الحلقة: الخامسة والستون (مفاوضات 1974 الجزء الثاني)
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
يذكر الأستاذ أسعد زيباري عن آخر عدد من مجلة (روژ كوردستان - شمس كوردستان) التي كتب فيها الشهيد اليوسفي آخر أفتتاحية لهُ في هذه المجلة، وكانت حينها تمر المفاوضات والأحداث في مرحلة صعبة ومريرة من تاريخ الشعب الكوردي وذلك خلال إنتهاء فترة أتفاقية 11 آذار وبدأ دق ناقوس طبول حرب 1974، يقول الأستاذ زيباري: وجدت الأستاذ الشهيد صالح اليوسفي رمز التواضع والنزاهة والسيرة المستقيمة والمخلصة في مكتبتي من بين المجلات العزيزة علي آنذاك مجلة شمس كردستان الصادرة من جمعية الثقافة الكوردية في بغداد باللغتين العربية والكوردية، وكان رئيس تحريرها الأستاذ صالح اليوسفي، آخر عدد للأستاذ اليوسفي كانت في شباط / فبراير 1974 قبيل أستئناف القتال في مابين الحكومة العراقية والحركة الكوردية، كانت مجلة شمس كوردستان ذات رائحة كوردية نقية في عهد الأستاذ صالح اليوسفي، بعكس الفترة التالية والتي أنيطت رئاستها لكل من الأستاذ مكرم طالباني ثم الأستاذ هاشم عقراوي حيث تلونت حينها بصبغة النظام، كان الأستاذ اليوسفي يكتب أفتتاحيات الأعداد على نفس طريقة أفتتاحيات جريدة التآخي في عهده من حيث المضمون الفكري العميق ولغة رصينة دسمة، وهي تستحق المراجعة والدراسة لإستخلاص وأستنباط دروس تنير الطريق للأجيال، هنا يقدم الأستاذ اليوسفي أفتتاحية العدد 16 في وقت حساس جداً نقتبس منها الفقرتين الأوليتين:
((يواجه الشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته المتآخية وقواه الوطنية وجماهيره الكادحة خلال الأسابيع القليلة القادمة أدق وأخطر الأيام الحاسمة في تاريخ نضاله وهي تركض لاهثة للولوج في بوابة الربيع بعد مسيرة طويلة شاقة محفوفة بالقلق والذعر تارة والتفاؤل والإطمئنان تارة أخرى.. لقد قطعت أتفاقية آذار شوطا كبيراً من رحلتها المضيئة والمدلهمة(1) في نفس الوقت وهي الآن على مشارف نهاية مطافها فما أحرانا وأحوجنا جميعا أن نكون على قدر كبير من الفطنة والحذر لإدراك أهمية هذا الوقت القصير والثمين وكنه هذه المعضلة الكبرى التي هزت مجتمعنا العراقي من الإعماق وأحدثت فيه إنعطافا مؤثرا وشديداً في مجرى تاريخ نضاله الوطني التقدمي وفي أستقطاب طاقاته المتشتة وتخطيط وإرساء قاعدته الصلدة ورسم آفاقه الرحبة لحاضر ومستقبل الشعبين الشقيقين العربي والكردي وتمتين الروابط المصيرية التي تشدهما مع بعضهما شداً محكماً لحمته تفاعلات حركة التاريخ المشترك..)).
يذكر الأستاذ هاشم هوليري: كنت من المحظوظين بألتماس مع والدك السيدا رحمه الله وأسكنهُ فسيح جنانه، وذلك خلال فترة 1970 إلى 1974 حينما كنت مدير إدارة فندق صلاح الدين والتي هي الآن المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني، والذي هو بالأصل كان القصر الملكي للملك فيصل الثاني، وكان الشهيد يتردد بشكل دوري على الفندق أو بالأحرى كان مركزاً للمباحثات بين الحكومة المركزية وإدارة الحكم الذاتي لكوردستان وكان الشهيد يلتقي بالوفود الأجنبية حينذاك، وكنت ألتقي به في خلوته وكان يتسم بشخصية إجتماعية ويسمع لكل كلمة ويجيب عليها وكان ذو شخصية فذة بكلماته التي كانت تصب في طموحات شعبنا الكوردي، كان صلباً ضد أعداء الكورد، وعندما يلتقي بميشيل عفلق وشبلي العيسمي وكنت حاضراً عندما أبلغهم بأننا ككورد لن نتنازل عن حقوقنا ولن نقبل بحكم ما لم يكن لنا سلطة فيه، ولم نقبل بأن تفرض علينا ما لم نكن على دراية بها..)).
