الحلقة: الثمانون - الجزء الخامس - أتفاقية 6 آذار 1975
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
ذكرتُ في الحلقة السابقة أن المكتب السياسي ومن خلال عدة أجتماعات متتالية وسريعة جداً للقيادة.. حاولت من خلال أمل ضعيف بأن تكسب ود الحكومة العراقية من أجل أحياء المفاوضات مرة أخرى بين الجانبين.. على أمل الحد من إتمام أتفاقية 6 آذار 1975، تلك الأتفاقية التي كانت تنتقص من سيادة وكرامة العراق، والتداعيات السلبية التي ستنهال على العراق والعراقيين بالدرجة الأولى (وهكذا أثبتت السنين التي تلتها عن تلك الإفرازات السلبية على الساحة العراقية بعد خمس سنوات فقط من تلك الأتفاقية.. ليعلن صدام بنفسه بإلغاء اتفاقية الجزائر في 17 أيلول 1980(وسيأتي الحديث لاحقاً))، ومنذ ذلك الحين يتجرع الشعب العراقي برمته هذه الآثار والنتائج السلبية على العراق، وتجاوزت حتى إلى دول الجوار والمنطقة برمتها..! وقد أوضح والدي بعُد نظره تلك للحكومة حينها ولكن للأسف لا آذان صاغية لكل تحذيرات هذا الإنسان العظيم بحكمته وفراسته السياسية والمستقبلية..).
وهنا يضيف الأستاذ خليل سنكر شهادة أخرى عبر هذه الرسالة: (( تحياتي ست زوزان عاشت يداك وقلمك على هذه المعلومات القيمة التي تنشريها حول الشهيد صالح اليوسفي.. أنني أتابع كل ما تكتبينه حوله، انه كان فعلاً قائداً مخلصاً ونزيهاً ترك ورائه تراثاً نضالياً قيماً وتاريخاً حافلاً بالقيم الوطنية والقومية.. أنني كنت في عام 1974- 1975 مسؤول القاطع الخامس للمدفعية المضادة للجو، وكنت في فترة الانتكاسة في مقر هيز بالك بالقرب من جسر حافظ.. وصلت رسالة من المكتب السياسي يطلب فيها بأن يضع علماً بيضاء بيد أحد البيشمرگة ويوصل هذه الرسالة إلى القوات المتمركزة في التلول المحيطة بالجسر وفعلا تم إيصال الرسالة.. وفي المساء سمعنا من خلال إذاعة بغداد بأن الرسالة كانت طلباً للتفاوض مع الحكومة العراقية وأن الحكومة رفضتها جملة وتفصيلاً في العلن...)).
بعد أن قرر المكتب السياسي في تلك الفترة أن تستمر الثورة نظراً لتحريضات والدي، أقترح والدي أيضاً في نفس الوقت على الزعيم البارزني أن يكتب أربعة رسائل إلى كل من الرؤساء والقادة.. حافظ الأسد وأنور السادات وياسر عرفات ورسالة خاصة إلى قادة الإتحاد السوفيتي.. على أن يقوم والدي وبأقرب فرصة يرافقه المناضل دارا توفيق بزيارة سريعة إلى سوريا عن طريق زاخو ومنها إلى سوريا واللقاء بالرئيس حافظ الأسد ومن ثم يتوجه إلى الاتحاد السوفيتي، رحب الزعيم البارزاني بالفكرة وكلف والدي أن يقوم بكتابة صياغة هذه الرسائل.. وقد أشار الأستاذ حازم أحمد اليوسفي عبر لقائه في فضائية الفلوجة كشاهد عيان قائلاً: (( أن الزعيم قبّل بأقتراح سيدا صالح اليوسفي حينما عرض عليه تلك الرسائل وطلب من السيدا صالح اليوسفي أن يكتب هو صياغة الرسائل بأسم الزعيم إلى كل من هؤلاء قادة الدول الأربعة..(1))).
إن سبب أختيار والدي لزيارة هذه المجموعة من القادة لم تأتي عشوائياً وإنما عن حكمة وفراسة وذلك:
1- كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي تهجمت على أتفاقية الجزائر عام 1975، وأعتبرت تنازل العراق عن شط العرب إلى شاه إيران خيانة بحق الأمة العربية..(2).
