1 قراءة دقيقة
الحلقة الثانية والعشرون (الجزء السادس) بقلم: زوزان صالح اليوسفي


زوزان صالح اليوسفي


الحلقة الثانية والعشرون (الجزء السادس)
بقلم: زوزان صالح اليوسفي

سيكون معنا في هذه الحلقة ضيفان عزيزان.. المناضل صالح اليوسفي والأستاذ فؤاد عارف البرزنجي، ونظراً لأن هذا الحديث للمناضل الشهيد صالح اليوسفي ينشر لأول مرة، وبما أننا ما زلنا في فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم؛ لذا سوف أشير إلى مقتطفات من ذاكرة والدي قبل اللقاء الذي تم بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني وإنقلابيّ 8 شباط / فبراير وخلاله، والذي سبق وأشار إليه الأستاذ فؤاد عارف والأستاذ علي سنجاري في الحلقة السابقة.. وفي نهاية هذه الحلقة يتحدث الأستاذ فؤاد عارف بالتفصيل عن لحظات وصوله إلى دار إذاعة بغداد بعد إذاعت راديو بغداد نداءاً بحضور الأستاذ فؤاد عارف بعد سيطرة الإنقلابين على دار الإذاعة، وكما أشرت فإن المناضل صالح اليوسفي كان حينها مطلوباً من قِبل نظام قاسم بأمر إعتقاله للمرة الثانية عام 1962 ، وكان مختفياً في منطقة البتاوين في بغداد بشكل سري..
الرجاء من الأخوة الأفاضل من يرغب بالتعليق فعليه أن يبدي رأيهُ عن تلك الفترة الزمنية تحديداً وأن لا يتخطى الزمن وعبر عشرات السنين ويبني رأيهُ.. وذلك مشياً على مبدأ لكل حدث حديث ولكل مقام مقال..

يذكر المناضل صالح اليوسفي في مذكرته إلى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر: (( إن حكام العراق في العهد المباد والدكتاتورية من بعدها مع بطانتهم من الشيوخ والأغوات ورؤساء الأقطاعيين والتيارات الشوفينية حينذاك في العهدين وتحويلهم إلى فرسان في عهد الدكتاتورية بعد إندلاع الثورة الكردية ومن ثم الكتل المتبقية والعناصر الكردية المنشقة والأنتهازية هؤلاء جميعاً ساهموا مباشرةً وبدور تحريضي كبير في أستفزاز الحركة الكردية وإثارتها وتأليب حكام العراق عليها بدافع تحقيق مصالحهم الشخصية وهم لا ينفكون عن ذلك لإدامة تحقيق مآربهم – كما لعبت الأحزاب القومية العربية وتياراتها الشوفينية الأخرى دوراً لا يستهان به أزاء تعقيد هذه المشكلة.
أما الحزب الشيوعي العراقي فهو بدوره لعب دوراً مؤثراً وفعالاً في تصعيد شقة الخلاف والعداء بين القوى التقدمية الوطنية والديمقراطية كافة لإشباع طموحه في السيطرة على القوى السياسية وعلى مقاليد الحكم في القطر وأستلام زمام القيادتين وإفراغهما من حسها القومي وربطهما بمصير الأممية العالمية ومخططاتها وتوجيهاتها، الأمر الذي يهمه جداً أضعافها لحساب تفوق قوته وأستخدام تكتيكية الحرب بمختلف الأشكال..
وحين أُبّسِط هذه الحقيقة الماثلة للعيان والذي يلمسه بكل وضوح كل من عَرِك وساير الحركة الوطنية في العراق وليس من قبيل التشفي أو إثارة أي عداء وضغينة ضده ولا تأليب السلطة عليه كما وليس بدافع كوني أحمل الشحنات يمينية بل عرفت وأُتهِمت جهراً من قبل الأوساط القومية الكوردية المتطرفة والأنطوائية منذ أوائل الأربعينيات حينما كنت أحد المؤسسين البارزين في قيادة حزب هيوا وأحث على ضرورة التمسك بالخط التقدمي والأعتماد على الجماهير الكادحة بدلاً من الرؤساء وأصحاب المناصب ومحاولة إرساء العلاقات طيبة مع الأحزاب القومية والوطنية ومنها الحزب الشيوعي أتهمت بميولي الشيوعية.
إنني في الوقت الذي كنت أدافع بضرورة توثيق علاقات متكافئة وطيبة مع الحزب الشيوعي والأتحاد السوفيتي كمبدأ أستراتيجي بصفة الأول حزب وطني يناهض الأستعمار والرجعية وبصفته الثانية ركيزة أساسية من ركائز حركة التحرر والتقدم في العالم كنت في نفس الوقت أدافع بحماس وحذر من أن تتجاوز تلك العلاقات من التأثير ولو على جزء يسير من أنتهاك سيادة حزبنا وأستقلاله أو المسايرة في ظلال تكتيكاته ولا ألمس لحساب مطامحنا وإحساسنا القومي ولا التأثير في علاقة حزبنا مع الأحزاب القومية والوطنية الأخرى، كنت أؤكد على أن تصرفاتنا ينبغي أن لا تتقيد بأي نوع من المسايرة والتبعية والتوصية من قبل حزب آخر بل منطلقاً من مصلحته وأهدافه ومبادئه مع إمكانية فتح أوسع أبواب الثقة والتفاهم والتشاور بينهما وبين القوى الوطنية الأخرى، لقد وجد في قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في قبيل ثورة تموز عام 1958 التي أستلمت زمام قيادة الحزب العناصر الهزيلة والمتسللة في ظروف أستثنائية حرجة بعد تشتيت شمل قادة ومسؤالي الحزب من قبل حكام العهد البائد – وجد فرصة سانحة لها لأستخدامها بمثابة أداة طيعة لها لتقوية مركزه على حساب ضعفها والعمل من أجل تقليل شأنه ومحاولة تأليب بعض الأحزاب الأخرى عليه للحيلولة دون إشراكه في الجبهة الوطنية الموسعة ومحاولة أستفزازه من جهة أخرى لبث العداء بينه وبين القوى الآخرى، وقد شعر بهذه المكيدة جماهير الحزب فأستهجنوها وحاولوا تنحية هذه القيادة الدخيلة عن مسؤوليتها ولكن ظروف الملاحقة حالت دون تحقيقيها رغم كونها أصبحت في واد وجماهيرها في واد آخر وظل الخلاف قائماً لحين تصفيتها في المؤتمر الرابع بعد ثورة تموز بعد أن لعبت تلك القيادة دوراً تبعياً مع الحزب الشيوعي العراقي ضد مصلحة الحزب وأهدافه سيما حين جره لمناهضة القوى القومية بعد ثورة تموز الأولى.
وقفت جماهير شعبنا بصلابة أمام المد الشيوعي الفوضوي رغم إسناده من قِبل السلطة سيما أثناء وبعد حوادث الموصل (الشواف) ورغم قيامه بجرنا إلى جانبه للقضاء على الحوادث المذكورة بعد أحداث ضجة كبيرة حول الأخطار المدمرة المحدقة بالقضية الكردية في حالة أنتصارها وإظهار إنعكاسات التيارات السلبية أزائها من قِبل الأحزاب القومية ودور القيادة التبعية المرضية قبيل تنحيها عن مسؤوليتها في المؤتمر الرابع المنعقد عام 1959 – رغم ذلك فقد قاومنا بشدة مخططها المستهدف ببث الذعر والرعب والعنف في لواء الموصل التي تضم حالياً محافظتي (نينوى ودهوك) فقد وقفت كمسؤول بارز فيها فأنقذت حياة وحقوق الكثيرين منهم مدنين وعسكريين من الهدر والسطو والضياع وأذكر على سبيل المثال إنقاذ حياة خمسة من المعلمين والمدرسين في زاخو ومن بينهم السيد (حكمت البزاز) الذي يتولى حالياً مسؤولية إحدى المديريات العامة في وزارة التربية والتعليم، وقد قمت بنفسي لإطمئنانهم وسهرت لحمايتهم من أي أذى وفي أقسى الظروف عنفاً وإلى أن وصلتهم محروسين من قبل أعضاء حزبنا إلى عوائلهم في الموصل لكي لا يمسهم أحد بسوء في الطريق كما أوعزت إلى مسؤولينا في المنظمات الوطنية وبالأخص نقابة المعلمين الوقوف بحزم أزاء أتخاذ أي قرار أو تصرف للتنكيل بالمعلمين والدفاع عنهم وعن حقوقهم وقد كلفت أحد أبناء أعمامي من المسؤولين في النقابة آنذاك للقيام بهذا الدور.
أني أؤكد حينما ألقي هذه الأضواء الحقيقية على فترة مفجعة من الحياة الوطنية لا أبتغي من وراء ذلك نبش الضغينة والأحقاد على الشيوعيين بل أؤكد على أهمية الوفاق والتآلف بين القوى الوطنية كان في نطاق حدوده وحده وأستخلاص العبر من السلبيات التي عانينا جميعاً منها الكثير.
لقد كنت أول من تعرض لنقمة عبد الكريم قاسم من مسؤولي حزبنا القياديين عام 9601 حينما كنت آنذاك أتولى مسؤولية الفرع الأول لحزبنا في لواء الموصل (محافظتي نينوى ودهوك) وخلال فترة الأعتقال والنفي والأختفاء التي أستمرت زهاء الثلاثة سنوات، وقد حاولت بجد ووعي وإخلاص مد جسور التفاهم والثقة والتعاون بيننا وبين الأحزاب القومية في فترة أختفائي في بغداد من مطلع عام 1962 إلى عام 1963 بصفتي كنت مسؤولاً للفرع الخامس بالإضافة إلى عضويتي في المكتب السياسي..
وقبيل الثامن من شباط ورغم ظروف الإختفاء والملاحقة فقد قمت بمحاولات أتصالات جدية حينذاك من أجل نصب جسر راسخ من الثقة والتفاهم والتعاون بين حركتي القوميتين لإرساء صرح جمهورية ديمقراطية تقدمية، إلى أن تم مع السيد علي صالح السعدي قبيل أعتقاله وإنفجار الثورة ببضعة أيام ولا بد سيادتكم على علم بذلك وكان لتقاريري الموضوعية المرفوعة إلى قيادة الحركة الكردية والحزب حينذاك والتي تؤكد على أهمية تصافح وتضامن قوى حركتي القوميتين كأستراتيجية سياسية على مدار كفاحنا السياسي بما يدر بالخير العميم عليهما في داخل القطر ومن نطاق آفاق قوميتهما وقطع دابر وشايات المنتفعين والمرتزقة من رؤساء الفرسان والعناصر الكردية المنتفعة والكتل المصطنعة.
كان لمبادرتي الشخصية ولموقفي وتقاريره دور مؤثر في تبرير كثير من الترسبات والمخاوف والمحاذير التي تركت ببصماتها على حياتنا السياسي في الفترات السلبية المظلمة.
إن لقائنا على مستوى القيادة والمسؤولية وإن كان قد جاء مبكراً إلا أنه أثر في نمو براعم الثقة والتعاون فيما بيننا بدرجة بلغ حد التباحث والخوض للأشتراك سوية في أخطر قضية تهدد حياتنا لإرساء قاعدة جمهورية قومية ديمقراطية راسخة بالبنيان والعمل من أجل توثيق أفضل الأسس السلمية للعلاقات المصيرية بين القوميتين المتآخيتين وقواهما الطليعية إلى أبعد الآفاق.
فقد كان من المقرر كما لا يخفى لدى سيادتكم أن يتم النقاش بيني وبين ممثل حزبكم السيد علي صالح السعدي في الجلسة القادمة المصادف 10 شباط 963 على مسودة أسس أتفاقية الأنتفاضة المزمع القيام بها بصورة مشتركة وتحديد النتائج المترتبة عليها في تخطيط وتركيب الدولة المنتظرة، علماً بأنه رغم ثقل حجم حركتنا في كوردستان وفاعليتها وسمعتها ومكانتها الدولية إلى حدما..
وبهذه المناسبة أتذكر ما دار بيني وبين أحد الأصدقاء من الأقطاب القوميين قبل هذه المدة بأربعة أشهر تقريباً حيث أخبرني ولا أزال أحتفظها في ذاكرتي وفق رأي بما يلي: (( إن القوى القومية تخشى في حالة قيامها بأية إنتفاضة تغير موقف الحركة الكردية فجأة لمناؤتها بدافع تأثرها لإيقاعها في مناورة الشيوعيين المستهدفة بإثارة مخاوفكم من نتائج ظفرها بتصفية كما حدث في ثورة الشواف وأضطرار قاسم في هذه الحالة لمصافحتكم ولتطمينكم بمنح جميع حقوقكم القومية الأمر الذي يؤدي إلى تلاقي قوتكم مع الشيوعيين والسلطة القائمة في مركز ثقل قوي يجعل الإقدام على القيام بأية أنتفاضة من قبيل المغامرات الخطيرة ويتوزر نجاحها وتجر ورائها سبلاً في الفواجع والدمار، قبل كل شيء نود أن لا تتكرر أخطاء الماضي وتقع على القوى القومية مسؤولية سحب الثقة لقوميتنا الضعيفة وتبديد مخاوفها..
ونأمل أن نتخلص جميعنا من ذلك وأن لا تقع أي من القوى القومية للقوميين في أخطاء ما بعد تموز وأن تعيد النظر في مواقفها أزاء بعضها البعض ونمحو ما حدث من أخطاء وسلبيات ونمد جسور المودة والثقة والعمل سوية في تخطيط وتنفيذ المهمة المشتركة بإقامة صرح الدولة الحضارية المقبلة، وفي أعتقادي أن تلاحمهما كفيل بنجاح وضمان ذلك وأعتقد آن الآوان للشروع في تحويل لقائتنا إلى عمل ثوري منظم لهذه الغاية فأيدني بحرارة.
لقد شاءت الأقدار والظروف الدقيقة قيامكم بأنتفاضة صبيحة الجمعة 8 شباط – 14 رمضان ولم أتوصل إلى إدراك تعجيلكم في تقديم موعد إنفجارها إلا بعد لقائي مع السيد علي السعدي في تلك الأمسية وبعد الأستفسار منه عن أسباب ذلك أخبرني بأنه قد تم أعتقاله بعد ثلاثة أيام من لقائنا الأول وكان نشاط (القوى القومية) في تصاعد مستمر بدرجة أثار مخاوف قاسم وبالأخص من ضباطنا في المراكز الحساسة القوة الجوية والدروع فأقدم على تنحيتهم من المسؤولية في يوم الخميس 7 شباط فأجّل تبليغهم من قِبل مسؤولينا إلى يوم السبت فوضعت قيادة الحزب والثورة أمام الأمر الواقع للتعجيل في أمد التخطيط والتنفيذ إلى أن تم ليوم الجمعة لكي لا تفوتنا هذه الفرصة ويطول الأنتظار إلى أجل غير مسمى لفرصة ثانية ومن الطبيعي كنا نتوقع ضمان تأييدكم أو على الأقل عدم مناؤتكم لها.
لقد كان أبتهاجي نابعاً عن كرهي المبدئي للدكتاتورية والدكتاتوريين سيما وقد قامت الدكتاتورية القاسمية بدور كبير في تدمير شعبي وتصفية الحياة الديمقراطية والقوى القومية والوطنية في البلاد.. رغم أعتصامه في حصنه الحصين في مقر الدفاع وعلى أيدي قوى قومية أكتوت بنيران أضطهاده أيضاً وقد قطعنا مع بعضنا مرحلة من التعرف والتفاهم مرغم كون طبيعتي يطغي عليها روح السلام والتسامح بدلاً من العنف ولكن العنف يولد العنف ومن يزرع الريح لا بد أن يحصد العاصفة..
وأما أسفي فقد كان ينصب على أنه لو قدر تأجيلها لحين التوصل إلى عمل ثوري مشترك لكان من المؤكد توفير مقومات نضوجها وقدرتها بشكل أفضل لمواجهة معالجة مشاكل البلاد الأساسية وتجاوزها بنجاح وتجنبها من الهزات والأخطار المحدقة بها ومدها بمقومات البأس والأستقرار والأزدهار.
خرجت في صبيحة ذلك اليوم مبكر فأتصلت ببعض الأقطاب القوميين وكانوا ينتظرونني بلهفة ويحثون بألتماس ضرورة أستعجالنا بتأييد الأنتفاضة التي تفجرت عاجلاً، ممثلي الحزب الوطني الديمقراطي كانوا يتأرجحون بين المناوئة والتفرج والتأييد فلم يكن لديهم موقفاً واضح، وأما الشيوعيين فكانوا يلحون بشدة على حماية قاسم وسلطته وبين نحبهم الضبابية وبترديد أسطونتهم (ما كو زعيم إلا كريم) التي رددوه قبل أربع سنوات دون الأدراك على ما أصاب المجتمع العراقي من التفاعلات وتغير الأمور والأوضاع خلال مدة حكمه وأن كريم اليوم غير كريم الأمس فلم ينج من جوره كل القوى الوطنية وعناصرها بما فيهم الأكثرية الساحقة من أعضائه ومؤيده بشكل مباشر أو غير مباشر كما أن سلبيات ذلك الحزب تكاد لا تقل حكمه جوراً وإيذاء ومناورات مفضوحة – فحاولت الأتصال مع معظم أقطاب القوى القومية والوطنية وفي ظروف خطرة تحت وابل الرصاص...، فكان من الأجدر عليها أن تتخلى من أساليبها، غير أنهم كانوا يحلمون بأنهم يمرونا في فلك مناورتهم لمناهضة الأنتفاضة ووئدها، ليتخذوا من ورائها بعد ذلك مثل هذا الأنتصار المزعوم في خيالهم عاملاً فعالاً لإحكام قبضتهم على السلطة ومن ثم بتصفية حتى جميع مؤيدهم وزعيمهم الأوحد لكي لا تفوت هذه الفرصة الذهبية وقد نبهتهم بأنهم يلعبون حركة خطيرة ويجازفون بحياة حزبهم وليس هناك أي مبرر للدفاع عن عرش لم ينجو من إيذائه أحد من المواطنين العراقيين ولكنهم كانوا يلهثون وراء أحلامهم .
فبعد أتصالي مع معظم أقطاب القوى القومية والوطنية حاولت أخيراً دراسة الموقف من جميع جوانبه وأبعاده فوجدت أن الفرصة مواتية لكي ألعب دوراً تاريخياً مشهوداً أبارك فيه عن مصافحة الحركتين القوميتين التحرريتين وقيادتهما الطليعيتين بما يستجيب عن مكنونات عقيدتي ووضع قيادة حزبنا وحركتنا أمام الأمر الواقع رغم شعوري بإحراج موقفي الشديد أمامهما – لأنه كان من الميسور جداً أن أترك بغداد وأتوجه نحو قيادتنا لدراسة الموقف ومن ثم أتخاذ موقف بصدده فوجدت أن السفرة تستغرق وقتاً يؤدي إلى تجميد التأييد ليس فحسب بل إلى إرباك أوضاع العراق بشكل خطير وخلت مضاعفات أخرى تلحق أفدح الأضرار بنا جميعاً وأن الطريق المستقيم هو إيجاد أقرب فرصة لتلاحم الحركتين القوميتين وقد تبلور هذا الموقف في قرارة نفسي فكان لقائي مع الأخ فؤاد عارف وأخيراً أتفقنا على أستمرار أتصالاتنا مع بعضنا البعض وأتخاذ موقف موحد بصفته من العناصر الوطنية والقومية المستقلة ودعوته إلى مقر الإذاعة ثم أتصاله بي تلفونياً ودعوته للتوجه نحوكم كما تعلمون وألتقائي مع سيادتكم وبقية الأخوة المسؤولين عشية أنتفاضة شباط وبعد التداول ورغم الغموض الذي كان يكتنفها لعدم بيان موقفها بشكل محدد وواضح بالنسبة لقضيتنا لعدم إسهامنا فيها كما بينت آنفاً ولوجود قوى قومية متطرفة تحمل شحنات شوفينية وأستعلائية سوى التأشير في إطار العموميات والوعود الشفوية التطمينية ومع ذلك أقدمنا بمصاحفة حركتكم بحرارة وربط مصير حزبنا وحركتنا معها ومن أحرج وأخطر المواقف التأريخية المشهودة وفي وقت كنتم أمسّ الحاجة إلى ذلك (للأخطار المحدقة بها حيث أن الدكتاتور قاسم لا يزال حياً على بعد كيلو مترين يدافع عن سلطته لو قدر له النجاح فكنا جميعاً رفات أشخاص) مع إدراكي بحراجتي أزاء قيادتنا لقيامي بهذه المبادرة الشخصية مع إثارة عداء ونقمة الحزب الشيوعي رغم خطأ موقفهم كما ذكرت وكون هذا الموقف لم يكن موجهاً بأي شكل إليهم بالذات بل دافعت عنهم بدرجة جاوبني عبد السلام قائلاً: ((أن الشيوعيين هم أقمحوا أنفسهم في هذه المعمة.. بجانب عدونا للقضاء علينا والاّ فرغم إساتهم إلينا سابقاً فلا نضمر لهم أي عداء أو أنتقام فيما إذا تخلو عن موقفهم المناهض لإخماد الثورة (1))))....

هكذا شاءت الأقدار قيام الإنقلاب صبيحة 8 شباط/ فبراير 1963 دون إشراك الحركة الكوردية فيها كما كان من المقرر، ولم يذهب الأستاذ فؤاد عارف إلى مقر الإذاعة إلا بعدما أعلن الإنقلابيون من دار إذاعة بغداد هذا النداء الذي جاء فيه: (( في الساعة الرابعة أذيع نداء من مجلس الوطني لقيادة الثورة يدعو الوزير المتقاعد فؤاد عارف للحضور إلى دار الإذاعة، وقال راديو بغداد: (( إن هذا النداء بمثابة وثيقة عدم تعرض لهُ (1))) كان فؤاد عارف وزيراً للدولة في حكومة قاسم ثم أستقال من منصبه(2).
ويذكر الأستاذ فؤاد عارف قائلاً(3): لما قامت الثورة وسمعت ببيان إعلانها من الإذاعة، أستدعيتُ فوراً إلى دار الإذاعة وكانت هواتف الوزراء مقطوعة، وكان اليوم الجمعة، وسائق سيارتي الشخصية كان مجازاً، فذهبت بنفسي أقودها ومعي مسدسي، ولم أستطيع إختراق شارع الجمهورية لإنهُ مقطوعاً، فذهبت عبر شارع الكفاح، إلا أن معارضي الإنقلاب من أنصار قاسم كانوا قد وضعوا الحواجز في الطرقات وهم يقاومون والرمي متواصل من الطرفين، فأصدمت بي دبابة فتعطلت سيارتي، وجاءني إثنان يناديان: قف.. فأخرجت مسدسي أطلقت النار عليهما فهربا.... مرّت سيارة عسكرية وصحت بالسائق وقلت: (( قف.. فلم يقف، فهجمت على السيارة وتعلقت بها وأخرجت مسدسي وصوبته إلى السائق وقلت لهُ: هل أنت مع الثورة.. أم ضد الثورة..؟ قال: أنا مع الثورة..
