كما أشرتُ في نهاية الحلقة التسعون بأن والدي أستلم الجواب النهائي من القيادة العراقية برفضهم التعاون بالمبادرة السلمية والحلول التي عرضها عليهم، وحاول والدي بكل جهده من أجل إصلاح ما أفرزتها نتائج حرب 1974 وما أعقبها من أتفاقية 6 آذار 1975، ومِمَا ستجني منها من النتائج السلبية.. ومحاولات والدي الحثيثة لفتح صفحة جديدة لصالح الجانبين ولصالح الشعب العراقي برمته(1)، وللأسف.. كما ذهبت جهود والدى سُدى مع القيادة الكوردية قبل وخلال حرب 1974.. هكذا ذهبت جهوده أيضاً مع الحكومة العراقية..! دون آذان صاغية فجرّ البلاد إلى ويلات تلوا الأخرى..!
وكما أشرت في الحلقة الماضية.. فقد كان للقاء نعيم حداد باللاجئين الكورد في المخيمات الإيرانية ومواجهته بالحجارة أثناء خطابه لهم.. كان لها مردوداً سلبياً لا على محاولات والدي فقط بل وحتى على أبناء الشعبي الكُردي العائدين، خاصة بعدما عَلِم بها صدام (الذي أصبح الرجل الأول في النظام كما هو معروف) والمعروف أيضاً عن شخصيته.. بأنه مثل هذه المواقف يحملها في ذاكرته ولا ينساها مطلقاً.. فحين يأخذ موقفاً لا يستطيع كائن مَن يكون أن يغير أو يحيد من موقفه أو مشاعره أزاء ذلك بل بالعكس يحاول الإنتقام أكثر..!
للأسف.. فأنني كثيراً ما ألاحظ بأننى غالباً وخلال العديد من المراحل التاريخية النضالية نكون نحن السبب بالدرجة الأولى لكبواتنا..! فكلما تقدمنا خطوة.. إلا ونبادر بعدها بالعودة عشرات الخطوات إلى الوراء..! ولا أعرف السبب..! هل هي قلة خبرتنا السياسية..؟! أم عدم الأتعاظ من التجارب التاريخة..؟! أم تعودنا على الخنوع..؟! وتاريخنا حافل بمثل هذه المشاهد.
أخبرنا والدي والعديد من الأخوة الذين عاشوا تلك الفترة ومن الذين ألتقوا بوالدي(3،2) بأنه في نهاية أجتماعات والدي مع عدد من المسؤولين.. فأنهم وبالنيابة عن الرئيس أحمد حسن البكر والقيادة قد عرضوا على والدي.. منصب رئيساً لديوان رئاسة الجمهورية.. أو رئاسة ما كان يسمى بالمجلس التنفيذي لمنطقة الحكم الذاتي في كوردستان.. أو إحدى الوزارات أو السفارات العراقية وفي أية دولة يختارها.. ولكن والدي رفض كل تلك المناصب رفضاً قاطعاً وأعتذر لهم.. وقال لهم بالحرف الواحد..(( أن مطلبه الأساسي والمهم هو الحوار الجاد المتبادل بين الطرفيين من أجل حل المشكلة الكوردية حلاً جذرياً وتلبية حقوق شعبه القومية في الحكم الذاتي والحرية والمساواة، وإذا لم يتحقق ذلك فأنه يطلب منهم أن يعود إلى منزله ويعيش فيه كأي مواطن عادي..)).
بعد إقامتنا مع والدي لأيام في الفندق وبعد نهاية هذا الحوار مع المسؤولين وكان بصحبتنا أبن عم والدي الأستاذ حازم اليوسفي وخالي عبد اللطيف عبد الله وعائلته.. قامت السلطات بتلبية طلب والدي بعودتنا إلى منزلنا في (حي الشرطة الأولى في بغداد)، وتم تهيئة السيارات الحكومية التي أقلتنا إلى منزلنا جميعاً بعد أن سلمونا مفاتيح المنزل.. كان البيت مغلقاً بأمر السلطات بعد ترحيلنا في نيسان 1974، وكان الباب الخارجي مغلقاً ومختوماً بالشمع الأحمر وهكذا كان الحال أيضاً مع جميع أبواب الغرف الداخلية، كلها كانت مغلقة ومختومة بالشمع الأحمر، وجدنا الغرف في حالة من الفوضى..! وكان واضحاً أن البيت تعرض للتفتيش وتم بعثرت أغراضه وخاصة فيما يتعلق بغرفة ومكتبة والدي، وقد مزقت أغلب صوره الشخصية والرسمية وتم العبث بأوراق أرشيفه الخاص(4)، كما أخذوا من أرشيف والدي ما كان مهماً من كتب وأوراق، وكذلك مجموعة من مصوغات والدتي وعمتي أسماء.. حيث لم تكن موجودة هذه الحاجيات الشخصية.. والشهادة لله بعد أيام قليلة أعادوا مصوغات والدتي في صندوق خاص كما هي وقالوا أنهم كانوا محتفظين بها أمانة في قسم الأمن وإنها كل ما عثروا عليها من الحاجيات الشخصية في المنزل.. لم تكن مصوغات عمتي البسيطة من ضمن تلك الحاجيات..
طلبت والدتي من والدي أن يسألهم عن مصوغات عمتي أسماء..؟! حيث كانت عمتي حزينة لضياع مصوغاتها (التي كانت ذكرى زاوجها تحتفظ بها كرأس مال بسيط في أيام المحن، وكانت عبارة عن كردانة وساعة ذهبية وقلادة ذهبية بمدالية على شكل قلب مرصع ببعض اللؤلؤات وعدد من الخواتم.. هذا كان كل ما لديها)، ولكن عزة نفس والدي رفض طلبها وقال لوالدتي: (( لو كانت مصوغات أسماء موجودة عندهم.. كان لا شك سيكون مع مجموعتك التي أودعوها في خزينتهم كأمانة.. وها هي كلها عادة إليك.. ولكن في هذه الحالة لو سألتهم عن مصوغات أخرى ضائعة.. فلا شك سيعتبرونني بأنني أتهمهم بسرقتها.. فربما سرقها أحد من أفراد التفتيش سراً دون علمهم.. ولا شك إذا فتحوا تحقيقا.. سينكر المتهم فقد مرّ عام كامل عليها كما تعلمين.. فدعيه لعقاب الله.. ثم يا لطيفة ماذا تأتي تلك المصوغات البسيطة ومال الدنيا الفانية أمام نكستنا..؟! لقد خسرنا كل شيء.. خسرنا نضال سنين.. وخسرنا القيادة.. وخسرنا كرامتنا.. وخسرنا ثقة شعبنا.. إن قطرة دماء زكية روت أرض كوردستان من هذا الشعب المظلوم لم تساوي ملايين الأموال والمصوغات.. فلا تفكري في هذا الموضوع لا أنتِ ولا أسماء..)) وبعد هذه المحاضرة المؤثرة ألتزمت والدتي بالصمت.. وراحت مصوغات عمتي.. وظلت عمتي تبحث عنها باستمرار..! دون وعيها ودون إرادتها (فقد ظلت آثار الصدمة النفسية في ليلة ترحيلنا تلازمها إلى يوم رحيلها في صيف 1980 رحمكِ الله عمتي الحنونة).
تم وضعنا في البيت تحت الإقامة الجبرية والمراقبة وكان هناك شخصين من منتسبي الأمن العامة مقيمين في البيت وعلى مدار الأربعة وعشرين ساعة وكانوا خلال هذه الفترة هم الذين يفتحون الباب لضيوف والدي وكانوا يقومون بتسجيل أسماء كل الذين يحضرون لزيارته في سجل خاص.. وقد بررت الحكومة على أنها للحماية..! والشهادة لله فأن هؤلاء الأمن كانوا يحاولون أن يبدون قدر من الأحترام لأهل البيت وللضيوف.. فكانوا يجلسون أغلب النهار في الطارمة الخارجية للبيت ويتركون والدي لوحده بصحبة ضيوفه في غرفة الضيوف ولم يقتحموا مجلسه مطلقاً.. وفي الحقيقة ودون أي خوف أو وجل كانت تتوافد العشرات من الضيوف يومياً للترحيب بوالدي ولا شك البعض منهم كانوا يأتون من قبل الحكومة لجس نبضه ورأيه حول ما جرى وما حصل من حالة الحرب ثم النكسة..
وعلى تواضع معلوماتي فأني لم أسمع أنه في يوم ما وفي زمن حكم البعث الذي أستمر حوالي خمسة وثلاثون عاماً أنه تم وضع أي زعيم سياسي عراقي تحت الإقامة الجبرية مثل والدي.. فالمعروف أن السلطة الحاكمة لا تعترف بمثل هذه الإجراءات، بل كان سهل جداً عليها أن تعتقل أو تصفي أي معارض عراقي وبكل سهولة سواءً كان ذلك علناً أو سراً.. ولكن يبدو أنه كانت هناك عدة أحتمالات تتحذر منها الحكومة.. فالمعروف أن والدي كقائد له مكانة خاصة وذو شعبية ونفوذ كبيرين لذا فإن الحكومة في الوقت ذاته كانت تخشى من علاقته مع السياسيين من كل المذاهب ومن كل التيارات الكوردية وحتى الأحزاب.. لذلك أرتأت أن تلبي طلبه في العيش كمواطن عادي وبدون أي منصب حكومي وفي المقابل فإن الحكومة عملت على تشديد الرقابة الأمنية عليه بوضعه تحت الإقامة الجبرية...
أجمل ما كان خلال ذلك العام هو زيارة أخي العزيز لاوين لنا، الذي كان يدرس الطب في مصر، حيث كان في أشد حالات القلق والشوق لرؤيتنا.. وبقي برفقتنا طوال صيف 1975 إلى بداية الخريف ثم سافر (وللأسف كان آخر لقاء له بوالدي.. فلم يستطيع زيارتنا إلا في عام 1994، ولكن بعد ماذا..؟! بعد رحيل أعز أحبته أبي وأخي شيرزاد..).
كما هو معروف عن عناد وإصرار والدي في المضي تحت راية النضال من أجل قضية أمته فقد بدأ في هذه المرحلة الجديدة يسير في خطين متوازيين...
الخط الأول.. كتب والدي رسالة طويلة من حوالي أربعين صفحه موجهة إلى الرئيس أحمد حسن البكر.. ورسالة أخرى من صفحتين لنائبه صدام حسين، وذلك بعد عودته ربما بشهر أوشهرين تقريباً..
ركز والدي على رسالة الرئيس أحمد حسن البكر المطولة لأنه كان الأكثر تقديراً لوالدي.. شرح والدي فيها وبالتفصيل آرائه حول ما جرى في 1974، وفصّل فيها أسباب الخلافات بين القيادة الكوردية والحكومة العراقية وأسباب ونتائج إندلاع حرب عام 1974، وذكر بعض المحطات التاريخية المهمة في حياته النضالية منذ نهايات الخمسينيات مروراً بأحداث الستينيات ثم تلتها مرحلة أتفاقية 11 آذار التاريخية ودوره المهم من خلالها.... يتبع
هوامش ومصادر:
(1) نقلاً عن الأستاذ فاروق ئاكره يى: (( يقال فى أحد اللقاءات مع الشهيد دخلوا معه فى نقاش عن القضية الكوردية وتفاجؤا من موقفه الصلب ودفاعه عن قضية شعبه كما كان قبل دون ضعف أو تغير.. فيقال بأن أحدهم علق على موقفه قائلا: (الأستاذ اليوسفى يناقشنا بنفس موقفه القديم متصوراً بأن قيادته المتمثلة بالبارزانى لا يزال موجودين فى الجبل بنفس القوة والصلابة..))).
(2) نقلاً عن الأستاذ فاروق ئاكره يى: ((إطلعني الراحل على فحوى تقرير، فيه منتهى الشجاعة، بمطالبة نظام البعث لحل عادل لمعضلة الكورد والعراق، ورفض المساومة على حقوق الشعب، عرضت السلطة عليه الأموال والمناصب، لكنه رفض..)).
(3)ذكر الأستاذ شيرزاد محمد صالح جبرائيل: (( كان الشهيد الكبير يملك إرادة صلبة لا يتوانى في خوض المخاطر من أجل شعبه ولو على حساب روحه ودمه.. ولو كان يريد موقعاً في الدولة العراقية بعد عودته لمنحوه ما يريد من منصب وأموال، لكن أبت نفسه الزكية كل تلك الإغراءات)).
(4)ويبدو تمزيق صور والدي واضحاً على أغلب صوره التي عرضتها سابقاً.. وقد رتبها أخي لاوين بالورق اللاصق خلال زيارته لنا مع بداية صيف ذلك العام.