2- لكون صالح اليوسفي عضو في منظمة السلام العالمي برئاسة (شنايدر)(3).
3- كان والدي على علاقة جيدة مع الرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات) وكان الرئيس عرفات متجاوباً مع السلام في قضية الشعب الكوردي، هذا إضافة إلى علاقات والدي مع المنظمات الفلسطينية النشطة في العراق حين كان وزيراً (1970- 1974) وكما أشار إليها الأستاذ فاروق ئاكريى(4)، وبدوره كان للرئيس ياسر عرفات علاقات وطيدة مع كل زعماء الدول العربية ومنهم العراق.
4- كان للسادات وجمهورية مصر موقعاً مهماً مع الدول العربية حينها، وسبق وأن أشرت بلقاء والدي بمستشاره محمد حافظ أسماعيل الذي رحب بوالدي من خلال لقاء مهم جرى بينهما عام 1973 خلال زيارة والدي لمصر.
أما بالنسبة للأتحاد السوفيتي.. فإضافة إلى علاقة والدي الجيدة مع قادة وزعماء الأتحاد السوفيتي حينها وكما ذكرت في الحلقات السابقة.. فأن خطة والدي هذه كانت لغرض كسب تأييد الاتحاد السوفيتي وقادتها وحثهم على التدخل في مسألة القضية الكوردية من أتفاقية 6 آذار وإيجاد حل مناسب لمنع إبادة الشعب الكوردي، وإجراء مفاوضات سلمية لصالح الطرفين.. فكان هدف والدي الأول من خلال هذه الرحلة المهمة والمكوكية لإقناع قادة وشخصيات تلك الدول بالتأثير على الحكومة العراقية في صياغة اتفاق مشّرف ينهي القِتال في كوردستان العراق.
يذكر الأستاذ حازم اليوسفي: (( بعد الإنتهاء من الإجتماع ركبنا السيارة مع سيدا صالح اليوسفي للعودة إلى مقره وكنا أنا والحماية معهُ.. سألناهُ خير إن شاء الله ماذا قررتم سيدا..؟؟!!
أجاب بيأس: خير إن شاء الله.....
رمى والدي كل تفكيره ووقته للتخطيط الدقيق وتنفيذ هذه المهمة التاريخية بأسرع وقت ممكن قبل أن يداهمه الشاه الخبيث بقرارات أخرى إذا ما سمع بهذه الخطة عن طريق عملائه.. فبدأ يرتب ويخطط للمراحل القادمة بعد أن منح الزعيم والدي كافة الصلاحيات لهذه المرحلة وما بعدها لعلهُ يصل إلى حل مشرف..
فأرسل والدي على العجل دعوة للقاء بقيادات البيشمركة في الجبهات.. فحضر مجموعة منهم والبعض لم يستطيع حيث كانوا في مناطق بعيدة في الجبهات ومستمرين في المقاومة، فأرسل إليهم والدي ببرقيات.. وركز على قائد البيشمركة (أسعد خوشفي) الذي كان المسؤول الأول على منطقة بادينان، حيث قرر والدي في المرحلة التالية أن تتوجه القيادة الكوردية إلى تلك المنطقة تحسباً وحرصاً من إنتقام الشاه للقيادة، حيث كان مقر القيادة كما هو معروف قريبة من الحدود العراقية الإيرانية وتحت أنظار قوات نظام الشاه.
ونقلاً عن الأستاذ حازم أحمد اليوسفي: ((أرسل سيدا صالح اليوسفي خلال تلك الفترة دعوة إلى قيادات البيشمركة للقاء بهم وكانوا مجموعة من ضمنهم القيادي علي عسكري (آمر هيز) وطرح عليهم عدة أسئلة قائلاً: ((هل نستطيع أن نقاوم..؟ وكم من المدة بإمكاننا المقاومة بدون دعم إيرن..؟ وكم من الذخيرة نحتاج..؟ وهكذا....كما أرسل برقية لقائد قوات البيشمركة في منطقة بادينان القيادي (أسعد خوشفي(5)) وأخبرهُ: ((هل بإمكان القيادة أن تأتي إلى تلك منطقة بادينان في جبل متين الواقعة في بامرنى.. وإذا أستمرينا بالمقاومة.. وأنت كقائد عسكري كم من المدة تستطيع أن تتنبأ لنا بإمكاننا المقاومة فيها.. بحيث تكفينا الأرزاق والذخيرة..؟
أجاب القائد أسعد خوشفي: يكفينا لمدة ستة أشهر..