بدأ صدام حسين خلال هذه الفترة يسيطر على الساحة السياسية والحكم بكل قوة، وكان يدير دفة المفاوضات مابين النظام والقيادة الكوردية، ومن جهة القيادة الكوردية كانا محمد محمود عبد الرحمن وحبيب كريم مسيطران على المفاوضات.
يذكر الأستاذ فاروق مصطفى:((أخبرني اليوسفي بأن حامد الجبوري زاره أثناء مؤتمر الشبية الكوردستانية في أربيل بداية سنة 1974 في محل إقامته بالفندق، وتوقع خيراً لآخر لحظة قبل القتال، وطلب حامد الجبوري من اليوسفي عدم المشاركة في التمرد، وأن أحمد حسن البكر وصدام والقيادة ستأمن له كل شيء، لكنه حمله رسالة واضحة بأنه يفتخر بشعبه وعلى السلطة تلبية مطاليبهم المشروعة، كان اليوسفى يناضل بصعوبة وثبات من أجل عدم الإنجرار للقتال، في بدايات آذار عام 1974 قام صالح اليوسفي برفقة غانم جليل للقيام بزيارة للزعيم ملا مصطفى البارزاني، فأرسل الزعيم نجله إدريس إلى بغداد للمشاركة في المفاوضات الأخيرة..)). كانت هناك رسائل متبادلة بين صدام حسين وبين الزعيم البارزاني للوصول إلى حل نهائي..
يذكر الأستاذ إحسان شيرزاد: (( يوم الثلاثاء.. أجتمعنا مساءً في جريدة التآخي مع حبيب، ومحمد محمود، وصالح اليوسفي، ودارا توفيق ومحسن دزه يئ، وفؤاد عارف، وتكلمنا حول الوضع، وكان قد أرسل البارزاني رسالة إلى صدام، وقد قابل صدام محمد محمود وحبيب كريم وجرى الحديث حول الوضع وقد بين إنهم متمسكون بمشروعهم.. آخر رسالتين بين الزعيم البارزاني وصدام حسين حول طلب الأخير لإرسال أحد أبنائه مع الوفد المفاوض.. وقد أدى الأختلاف في المباحثات التي جرت حتى 2 آذار/ مارس 1974 إلى مقاطعة القيادة الكوردية للأجتماعات وبدا أن الحكومة على وشك أن تشّرع قانون الحكم الذاتي في موعده المحدد في 11 آذار/ مارس 1974، وجاء السيد إدريس البارزاني في 9 آذار/ مارس إلى بغداد حاملا رسالة إلى الحكومة، وجدنا إنه من المستحسن أن يجتمع صدام بصورة منفردة مع السيد إدريس، وقبل ذلك تسلم إدريس رسالة من الحزب الشيوعي السوفييتي وكانوا شديديّ الطلب بإتباع طرق السلم وعدم الإقتتال ووجوب الإتفاق وقد أجتمعنا مع إدريس، وأبلغناه بإنه من الضروري أن يبين الإستعداد الكامل للتفاهم... وبعد مدة طويلة رجع إدريس، علمنا أن صدام قد تباحث معه وقيل له إنه ليس هناك شيء جديد وقد أعلموه أن هناك إجماعا لمؤتمر قطري إستئناثي غداً حول المسألة الكردية.. لم أرتح شخصياً للموضوع خصوصاً وإنه لم يكن شيء جديد لدى الأخ إدريس غير طلب التأجيل وهذا ما لا يوافقون عليه رأي المؤتمر القطري.. جاء في رسالة السيد إدريس بأختصار:(إن ما قدمناه هو ما نعتقده صحيحاً وعليه فليس لدينا مقترحات جديدة..)، صباح السبت أجتمعنا في قصر بغداد جاء غانم عبد الجليل، حاملا رأي المؤتمر القطري وهو كما مبين...هناك مجال إلى الساعة الثانية عشرة ليوم 11 آذار لتقديم مقترحات جدية حول القانون والمنطقة، عند عدم تقديم المقترحات والإتفاق على القانون والمنطقة في ذلك الوقت فسيعلن القانون وتعطي مدة خمسة عشر يوما للمناقشة حول المنطقة فقط والموافقة على القانون ودخول الجبهة.
