الحلقة: الثانية والستون
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
مقدمة: ((قبل كل شيء أود أن أقول كنتُ قد نويت تأجيل نشر حلقاتي المتتابعة لإنشغالنا جميعاً بمتابعة الأحداث الجارية لمحنة أخوتنا في روژئاڤا وحداداً على الضحايا، ولكن نظراً لطلبات بعض الأخوة المتابعين نشرت هذه الحلقة.. راجين من الله القدير أن يستتب الأمن والسلام والأستقرار في روژئاڤا بأذن الله..)).
سوف أتطرق على قدر معلوماتي المتواضعة من خلال هذه الحلقات وبتسلسل تاريخي بعض الأحداث التي جرت خلال عام 1973 وقرب موعد هدنة أتفاقية 11 آذار التاريخية.
في شهر شباط/ فبراير 1973 سافر كل من المرحوم أدريس البارزاني والدكتور محمود عثمان إلى طهران وجرت لهما مقابلة مع المسؤول الأمريكي (كولونيل كلارك) الذي أخبرهما: (( إن أمريكا سوف لا تسمح بأن تعتدي أية دولة على إيران وأن الإتحاد السوفيتي لا يسمح بأن يقطع شبراً من الأراضي العراقية، وأن الحكومة الأمريكية سوف لا تستطيع أن تتدخل بصورة علنية لمساعدة الأكراد في العراق لأن العراق يقع ضمن نفوذ الأتحاد السوفيتي وإن رقعة الأكراد في العراق هي التفاوض مع الحكومة العراقية للحصول على حقوقهم القومية..)) وقد وجها كلا من المرحوم أدريس البارزاني والدكتور محمود عثمان دعوة إلى المسؤول الأمريكي لزيارة الزعيم مصطفى البارزاني في كوردستان لتثبيت أواصر الصداقة والتعارف ولكن المسؤول الأمريكي رد: بأنه يتأسف لإنهُ ليس بوسعه تنفيذ دعوة الوفد الكردي لإن التعليمات والأوامر الموجودة عنده من دائرته في واشنطن لا تسمح له بدخول الأراضي العراقية(1)). في بداية آذار / مارس 1973 وصلت شحنة من الأسلحة الخفيفة إلى الثوار الأكراد عن طريق إيران على طلب من شاه إيران(2).
أقيمت أحتفالات أعياد آذار وعيد نوروز في 21 آذار/ مارس 1973 في كافة المدن الكوردية، ولم يكن يخطر في بالهم إنها آخر نوروز يحتفلون بها مع أفراح وسلام أتفاقية 11 آذار حيث كان الشعب الكوردي مستبشراً بالخير في ظل ثلاثة سنوات متتالية من السلام والأمن والأستقرار في عموم العراق، إلا من بعض الحوادث البسيطة المتفرقة..! مع أقتراب موعد أنتهاء هدنة الأتفاقية كانت العيون ترنو بحذر وقلق نحو آذار ونوروز القادم وما يحملهُ من مفاجأت وقرارات..! وهم يعلمون أن ذكرى أتفاقية 11 آذار التاريخية كانت حصيلة كفاح غالية من شعبنا المناضل أمتزجت بإدراك ثوري وتجاوب بين الأشقاء العرب والكرد بطلائعهما وبتعاضد كل القوى الوطنية.
ألقى المناضل صالح اليوسفي خطاباً طويلاً ومهماً بهذه المناسبة في نوروز 1973 تطرق من خلالها: إن نضال شعبنا وحزبنا جزء مهم من نضال الشعب العراقي.. وأشار إلى أهمية أتفاقية آذار ودور الحزب الديمقراطي الكوردستاني في أنتصار التأميم بفضل ما لقته من الدعم والإسناد من قِبل الشعب وأحزابه الوطنية والأوساط العربية والعالم التقدمي.. كما أشار اليوسفي عن أهمية تظافر الجهود الخيرة لتبديد كل ما يعكر صفاء الإخاء القومي والتضامن الوطني وإن شعبنا الكوردي بقيادة حزبنا ورئيسه البارزاني قد وطد العزم على التمسك بكل ما ورد في أتفاقية آذار ويؤكد من جديد على الذود عنها بكل غال ورخيص وسوف لا يسمح لأية محاولة يائسة شريرة تستهدف إيقاف وشل عملية المسيرة الظافرة لشعبنا العراقي، وإلغام دعائم أمنه وأستقراره ووحدة صفه الوطنية... ثم أشار إلى صدور من يجب أن تتوجه الحراب.. وأختتم خطابه عن زرادشت وملحمة كاوه في نوروز..(3).