فرد اليوسفي: إذن هذا يكفينا لنعمل خلالها على المستوى السياسي..
هذه الأحداث السريعة والمتتالية وقعت ما بين فترة 7 إلى 21 آذار 1975 عندما طرح اليوسفي هذه الفكرة كان عندهُ في مقره أحد الشخصيات المناضلة من دهوك يدعى (عبد الله ملا جنيد) كان قادماً من إيران، حيث كان مصاباً وتعالج هناك.. فقال له اليوسفي: لا تذهب أخ عبد الله إلى بادينا لأننا سوف نذهب معاً..
ومن جهة أخرى كتب اليوسفي بحماس شديد الرسائل الأربعة لقادة الدول، وكان من المفروض أن يتحرك اليوسفي بتاريخ 20/ 21 مع قيادات العسكرية بأتجاه زاخو إلى حدود سوريا يرافقه المناضل دارا توفيق ليوصل الرسائل ويتباحث حول الأمر.
قبل يوم من أستعداد سيدا يوسفي وبعد الترتيب الدقيق للقيام بهذه المهمة التاريخية.. جاء (فرانسو حريري) في صباح الباكر مبعوثاً من الزعيم ملا مصطفى البارزاني قاصداً مقابلة اليوسفي، وكان المناضل عبد الله جنيدي بصحبته وبعد دقائق من هذه المقابلة خرج فرانسو حريري وذهب..
يستمر الأستاذ حازم.. كنت في الخارج أنتظر هذا اللقاء بقلق.. فإذا بعبد الله جنيدي (أبو نزار) يخرج من غرفة سيدا وهو يبكي بحرقة..!!
فأخبرته: خير إن شاء الله أبو نزار.. لماذا تبكي..؟؟!!
فأجاب وعيناه غارقتان بالدموع: كل شيء أنتهى حتى هذا الأمل الأخير.. فكيف لا أبكي..! لقد جاء فرانسو بأمر من الزعيم ليبلغ السيدا يوسفي أن الإيرانين لن يقبلوا ولن يسمحوا أن يسافر سيدا.. وإن الشاه قال إذا تحركتم سوف أضربكم..!!! وفي العصر ذهب صالح اليوسفي إلى مقر الزعيم(6).... يتبع
مصادر وهوامش:
(1،6) لقاء في قناة الفلوجة مع د. حميد عبد الله (شهادة خاصة).
(2)سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي - ص 401
(3،4)كان اليوسفي متفائلاً من أقتراح له (للبارزاني) بالسفر إلى الخارج العراق عن طريق زاخو ولكونه عضو في منظمة السلام العالمي برئاسة (شنايدر) وعلاقاته مع المنظمات الفلسطينية النشطة في العراق وكذلك أحترام السوفيت لتوجهاته السلمية حيث كان ممنوعاً من السفر عن طريق الحكومة الإيرانية، فإنه في حالة موافقة (البارزاني) سيحاول إيقاف القِتال والعودة إلى طاولة المفاوضات. من ذاكرة ناشط بارتي - الأستاذ فاروق ئاكره يى - ص 84
(5)أسعد خوشفي.. من الشخصيات المناضلة، كان له زخم كبير في القيادة العسكرية وعند الزعيم البارزاني، وكان قائد القطاع الشمال الغربي من أقليم كوردستان العراق وتحت أمرته حوالي ثلث مجموع القوات الكوردية من (البيشمركة)، أستشهد أخاه الكبير خليل في ثلاثينيات القرن الماضي أيام ثورة بارزان، وكذلك أخاهُ الثاني في عام 1945، رافق الزعيم في رحلته إلى الإتحاد السوفيتي عام 1947 وكذلك في رحلة عودته بعد أن توقفوا في مدينة القاهرة بمصر لمقابلة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ثم إلى العراق عام 1958 في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم.