية وأعضائها القياديين، حيث كان كل هم الأتحاد ضم قوات الحركة تحت جناحه وبأي ثمن..! رغم أنني لم أسمع يوماً بمحاولة حزب الأستيلاء على قوات وأعضاء حزب آخر.. خاصة إذا كان رئيس الحزب الثاني في موقع أسير أو معتقل تحت حكم نظام دكتاتوري.. كما هو الحال في موقع والدي، صحيح كان والدي في المنزل بعد عودته أثر نكسة 1975، ولكن وللعلم كان ممنوعاً عليه السفر خارج بغداد إلا بأمر من الحكومة (والتي كانت في كل الأحوال سوف ترفض طلبه وهذا ما كان يدركهُ والدي جيداً) لذا لم يخرج والدي من بغداد مطلقاً وتحت أية ذريعة منذ عام 1975 وإلى يوم أستشهاده في 25 حزيران 1981، وكان واضحاً من خلال موقعه هذا بمثابة أسير أو معتقل داخل العاصمة بغداد، ومنزلنا كان مراقباً دوماً ولكل يعلم بمدى قوة المراقبات الأمنية للنظام حينذاك وخاصة على شخصية مثل صالح اليوسفي..! للحقيقة والتاريخ أقولها لم يكن يختلف موقف والدي حينها من موقف السيد أوجلان الآن وهو أسير ومعتقل تحت حكم النظام التركي.. ومن هنا أتسأل هل حاولت الأحزاب الأخرى في (باكور كوردستان) من الأستيلاء على أعضاء وقوات حزب أوجلان..؟! فما أراهُ ما زال لأعضائه وقواته وحزبه نفس القوة والزخم الذي كان حينها زعيمهم أوجلان حراً طليقاً..! وما زالوا يمجدون به بكل حماس وإخلاص.. فلماذا نحن نختلف عنهم..؟! لا نفكر بالمبادئ والقيم وكل هم قادتنا السلطة والجاه والمال والنفوذ..؟! متى سنستوعب أن يكون نضالنا من أجل قضية أمتنا على أساس القيم والمبادئ والضمير من أجل الوصول إلى الهدف المنشود لهذه الأمة المنكوبة.. لا قضية شخصية وسلطة وجاه وأحتكار..؟!

نضال صالح اليوسفي في بغداد..
ظل والدي مستمراً بلقائاته مع قادة وأعضاء حركته وأزدادت زيارات الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي خاصة بين عامي 1978 وبدايات عام 1979 إلى منزلنا لنقل الرسائل فيما بين والدي وقادة الحركة، خاصة بعد أن تفاقمت المشاكل ما بين الحركة الأشتراكية(بزوتنه وى سوشاليست) وحزب الأتحاد الوطني، وأزدادت المشاكل مع بدايات عام 1979، وكما أشرت سابقاً كان هناك جناحان في الحركة الأشتراكية، جناح موالي للأتحاد وهم القلة وعلى رأسهم المرحوم عمر دبابة، وجناح الثاني وهم الأكثرية ومن ضمنهم كل من القيادات علي هزار وكاردو كلالي رسول مامند وقادر عزيز.. وآخرين وعلى رأسهم زعيم الحركة المناضل الشهيد صالح اليوسفي الذي نادى بأستقلالية الحركة بعد أن أتضحت أمامه ميول وأفكار حزب الأتحاد التي تختلف عن أفكار ومنهج حركته، فناضل والدي من أجل أستقلالية مسيرة ونهج الحركة لعدم أنجرافها إلى التشتت والضياع وصهرها داخل إي جناح آخر يختلف عنها فكراً ومنهجاً.
ولكن هذه الأستقلالية التي طالبت بها حركة والدي.. يبدو أنها لم تسعد حزب الأتحاد وطموح مؤوسسها المرحوم الأستاذ مام جلال، فتعرضت الحركة الأشتراكية لشتى صنوف المعادات والعداء من قِبل الأتحاد.. حيث كان يحاول الأتحاد منذ تأسيسه جعل الحركة الأشتراكية تحت جناحه كما حصل مع تنظيم (كومه له) وبعد أن أدركت الحركة الأشتراكية بنوايا الأتحاد، أخذت تعمل وتناضل من أجل أستقلاليتها خاصة بعد نصح وإرشادات والدي(2) وفي نهايات شهر آذار/ مارس 1979 أزدادت وتيرة المشاكل ووصلت أوجها ما بين الحركة الأشتراكية والأتحاد، أدى في النهاية إلى قرار الحركة الأشتراكية بأستقلاليتها فترك أغلبية أعضاء وكوادر الحركة الأشتراكية الأتحاد ونقلت مقراتها إلى (كوره شير القرية التابعة لقضاء سوران - أربيل)، فأدعى حينها المرحوم مام جلال قائلاً: (( بأن الحركة الأشتراكية أخذت معها حوالي 1500 من البيشمركة ما يعادل ثلث قواتنا وهكذا نرى بأن الحركة الإشتراكية أخذت معها جزءا مهما من قوات الإتحاد الوطني(3)))..! وهنا أود أن أسأل.. قوات مَن..؟! فالقوات هي من الأساس ومنذ البداية تعود للحركة الأشتراكية، فلم يكن للأتحاد الوطني أية قوات عسكرية مسلحة أو مفارز في كوردستان العراق حين تأسست في دمشق في صيف 1975 كما كانت للحركة الأشتراكية وتنظيم كومه له، بل كان لدى الأتحاد الوطني فقط جماعة من مريديه.
خلال تلك الفترة من أستقلالية الحركة الأشتراكية عن الأتحاد في نهايات آذار 1979 ومعادات الأتحاد للحركة.. يبدو أن والدي قد تأثر لموقف الأتحاد.. رغم أنهُ كان يحث الجميع على وحدة الصف من أجل قضية الشعب الكوردي دون معادات أحد للآخر وقد جاءت من خلال إحدى رسائل والدي هذا المقتطف منه قائلاً : (( أطلعت على فحوى الرسالة الموجهة اليكم من (م – ج) و (ح – ش) وعلى جوابكم الى (ح – ش) و ( ) اليكم وجهة نظري رغم تأييدي لموقفكم الموضوعي غير المتشنج ومن المصلحة المواضبة على ذلك وقد تأثرت وتألمت من موقف (م – ج) معكم كما ذكرتم والمضرة في مثل هذه الظروف والأوضاع الثمينة المواتية لشعبنا داخليا ودوليا لمصلحة مجمل حركة شعبنا في جميع أجزاء كوردستان وبمصلحته وكان من الأجدر به وهو عنصر متمرس قديم أن يكون على جانب كبير من الحكمة والتبصير والأستقامة والتواضع وعنصر وفاق ومصلحة وحياد فعلى ليلعب دوره الكبير بجانبكم في توحيد وتعزيز الحركة الكوردية التقدمية وتصعيد وتائرها بدلا عن التصرفات الأستفزازية القلقة التذبذبة والمتطرفة ومع ذلك (أحثكم) إنطلاقا من مصلحة شعبنا واستراتيجية الحزب الاشتراكي الكوردستاني المضى في نهجكم الموضوعي وتحاشي الصراعات الجانبية من مختلف الاشكال مع اليقظة والحذر الا في حدود نطاق الدفاع الشرعي كما ذكرتم وإبداءا أحسن العلاقات الممكنة معه ومع جماعته مع التحرر من كل تبعية والحرص على استقلاليتكم وتعاونكم المتكافىء...(4))).

كما يذكر المناضل علي سنجاري في كتابه: (( ولما رفضت الأحزاب الكوردستانية الإنضمام إلى الاتحاد الوطني الكوردستاني في صراعه مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني، شن الأتحاد حملة عسكرية ضد مقرات تلك الأحزاب وقواتهم وفق مفهوم (مَن لم يكن معنا فهو ضدنا) وكانت البداية ضد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الكوردستاني الحليف للاتحاد عند تشكيله، وتعرضت قوات ومقرات الحزب لحملة عسكرية كبيرة في بدايات سنة 1981 في مناطق "قرناقاو" و"بشت أشان" ما بين قلعة دزه وجبل قنديل، أدى إلى مقتل عدد من كوادر الحزب ومقاتليه، وواصل الاتحاد حملته ضد بقية الأحزاب الكوردستانية والعراقية...(5))).
من خلال هذه الأوضاع والظروف لم يكتفي الأتحاد الوطني بهذه المعادات وشن الحملات على الحركة الأشتراكية، بل أخذت تحاول تشويه سياسة الحركة وحتى قادة وأعضاء الحركة مثل الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي ورسول مامند، حيث أخذوا يبثون دعايات باطلة في حق البطلين علي هزار وكاردو كلالي(6) وبأنهما كانا مع الحكومة..!!!
الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي كانا من أشجع وأخلص القيادات في الحركة الأشتراكية الديمقراطية الكوردستانية وكانا أهم عنصرين فعالين في الحركة داخل العراق، ضحوا بأرواحهما الطاهرة من أجل قضية شعبهم وركبا الأهوال والمخاطر دون أن يبالون بأي نتائج يتعرضون لها في ظل أقسى نظام حكم العراق، وهما يخدمان قضية أمتهم بكل جرأة وبطولة وتضحيات وفداء.. قلما أنجب التاريخ الكوردي من أمثال الشهيدين علي هزار وكاردوا كلالي وسيأتي الحديث في الحلقة القادمة عن نضالهما في الأيام الأخيرة قبل أختفائهما في نيسان 1979...(يتبع)

المصادر والهوامش:
(1)سورة النساء - آية 135.
(2)في الحلقتين 101،103.
(3،6) صلاح رشيد - حوار العمر.
(4)المقتطف من رسالة - موجودة في التصميم بخط يد والدي.
(5)القضية الكوردية وحزب البعث العربي الأشتراكي في العراق - ص 211.


الحلقة: الحادية عشر بعد المائة
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
أحداث عام 1979 (الجزءالثالث).

قادة الحركة الاشتراكية.. على درب الشهادة..
تدل الأحداث اللاحقة أنه خلال هذه الفترة ظهر العديد من الواشين والعملاء السائرين في درب الخيانة (مع الأسف) من الكورد الذين كشفوا للسلطات الأمنية للنظام عن تأسيس الحركة الاشتراكية الديمقراطية الكوردستانية (بزوتنه وى سوشاليست) وعن أسماء أعضاء قيادتها، لتبدأ الحكومة بدورها سلسلة من حلقات الأعتقالات والتعذيبات والأغتيالات المنظمة للمناضلين الذين أنتموا إلى الحركة، سواء من المتواجدين في العاصمة بغداد أو في محافظات أقليم كوردستان العراق (وسيأتي ذكر هؤلاء القادة حسب التسلسل الزمني لإغتيالاتهم) وقد ظهرت هذه الوشايات مابين أعوام (1979، 1980، 1981) بصورة واضحة ومتعمدة، حيث بدأت الحرب القذرة على حركة والدي لإستئصالها من جذورها نظراً لتمدد شعبيتها الواسعة بين جماهير الشعب الكوردي، خاصة في الجانب الشرقي من مدن كوردستان العراق (سليمانية، كركوك، خانقين، إضافة إلى أربيل) وكما أشرت هذه الشعبية الواسعة لم تكن تسعد باقي الأحزاب والحركات، ولم ينتهي هذا الحرب وهذه الوشايات حتى بعد أغتيال مؤوسس وزعيم الحركة والدي الشهيد في 25 حزيران 1981 بل تجاوزت إلى ما بعد ذلك في سلسلة من الحملات و الأعتقالات والأغتيالات ضد الحركة، وأستمروا على كشف أسماء عدة قيادات ومناضلين آخرين من مدن أقليم كوردستان والمشاهد لا تعد ولا تحصى.. وعلى سبيل المثال يذكر الأخ وريا محمد أمين عبر رسالته:(( مرحبا ست زوزان.. أنا وريا من كركوك والدي كان أحد المناضلين مع والدك الشهيد، كان والدي متأثر بشخصية والدك ويجود به ويعلم الكثير في حياتهم السياسية، كان هناك إتصال بين والدكم والشهيد علي عسكري عن طريق والدي... وقبل أستشهاد والدكم أمروا والدي بإخراج الشهيد من بغداد قبل إغتياله.. لكن مع الأسف عندما وصل الخبر إلى والدي بيوم واحد أغتيل والدكم الشهيد.. كان والدي مسؤول التنظيم الداخلي في كركوك (بزوتنه وه سوشاليست) آنذاك وكان من المتأثرين بشخصية الشهيد صالح اليوسفي كثيراً.. وكان دائمأ يحدثني عن شخصيته.. وبعد إستشهاد الوالدكم ألقوا القبض على والدي وسجنوهُ وعذبوهُ أشد التعذيب لكي يعترف على الخلية الداخليه في كركوك وبغداد.. ولكنه لم يبوح بأي كلمة.. ولا يزال آثار التعذيب موجود في جسم والدي لحد الآن..! تحياتي لكِ..))، كما دبر الجهاز الأستخبارتي للنظام ببركة الواشين عملية أغتيال بورهان مرشد برفقة أخيه شيروان في شباط 1983 بحادث سير، كان بورهان يرافق أحياناً الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي في نقل الرسائل بين والدي وقيادات الحركة، وهناك العشرات من مثل هذه المشاهد التي كانت تدبر ضد والدي وقيادات وأعضاء الحركة، فكم من الأيادي تلطخت بدماء أبناء بني جلدتهم وكم منهم تعذبوا بشتى الأساليب المروعة بسببهم.. فأي نضال هذا..؟!! هكذا لعب الواشين والعملاء دورهم، وفي نفس الوقت تعرضت الحركة إلى حملات تصفيات من نوع آخر في المناطق المحررة في كوردستان..!