قلت: أنا الزعيم فؤاد عارف وقد أستدعتني الإذاعة.. وكان يجلس إلى جانب السائق ضابط برتبة ملازم، طلبت منهما أن يوصلاني إلى هناك، فأعتذرا وأقترح علي أخذي إلى آمر الكتيبة في مقر كتيبتهم، وكان مسدسي ما يزال مصوباً نحوهما، فوافقت وذهبنا إلى الكتيبة وطلبت منه إيصالي إلى دار الإذاعة العراقية عبر جسر الأحرار.. وصلت الإذاعة وكنت أعتقد أني سأجد حكمت سليمان والشيخ رضا الشبيبي ومهدي كبة، بناءاً على أقتراحي، بخصوص تأليف وزارة مدنية من أعضاء لهم تاريخ وتجربة سياسية ولكن لم أجد أحد ممن توقعت سوى عبد السلام عارف وعلي صالح السعدي وصالح عماش وأحمد حسن البكر فسألتهم: أين الوزراء المدنيون..؟ ألم نتفق على ذلك..؟
ردّ صالح مهدي عماش: أبو فرهاد أحنا نسوي ثورة ونجيب أفندية.. ليش أحنا شبينا..؟
وشارك عبد السلام عارف: شنو أحنا شبينا..؟ ليش ما نجي للحكم..؟ أبو فرهاد أحنا نريد تأييدك...؟
قلت: أنا لا أملك أية قوة سياسية لتأيدكم؛ لأني لا أمثل أحد.. ثم وجهت كلامي إلى علي صالح السعدي وقلت: سبق لك أن أتصلت بممثلي الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وبإمكانك الأتصال بهم..
وعندها أتصلت بشوكت عقراوي في داره، ليتصل هو بدوره بصالح اليوسفي ويأتي بصحبته إلى الإذاعة، وقلت لصالح اليوسفي: إنك تمثل الحركة الكردية والحزب الديمقراطية الكوردستاني، وأنت بإمكانك الآن أن تتصرف..فأجابني صالح اليوسفي قائلاً: أنا لا أتصرف من دونك..
قلت: لا بأس.. ثم كتبنا تأييد لثورة 14 رمضان معاً، وأنطوى التأييد على طلب الحكم الذاتي، وأذيع التأييد من دار الإذاعة بأسمي وأسم صالح اليوسفي ممثل الحزب الديمقراطي الكردستاني...
ومن خلال ذلك نستنتج وهذا الحديث موجه للباحثين والمؤرخين بالأخص.. بأن الأكراد لم يشتركوا في الإنقلاب، وقد وضعتُ أسماء ودور مجموعة كاملة من الضباط العراقيين (القوميين والبعثيين) المشتركين في الإنقلاب (من خلال تصميمي(5))، والنقطة الثانية التي أود الإشارة إليها أيضاً لم يذهبا فؤاد عارف وصالح اليوسفي إلى الإذاعة مباشرتاً بل جاء نداء للأستاذ فؤاد عارف بالحضور إلى مبنى دار الإذاعة وكما تفضل به سيادته من خلال ذلك التفصيل.. وإن فؤاد عارف وصالح اليوسفي وبرفقة شوكت عقراوي كتبوا مضمون البرقية المعلنة..... (يتبع)

المصادر والهوامش:
(1)بعض من مقتطفات مذكرة المناضل صالح اليوسفي للرئيس أحمد حسن البكر، والتفاصيل سوف تنشر في كتابي.
(2)عبد الكريم قاسم وساعاته الأخيرة – أحمد فوزي – ص 157
(3)إن أسباب أستقالة الأستاذ فؤاد عارف كانت بسبب قيام ثورة أيلول 1961 ضد الكورد ويقول: بعد أن قررت الأستقالة عن قناعة تامة كتبت كتاباً شديد اللهجة، وإن السيد ميرحاج جائني وحدثني: بأن أخوتي الكرد في كردستان تهدم دورهم على رؤوسهم، وأنا جالس هنا لا أحرك ساكناً، فأطلعتهُ على طلب أستقالتي، فنهض وقبلني.. ثم زارني الأستاذ حسن رفعت (وزير للإسكان) وأعلمتهُ بقراري في الإستقالة فأبدى بدوره رغبته في الإستقالة.. في مذكراته(190)
(4)مذكرات الأستاذ فؤاد عارف – ص 197
(5)عبد الكريم قاسم وساعاته الأخيرة – أحمد فوزي

تم عمل هذا الموقع بواسطة