الحلقة: الحادية والثمانون - الجزء السادس من أتفاقية 6 آذار 1975
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
كما سبق وأشرت كانت الأحداث خلال هذه الفترة الزمنية القياسية تجري بكل سرعة، كان والدي لا يضيع دقيقة ولا حتى ثانية من وقته للعمل من أجل إنقاذ شعبه من هذه المحنة..
بعد أن وصل الخبر إلى مسامع الشاه بقرار القيادة بأستمرار المقاومة دون مساعداته وبعد أن علِم بخطوة والدي لمبادرته للسفر إلى سوريا، أرسل الزعيم السيد فرانسوا حريري ليبلغ والدي بأن نظام الإيراني لن يقبل القيام بهذه الخطوة وإن الشاه قد صرح إذا قمتم بها فسوف يضربكم..! كان هذا مختصر الرسالة التي بعثها الزعيم عن طريق فرانسوا حريري.. والذي أشار إليه الأستاذ حازم اليوسفي أيضاً كشاهد عيان(1)، والذي بدوره أعاد والدي مرة أخرى إلى الحزن وخيبة الأمل من هذه الخطوة التي بنى كل آماله عليها.
أرسل والدي في الحال رسالة إلى مقر البارزاني ليقابله ثم ذهب إليه في عصر نفس اليوم.. حصل حوار ما بين الزعيم ووالدي حول الموضوع وكان والدي في أشد حالات الإنهيار النفسي والمعنوي.. وفي الختام طلب من الزعيم بأنه سوف يقوم بخطوة الرهان على المجازفة الأخيرة رغم يقينه من ضعف أمل النجاح فيها.. ولكنه صمم في قرارة نفسه وأخبر الزعيم.. بأنه في كل الأحوال لم ولن يبقى تحت رحمة الشاه في إيران.. ولن يدع أن يذهب شعبه دون راع.. وبأنه مستعد أن يجازف بحياته من أجل ما يمكن إنقاذهُ حتى وإن كان الثمن حياته.. لذا طلب من الزعيم أن يسمح لهُ بأن يلتقي بأحد الضباط أو أية شخصية عسكرية مهمة من أسرى الجيش العراقي لديهم.. وإنه ينوي في محاولة أخيرة بأن يرسل رسالة إلى النظام العراقي.. لعل وعسى أن يستطيع الوصول إلى حل مشرف لقضية أمته مع الحكومة العراقية.
لبى الزعيم البارزاني طلب والدي وكان حينها الزعيم أيضاً في حالة من اليأس والصدمة الكبيرة جراء تلك المؤامرة.. خاصة وأن حالة الزعيم الصحية ومع هذه العوامل النفسية بدأت تزداد سوءاً مع بدايات رحلة مرضه، ثم عاد والدي إلى مقره ينتظر تحقيق طلبه من قِبل الزعيم كما وعدهُ..
يذكر الأستاذ الفاضل صبحي جميل عبر رسالته وشهادته: (( أسرد إلى أبنة الأجاويد آخر الأيام الوالد لأفرغ ما بجعبتي.. عند إبرام الأتفاقية بين العراق وإيران أصبح وضع الحركة الكوردية معقدة والبيشمركة في تخبط السياسي مغلوب على أمره..! بقينا مع الوالد الشهيد المرحوم كنا مثل السور حوله حيث لم يبقى نظام ولا قانون حينها.. والله زوزان إن صح التعبير كنا نضع الوالد في مقلتينا، حيث كنت مع الأخوان سائق الوالد مع سكرتيره والمرحوم كريم عقراوي والأستاذ فاروق محمود (موجود في الخارج) والسيد حكمت ملا عزو في عقرة وكثيرون قد أنساني الدهر، الوالد رغم الظروف الصعبة كان لا يهاب من شيء سوى الإيمان بالله وحب الوطن أعتكف في مقره من ٧ آذار إلى ما بعدها.. وأخد يكتب ملاحظاته حول ظروف شعبه وطلب منا شراء قطع من النايلون السميك.. وكما سمعت بأن كتابات الوالد وضعوها في النايلون بصورة محكمة ودفن في منطقة بابكراوا.. سألت كثيراً من الأخوة أين دفن كتاباته لكن دون جدوى..؟!
تجمع حينها كثير من الأخوه المناضلين عند مقر الوالد لأخذ النصيحة منه قسم من الأخوه قاموا بجمع السلاح من الذين عبروا إلى إيران.. وأذكر الأخ عبدالله جنيد، والأستاذ فاروق مصطفى رسول (من القيادة المركزية للحزب الشيوعي صاحب المدينة الطبية في السليمانية)، الكل بأنتظار الوالد وما يملي لنا من أوامر.. خرج علينا.. وأستقبلوهُ كل الأخوه بتقدير وأمل.. فأمر الكل بالتريث لحين الأتصال بالقيادة.. ثم ذهب إلى مقر القيادة وعاد بعد فترة.. وأمرنا بأن كل الأمر أنتهى وسأعود إلى العراق وكل واحد منكم مسؤول عن نفسه وعن قراره.. ولكن نصحنا بالعودة إلى العراق أفضل من أن نرتمى في أحضان نظام الشاه.. وقد ضحى بحياته ليكون جسراً لكل الذين يعودون إلى الحكومة.. كنا نراقب الوالد خوفاً على حياته ولكن كان لايهاب من شيء..! أتفقنا مع الأخوه أن نكون حاضرين لتوديع الوالد لكن خرج من عندنا سراً لسببين.. الأول ربما حفاظاً على سرية العودة.. والثاني أن لا يرى ملامح الحزن لأبناء وطنه.. أبنة الأجاويد هذا آخر ذكرى عن الوالد أستودعتك ولك كل التقدير ولأمل.. تحياتي..)).
نقلاً عن المرحوم فرانسوا حريري من خلال تعقيب لهُ في جريدة (خه بات) ذكر فيها: ((عملاً بحرية النشر وتوثيقاً للتاريخ أود أن أبين ما يلي: كنت في ذلك التاريخ، أي عام 1975 في الجبهة الأمامية في منطقة بالك التي كانت تدور فيها المعارك بين الثورة الكوردية والقوات الحكومية، وذات يوم أستدعيت إلى مقر القيادة، حيث طلب مني إصال الطيار الأسير صفاء شلال(2) إلى حيث يقيم المرحوم صالح اليوسفي في منطقة (باوه كراوه) الواقعة بين دربند رايات وحاج عمران، وفعلاً أوصلته بسيارتي ومعي عدد من حراسي وسلمتهُ إلى مقر اليوسفي دون أن ألتقيه وجهاً لوجه، ومن ثم عدت إلى الجبهة، ولم أكن موفداً لا من البارزاني ولا من المكتب السياسي ولا من أية جهة أخرى.. بل مهمتي حددت بتسليمه الطيار الأسير فقط وكنت وحدي وليس ضمن وفد....(3)))..!
رحمك الله أستاذ فرنسوا.. ولكن كنت أتمنى لو كنت حياً الآن فقط لأسألك حول هذه النقطة.. فمن جهة قلت: أستدعيت إلى مقر القيادة، حيث طلب مني إيصال الطيار الأسير صفاء شلال إلى حيث يقيم المرحوم صالح اليوسفي..) ثم تقول في نفس الوقت: ( ولم أكن موفداً لا من البارزاني ولا من المكتب السياسي ولا من أية جهة أخرى..)..؟؟!! إذن مَن الذي أمرك للقيام بهذه المهمة..؟! ولماذا هذا التناقض في الشهادة..؟! وإذا لم يكن أحد من هؤلاء الأثنين كسيادة الزعيم البارزاني أو من قِبل أعضاء وقرار المكتب السياسي..! فمن الذي كان يملك ذلك الزخم في الموقع ليلبي مثل هذا القرار دون موافقة أحد من هؤلاء الجانبين..؟؟!!
أما القصد من الوفد هو بأنك جئت مع مجموعة من البيشمركة وكما أشرت أنت بنفسك من خلال تعقيبك وقلت: ((أوصلته بسيارتي ومعي عدد من حراسي..)).
على كل حال أنا أشكر المرحوم فرانسوا حريري على هذه الشهادة التاريخية رغم بعض ضبابيتها..! ولكنها وثيقة تاريخية مهمة عن مراحل الخطوات التي قام بها والدي في تلك المرحلة مهمة من تاريخ نضال شعبنا..
يضيف الأستاذ حازم أحمد اليوسفي: (( في صباح اليوم الثاني ومن خلال إذاعة صوت كوردستان أعلنت عن وقف إطلاق النار..! جاء فيه.. إلى كل قوات البيشمركة أعلن بوقف إطلاق النار... أسرعت إلى صالح اليوسفي وأخبرته بهذا القرار.. فتأثر جدًا بهذا الاعلان وحبطت معنوياته أشد إحباط..! وهو كان قد حث القيادة من خلال إجتماعاتهم بالمواصلة لعل وعسى وان يصلوا على حل مقبول لقضيتهم.. ويضيف الأستاذ حازم.. في جومان وحاج عمران رأيت البيشمركة يبكون بحرقة.. والبعض كسر سلاحه من صدمة الحزن..(4))).
ونقلاً عن أخي شيرزاد الذي كان يرافق والدي طوال فترة ثورة 1974- 1975 وحتى الأيام الأخيرة: (( بعد أتفاقية الجزائر طلب والدي جلب أحد الضباط الأسرى العراقيين.. وعندما ذهب ذلك العنصر من جهاز المخابرات (فرانسوا حريري) وأمر من أحد الضباط الأسرى بالذهاب معهُ.. فقال الضابط الأسير: بحق الله هل ستقتلوني..؟ فأجابهُ: كلا يا أخي أنا أيضاً لا أعلم شيئاً سوى أنك سوف تقابل صالح اليوسفي.. وهنا صاح الضابط الأسير: الله أكبر صالح اليوسفي رجل السلام.. وقد ردد نفس العِبارة عندما حضر إلى مقر والدي وأخذ يُقبل والدي والدموع تنهمر من عينيه.. فطمئنهُ والدي وسلمهُ تقريراً من أربع نسخ.. للقيادة القومية والقيادة القطرية وللرئيس أحمد حسن البكر ولنائبه صدام حسين.. وأخبرهُ بأن البيشمركة سيوصلونه إلى قرب منطقة تواجد الجيش العراقي ليسلم هذه التقرير والنسخ إلى السلطات العليا.. وقبل أن يغادر الضابط الأسير قال لوالدي: أرجوك سيدي أن يحظى بقية الأسرى برعايتكم..؟
فرد والدي عليه: أذهب أبني فأن مصيرنا ومصير هؤلاء الأسرى تتعلق بهذه التقارير.. )).... يتبع
المصادر والهوامش:
(1،4)لقاء في قناة الفلوجة مع د. حميد عبد الله (شهادة خاصة).
(2)أسر قائد طيارة ميك 19 الملازم الأول الطيار صفاء شلال في منطقة برزيوة القريبة من بلدة راوندوز بتاريخ 23 أيلول/ سبتمبر 1974. شكيب عقراوي - سنوات المحنة في كوردستان ص 380
(3)جريدة خه بات - العدد 968 24 آذار/ مارس 2000