كان الرأي بنظرنا غريباً ومفاجئاً لذلك قرر إدريس الرجوع مع الوفد حالا، تحركنا بالطائرة إلى كركوك ومنها بالهليكوبتر إلى راوندوز ومنها بالسيارات إلى قصرى وأجتمعنا ليلاً مع الإخوان وبدأنا بإعادة النظر في القانون وتوصلنا لنتائج لا بأس بها إذ قبل المشروع الحكومي ما عدا أربع نقاط حول الميزانية والمالية والعدل وهي أمور ثانوية... أشترك الملا مصطفى البارزاني في الموضوع وبين بأنه لا يمكن قبول التنازل عن كركوك لذا فقد قدم مقترحاً فيما إذا كان من الأسباب الموجهة الإشارة إلى إختلاف منطقة كركوك عن سائر أرجاء كردستان فيقبل بإدارة مدينة كركوك بقانون خاص تابع للمركز وقد كان قبول ذلك غير بعيد من الملا، غير إن الجماعة الحوا على معارضته مما أدى إلى إنه سحب تأييده للإقتراح..!(2).
كنت أسمعُ والدي يناقش أمي: أصبحت لوحدي في هذه المحنة لا أحد يستمع إلى كلامي ونصحي، القلة منهم يؤيدوني بصمت والآخريين يتبعون أصوات طالبي دق ناقوس الحرب..! إنهم يجهلون ما يفعلون..! سيقودون نفسهم وهذه الأمة إلى الهلاك.. الشاه يدفعهم دفعاً للحرب من أجل مصالحه، أقول لهم الشاه سوف يسحبكم ويضع تحت أرجلكم صابونة.. ستتزحلقون وتقعون وقعة لا ندم بعدها.. ولكن دون فائدة..!
كانت أمي ترد: طالما لم يسمعوا نصائحك إذاً تقاعد وأتركهم..؟.
رفض أبي إقتراح أمي: لن أترك شعبي بعد هذا النضال الطويل.. خاصةً وأني أدرك المصير الذي يسيرون إليه.. لا بد أن أكون معهم لآخر المشوار.. أنا واثق إنها مؤامرة مُدبرة لنا وأعلم جيداً ما ينتظرنا إذا ما نشبت الحرب، الموقف حرج وصعب، هناك صقور من كلا الجانبين..!
يذكر الأستاذ محسن دزه ئي: (( قبل أستئناف القتال ضد الثورة الكوردية من قِبل النظام البائد بأسابيع كنت أنا واليوسفي ضمن الوفد الكوردي المفاوض مع الجانب الحكومي لمناقشة بنود أتفاقية آذار ومدى ما طبق ومالم ينفذ بعد، كان اليوسفي يبذل جهوداً جبارة للتوصل إلى حل سلمي وصيغة ملائمة.. ولكن إصرار النظام على شروطه وفرضها.. حال دون ذلك وذهبت جهود صالح اليوسفي وأمثاله من الخييرين أدراج الرياح، فأستأنفت السلطة القتال وشنّت حربها في أوائل نيسان من عام 1974 (3).
يضيف الأستاذ حازم اليوسفي: ((تعثرت المفاوضات وكان هناك أختلاف كبير في وجهات النظر..! كان العم الشهيد صالح اليوسفي معروفاً بحكمته وواقعيته وبعد نظره في أستقراء الأمور ومن منطلق هذه المبادئ كان يبذل جهوداً مضنية من أجل توصل الطرفين إلى إتفاق منعاً لسفك الدماء والحيلولة دون وقوع أية كارثة أو تعرض أبناء شعبنا لمآس أخرى، مع عدم المساس بالثوابت الأساسية لحركة التحرر الكردية وكان مدافعاً عن هذا الرأي إلى الفرصة الأخيرة ولكن دون جدوى، فأصدر مجلس قيادة الثورة قانون الحكم الذاتي بشكل إنفرادي(4)... يتبع
المصادر والهوامش:
(1)المدلهمة: المظلمة، كثيف السواد.
(2)مذكرات الأستاذ إحسان شيرزاد - رسائل الزعيم البارزاني وصدام حسين خلال مفاوضات 1974.
سيادة الأستاذ صدام حسين.. نائب رئيس مجلس قيادة الثورة
السلام عليم ورحمة الله وبركاته
لا يخفي على سيادتكم دقة الموقف بالنسبة إلى القضية الكردية، ولقد أبدينا من جانبنا سلسلة من المواقف والأعمال الإيجابية، بغية التوصل إلى حل مرض للقضية يخدم مصلحة شعبنا العراقي، وشعبنا الكردي على حد سواء، وكان آخرها مجيء الأستاذ إحسان شيرزاد إلى طرفنا بعد مقابلته لسيادتكم، والتي أبديتم خلالها الأستعداد للتفاهم، وحل المشكلة بصورة معقولة وقد توصلنا إلى قرار إرسال أحد أبنائنا مع عدد من الإخوان من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية إلى بغداد لملاقاة سيادة رئيس الجمهورية المهيب أحمد حسن البكر، وسيادتكم، وأستئناف المداولات، ولكن فوجئنا بإذاعة إتخاذ قرار نهائي بخصوص صيغة الحكم الذاتي ومن ثم عاد الأخ شفيق أحمد من بغداد بعد الإجتماع مع الإخوان إحسان شيرزاد وغانم عبد الجليل وقررنا مرة أخرى إرسال الوفد المذكور أعلاه بيد إننا فوجئنا ثانية بإذاعة التقرير السياسي للمؤتمر الثامن لحزب البعث العربي الإشتراكي، والذي تضمن إساءات بالغة لا مبرر لها إلى حزبنا والحركة الكردية، الأمر الذي جعلنا نعتقد أن لا جدوى من إرسال الوفد في هذه الأجواء لا يخامرنا شك في أنكم تقدرون أهمية حل القضية الكردية على أساس الحكم الذاتي وتنفيذ ألتزاماتنا المتقابلة بموجب بيان 11 آذار التاريخ الذي كان لكم دور كبير في إنجازه.
وإننا بهذا الصدد نتطلع إلى إقدامكم على وضع حد للسلبيات والقيام بخطوات إيجابية ومن ناحيتنا نود أن نؤكد لسيادتكم بأننا لن نألو جهدا من القيام بكل ما يضمن القضية سلميا وعلى أساس الحكم الذاتي وتعزيز الوحدة الوطنية... وتفضلوا بقبول فائق التقدير والإحترام
أخوكم مصطفى البارزاني
رسالة صدام حسين الى الملا مصطفى البارزاني
السيد مصطفى البارزاني المحترم
تحية طيبة
أطلعنا على رسالتكم المؤرخة.. ولا شك إنكم تذكرون بأن اليوم كان موعدا مثبتا لإجتماعنا مع وفدكم للإستمرار في المفاوضات بغية التوصل إلى إتفاق حول صيغة الحكم الذاتي وما يتعلق به من أمور ورغم حضور كافة الأطراف الوطنية فقد فوجئنا بعدم حضور وفدكم، إضافة إلى ذلك فقد صدرت إيعازات من قبلكم إلى مسؤوليكم في بغداد والمحافظات الأخرى بالإنسحاب من أماكن عملهم وسكناهم والإلتحاق بمقراتكم في أعالي الجبال، إن هذا يعني من وجهة نظرنا قطع المفاوضات من جانبكم ورغم ذلك وتقديراً منا لمسؤولياتنا إتجاه شعبنا ومصالح البلاد العليا واصلنا من جانبنا بذل الجهود معكم عن طريق السيد إحسان شيرزاد ولا زالنا لحد الآن عند موقفنا الذي إبلغكم به بأن المجال مفتوح بالنسبة لنا ولغاية يوم آذار لإستمرار المفاوضات مع وفدكم في حال قدومه بالسرعة الضرورية وإن يكون مخولا تخويلا كاملا للإتفاق على كافة المسائل ضمن بنود وروح بيان الحادي عشر من آذار وبما يخدم ويعزز وحدة البلاد وسيادتها الكاملة ويصون الأمن والإستقرار فيها.
سبق وأن أعلمنا السيد فؤاد عارف بتاريخ.. رغبتكم في إرسال أحد أنجالكم إلى بغداد ورغم ترحيبنا بذلك مرارا لم يتحقق ذلك لحد الآن..
أيها الأخ تقديراً منا لمسؤولياتنا إتجاه شعبنا الكردي خاصة وشعبنا العراقي عامة لم ندع السلبيات والحوادث الكثيرة، والخطيرة التي قام بها مسؤولوكم ومسلحوكم في مختلف المناطق خلال المفاوضات ولحد الآن تؤثر على رغبتنا الصادقة في التوصل إلى الإتفاق معكم.
إن التقرير السياسي للمؤتمر القطري الثامن لحزبنا يحتوي على تقييم موضوعي كامل لمسيرة الثورة الظافرة بما في ذلك تقييم القوى الفاعلة في المجتمع بسلبياتها وإيجابياتها ولا نرى فيه ما يؤثر على مجيء وفدكم في حالة وجود الرغبة الجدية في إرساله وبحث الأمور المتعلقة وحسمها نهائيا بإتجاه إيجابي وخاصة إذا أخذنا بنظر الأعتبار الحرص على الوقت المتبقي لغاية 1 آذار ـ وتصميمنا على إذاعة الحكم الذاتي في موعده المقرر
إننا نرحب بوفدكم كما كنا آملين أخذ ما مر بنظر الإعتبار والله من وراء القصد مع التقدير
أخوكم صدام حسين.. نائب رئيس مجلس قيادة الثورة
(3) كيف عرفت الشهيد صالح اليوسفي ... محسن دزه يي .. صلاح الدين 6-6-2004
(4)حازم اليوسفي - الشهيد صالح اليوسفي