مشهد مع البطلين الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي..
كانت الأتصالات وتبادل الأراء والتقارير بين والدي وقيادات الحركة الاشتراكية الكوردستانية تتم عن طريق مندوبين أبطال وضعوا أرواحهم بين أَكُفهم عندما كانوا يأتون إلى منزلنا في بغداد ويجتمعون بوالدي رغم القبضة الحديدية التي كان يمسك بها النظام السابق بكافة أجهزتها القمعية الأمنية والأستخباراتية، وأستمرت أجتماعات والدي مع خيرة القيادات المناضلة وعلى رأسهم البطلين الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي اللذان كانا أهم حلقة وصل بين والدي في بغداد وقادة الحركة الإشتراكية في جبال كوردستان.
كانت زيارات الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي تدعوا إلى نوع من الراحة النفسية والأطمئنان لوالدي، وكنت ألاحظ ذلك حينما يصادف أحياناً أن أفتح لهما الباب لأخبرهُ بأن زائريه علي هزار ورفاقه، حيث تعرفنا جميعاً مَن في البيت على شخصيتي الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي اللذان كانا يزوران والدي منذ صيف 1975 وإلى حين ربيع 1979 خلال زيارات مستمرة على مدار أربع سنوات، دون أن نعلم بتفاصيل نشاط والدي والدور المهم لهذين المناضلين، أغلب الأحيان كان يأتي الشهيدان علي هزار وكاردو كلالي معاً وأحياناً يرافقهما بورهان مرشد وفي المرات الأخيرة كان يرافقهما شخصاً آخر لا أعرف هويته.
وكانت تشاء الصدف أن أطلع بصورة غير مباشرة على نماذج بعض من الرسائل على مكتبة والدي سواء التي كان يرسلها والدي للقيادة أو بعض من ردود الرسائل من القيادة التي كان يجلبها علي هزار وكاردو كلالي، وأتذكر كيف كان والدي يطوي الرسائل بصورة منتظمة عدة مرات إلى أن تصبح بحجم علبة الكبريت الصغيرة ثم يلفها بورق ثم ورق لاصق، وبنفس الشكل كانت تأتي الردود..
في إحدى الأيام من عام 1979 وأنا على يقين إنها كانت المرة الأخيرة التي ألتقى بها والدي بالشهيدين علي هزار وكاردو كلالي، وسأسرد بالتفصيل ما حدث خلال ذلك اليوم نظراً لأهمية هذا المشهد المفاجئ والغريب الذي حدث في منزلنا لأول مرة، والذي يبدو أنه لا شك كان هناك شيئاً مقلقاً يلوح في الأفق..! كان الوقت ظهراً وكان والدي مجتمعاً بهم في غرفة الضيوف، كنت في المطبخ أعد لهم بعض العصائر.. بعد مدة سمعنا جرس الباب الخارجي.. ذهبت لأرى الطارق حيث توقعت إنشغال والدي بضيوفه وحين وصلت الهول الداخلي.. وإذا بي أتفاجأ..! حين رأيت والدي وهو ينادي ضيوفه ويأخذهم من غرفة الضيوف إلى غرفته الخاصة المقابلة للهول الداخلي، رأيت هذا المشهد بأم عيني وأنا في حالة من الأستغراب لقيام والدي بإخفاء ضيوفه ولأول مرة..؟! فلم يسبق أن حصل ذلك من قبل..! ولأول مرة رأيت بعض القلق والأرتباك على سحنات وجه والدي وضيوفه..! شعرت وكأنه كان يخشى على ضيوفه من هذا الطارق..! تسمرتُ في مكاني ولا أعرف ماذا أفعل..؟! وبعد أن أدخلهم والدي في غرفته.. سألته في الحال: هل أذهب بابا لأرى مَن الطارق..؟
أجاب: لا أنا سأنظر.. أسرعتُ وراء أبي إلى غرفة الهول لأنظر من خلال الشباك المشرف على الباب الخارجي مَن الطارق الذي تسبب في قلق والدي وضيوفه..؟! وبعد أن تأكد والدي بأن الطارق ليس إلا أحد أبناء الجيران يدعي بأن كرته قد وقعت في حديقة منزلنا..! فعاد والدي مطمئناً وعاد بهم إلى غرفة الضيوف مرة أخرى ومكثوا لبرهة من الوقت، رغم عدم أستيعابي بما يجري حينها (كنت في المرحلة الثانوية) إلا أنهُ في الحقيقة ساورني بعض القلق والخوف على والدي وضيوفه وأدركتُ بأنه لا شك هناك شيئاً يتحرز ويتحذر منه والدي، فذهبت إلى غرفة الهول الملاصقة لغرفة الضيوف لعلي أسمع شيئاً عما يدور مع والدي وضيوفه لأطمئن عليهم.. كان هناك حديثاً هادئاً يجري باللهجة السورانية.. وبعد فترة تقدما نحو باب المدخل وعندها قال لهم والدي أنتظرا حتى أتأكد من الطريق.. راقبت والدي من خلال شباك الهول.. رأيت والدي خرج وكأنهُ يراقب ليتأكد من خلوا الطريق.. ثم عاد وصاحب ضيوفه حتى الباب الخارجي.