في نيسان/ أبريل 1973 أستعانت العراق بالرئيس أنور السادات لغرض جس النبض من موقف شاه إيران تجاه العراق ومحاولة حل الخلافات بين البلدين وبعد الأتصال مع شاه إيران فأن الرئيس المصري أخبر القيادة العراقية بأن المشكلة الرئيسية هي شط العرب وإن شاه إيران يؤكد على تنازل العراق عن نصف شط العرب إلى إيران وتثبيت الحدود النهرية حسب خط (تالوك - منتصف الخط العميق للنهر) وعندئذ يمكن حل الخلافات بين البلدين(4).
في 22 حزيران/ يونيو 1973 أجرى مراسل جريدة (واشنطن بوست) الأمريكية مقابلة مع الزعيم البارزاني وحاول الزعيم من خلالها إظهار علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى العلن فصرح لمراسل الجريدة بأن بإمكانه بتأييد وعون من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن يسيطر على منشآت وآبار النفط في كركوك وتسليم إدارتها إلى شركة أمريكية، وقد أحتجت واشنطن على هذه التصريحات وأبلغت القيادة الكوردية بأن هذه التصريحات ليست في صالح الثورة الكردية، فأصدر المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني بياناً في جريدة (التآخي) في بغداد لتكذيب هذه التصريحات وإنكار صدورها من الزعيم البارزاني(5).
على ما يبدو أن جريدة (واشنطن بوست) كانت نواياها غير صافية كعادتها..! فلا شك أن هدفها الأول لإشعال فتنة في ظل تلك الظروف العصيبة التي كانت إيران وأمريكا أساساً تنوي أن تشعل الحرب بأي ثمن..! وكان والدي بدوره يحذر القيادة من الإنصياع لرغبات شاه إيران وقد أرسل إلى القيادة الكوردية سبعة تقارير مفصلة يطالبهم فيها الحذر واليقظة وإلا أصبحوا فريسة لمناورة ومؤمراة دولية(6).
كان عام 1973 من أشد الأعوام حذراً وتوتراً وترقباً للأحداث القادمة على الصعيد العراقي، خاصة بعد محاولة ناظم كزار الإنقلابية الفاشلة في تموز 1973 والتي بقت أهدافها وتخطيطها لغزاً محيراً..! وأود هنا أن أتطرق ومن خلال ذلك العام ونظراً للرعب الذي ساد معظم سكان العاصمة بغداد حينها بوقوع أحداث متسلسلة لأكبر وأشنع جرائم إرهابية حدثت في بغداد، حين قامت بها إحدى العصابات في بدايات شهر آب/ أغسطس 1973 ، حيث ساد جو من الرعب والهلع لدى كافة العوائل العراقية في العاصمة بغداد بسبب ظهور عصابة إجرامية إرهابية تدعى (أبو الطبر(7))، كانت تمارس أحقر الأساليب من خلال جرائمها المروعة بين فترات متقاربة خلال تلك الفترة وفي عدة أماكن متفرقة من العاصمة بغداد، كانت عصابة منسقة تدخل البيوت سواء ليلاً أو نهاراً وتذبح أفراد العائلة فرداً فرداً بشكل وحشي تنعدم فيها إلى أبسط المشاعر الإنسانية وبعد جرائم القتل الوحشي تسرق ما غلى ثمنه..! هناك مَن كان يدعي بأن هذه العصابة هي من بقايا جماعة ناظم كزار مدير الأمن السابق..! وهناك مَن كان يدعي بأن النظام كان وراء تلك الأحداث لترهيب الشعب..! وفي نهاية آذار 1974 أعلن إلقاء القبض على العصابة ورئيسها المدعوا (حاتم كاظم هضم) ولكن المتهم أعترف إن أسباب جرائمه كان من أجل السرقة..! أغلب الشعب العراقي ولحد الآن لم يصدق بتصريحات المتهم وأعترافه الساذج..! وإزداد شكوك الشعب حول تلك الجرائم وفاعليها الأساسيين..!
أود هنا أن أسرد إلى حادث حدث خلال صيف سنة 1973 حيث كنا ننام على سطح منزلنا كان والدي دائماً يجلب مسدسه ويضعها تحت وسادته ليلاً حرصاً علينا من تلك الأحداث والجرائم البشعة التي كانت تحدث خلال أيام متقاربة، وفي إحدى الليالي بعد عودة والدي من مقر فرع الحزب، وعندما صعدنا للسطح لننام كان والدي في الهول الداخلي للطابق الثاني يتأكد من مسدسه بعد أن أخرجه من غلافه، فجأة أنطلقت رصاصة سهواً من المسدس..! والحمد لله كانت فوهة المسدس موجهة أرضاً وعلى بعد مليم من قدم والدي فأصابت إحدى الكاشيات وأنطلق صوت مدوي أثر الطلقة..! وفي الحال هرع وتوافدت سيارات الشرطة نحو منزلنا ظناً منهم أنه ربما حدثت جريمة وساد الرعب والبلبة المنطقة وكنا حينها نسكن في محلة اليرموك، فخرج لهم والدي وطمأنهم وأعلمهم بمركزه وإن والرصاصة أنطلقت سهواً من خلال مسدسه.
أستمرت هذه العمليات الإجرامية في بغداد لمدة تزيد عن شهرين من قِبل عصابة (أبو الطبر) إلى حين أن أندلعت الحرب العربية الأسرائيلية في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، حيث توقفت فجأة هذه العمليات بسبب ظروف الحرب..!، وهذا ما أثار شك وفضول الشعب..؟ فما علاقة مجرم جزار بالحرب..؟! إذا لم يكن من ورائها تخطيط أكبر لهذه العمليات وغايات أكبر من السرقة..!
على صعيد السياسي العراقي بذلت الإتحاد السوفيتي جهود كثيفة لتشكيل الجبهة الوطنية في العراق حيث كانت تأمل حينها بأن يعتمد العراق على الإتحاد السوفيتي لرسم سياستها الخارجية.. ولغرض أستقرار الوضع السياسي في العراق ومساهمة القوى الوطنية في الحكم، فبعد الأتفاقية التي عقدة بين الأتحاد السوفيتي والنظام العراقي، حثت وشجعت روسيا الحزب الشيوعي العراقي من التقرب إلى النظام العراقي والإنضمام إلى الجبهة الوطنية، فأنظم الحزب الشيوعي إلى الجبهة الوطنية في تموز/ يوليو 1973، وهذه المبادرة أدت نتائجها إلى طلاق الحزب الشيوعي من الحزب الديمقراطي الكوردستاني والأبتعاد عنهُ بعدما ما كانواعلى وئام، ولم يتوقف على ذلك فقط بل حدثت مصادمات ومواجهات بين البيشمركة والشيوعيين وحرب إعلامية شنت بين الحزبين من خلال صحفهما، (طريق الشعب) صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، وجريدة (التآخي) الناطقة بأسم الحزب الديمقراطي الكوردستاني..! ولا شك كان صدام سعيداً بهذه الخطوة في إبعاد الحزب الشيوعي عن الجبهة الكوردية، وبعد ذلك غدر صدام بهم وأستطاع القضاء على العديد من كوادرهم مابين عامي 1973- 1978، ثم حل الجبهة الوطنية في عام 1979، وأصبح الحزب الشيوعي حزباً محظوراً في العراق حينها.
لبى الحزب الشيوعي هذا نداء الجبهة الوطنية إرضاءاً لطلب الأتحاد السوفيتي وثانياً لإنها كانت ضد أتفاقية 11 آذار 1970..! يذكر الأستاذ فاروق ئاكريى: ((أستغربنا من التبدل المفاجئ للحزب الشيوعي العراقي، ففي إحدى زيارات كادرهم المتقدم (صديق درويش عقراوي) في داري أتهمنا بمصافحة البعث في (أتفاقية 11 آذار)، فإذا هم يغدرون بمستقبلهم بالمغامرة دخول الجبهة الوطنية مع البعث.. وفي وقت لاحق يدفعون الثمن غالياً ويضطرون اللجوء إلى أحضان كوردستان مرة أخرى(8)))،
مع أقتراب موعد إكمال هدنة الأربع سنوات وإجراء المفاوضات وإذا بمفاجأة غير سارة تظهر على الساحة الكوردية وإنشقاق جديد في صفوف حزب الديمقراطي الكوردستاني..! يتبع
المصادر والهوامش:
(1 ، 2 )سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي شكيب - ص (335).
(3)مقتطفات من خطاب المناضل صالح اليوسفي في الذكرى الثالثة لأعياد 11 آذار ونوروز 1973- قاعة جامعة المستنصرية
(4) سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي شكيب - ص 340
(5)سنوات المحنة في كوردستان - شكيب عقراوي شكيب - ص 336
(6) من أرشيف شيرزاد صالح اليوسفي.
(7) الطبر: هو نوع قديم من السلاح كان يستخدم قديماً ويشبه الفأس.
(8)من ذاكرة نشاط بارتي - فاروق محمود ئاكره يى - ص 68