لابد أن والدي وضيوفه كانت لديهم القناعة التامة بصحة شكوكهم حول أكتشاف أمرهم بشأن هذه الزيارات والأجتماعات من قِبل الجواسيس والخونة، وكان يبدو أن أبي أصبح لا يطمئن للظروف وأن هناك شيئاً ما قد بدأ يَحذر منهُ، ومما زاد من إيماني بقوة شكوك والدي بعد هذه الحادثة هو إعطاءه لي مجموعة من الرسائل والأوراق وأخبرني بأن أحتفظ بها في مكان آمن جداً، أستلمتها من والدي دون أن أزعجه بأي سؤال حيث كنت أصلاً لا أستوعب ما الذي كان يجري حينها، فذهبت بها إلى غرفتي وأنا في غاية السعادة لثقة والدي بي لأقوم بهذه المهمة، وشعرت وبمنتهى العفوية وكأنني أصبحت بطلة مناضلة مثلهُ وبأنني أشاركه في هذا المشروع النضالي..
في يوم 9 نيسان 1979 أختطفا المناضلين علي هزار وكاردو كلالي من قبل قوات.. والرويات تتناقض حول أختفائهما ونقلهما إلى جهة مجهولة دون أعتراف من أحد على مصيرهما لحد يومنا هذا.. خاصة وأن الشهيدين لما يكونا شخصين عاديين بل كانا من قيادات الحركة (بزوتنه وه سوشاليست) ولهما نضال تاريخي ودور مميز في مدينة أربيل، وهذه الحقائق ليست مخفية عن الشعب الكوردي ولكن هناك أسباب للتستر على تلك الحقائق كما صرح لي أحد الأخوة، وكان يبدو الهدف واضحاً والنيات غير صافية من القضاء على المناضلين الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي من أجل قطع هذا المنفذ المهم مابين زعيم الحركة صالح اليوسفي وبين القيادات في المناطق المحررة..!
وحسب تصريح الأخت سيران سفين تذكر:(( ألقي القبض على علي هزار وكاردو كلالي في نيسان 1979 وقد بقيا حتى إعلان العفو العام لتلك السنة ولكن البعث وجلاوزته الأمنية لم يطلقا سراحهما وقاموا بتدوين إفادات مزورة على أساس أنهما من أفراد البيشمه ركه ونزلا من الجبل للقيام بعمليات فدائية ضد السلطة وبعد تهيئة ملفات وتدوين أعترافات ملفقة قامت الاجهزة الأمنية بإعدامهما.. وحسب علمي بعد الأنتفاضة حصل أهلهما على تلك الملفات.. وكان من المقرر أن يلتحق بالثورة كل من علي وكاردو والشهيد ماموستا سعد عبدالله وماموستا أمين ومحسن مام يحي.. ولكن مع الأسف عدا علي وكاردو.. الباقي ألتحقوا كلٌ على حدى.. وأتفق معكِ بأن المكر والمؤامرات والغدر والخيانات والسلطة وأذنابها قاموا بهذا الدور.. المهم كان هدف الجميع أن لا تستقر ولا تنمو ولا تتكاثر الحزب الأشتراكي الكوردستاني.. وأقول هدف الجميع كانت السلطة...)).
الشهيدين علي هزار وكاردو كلالي كانا من أشجع القياديين الذين تكفلا بمهمة القيام بحلقة الوصل بين القائد المؤسس الشهيد صالح اليوسفي في بغداد وبين باقي أعضاء القيادة في المناطق المحررة من كوردستان.. لم ولن يرحم الله ولا التاريخ مَن يحاول الأنتقاص من نضال هذين الشهيدين...هؤلاء هم نماذج للأبطال الذين ضحوا بحياتهم وعوائلهم من أجل مبادئهم وقضية شعبهم، ألف رحمة ونور على أرواحهم الخالدة... يتبع



تم عمل هذا الموقع بواسطة