الحلقة الثانية والأربعون – الجزء الثامن
بقلم وتصميم: زوزان صالح اليوسفي
ذكرت في الحلقة السابقة بأن والدي كان يحاول من خلال المفاوضات ولقاءاته مع النظام وخاصة مع الفريق صالح مهدي عماش (نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية) للوصول إلى حل سلمي بين الحكومة والقيادة الكوردية من أجل السلام وحقوق شعبه وحقن الدماء، ومن خلال هذه المفاوضات واللقاءات المستمرة من جانب والدي، في الحقيقة لا أعرف إذا كانت هناك شخصيات أخرى غيرهُ هو ودارا توفيق يقومان بهذه المفاوضات، وبعد آخر لقاء لوالدي مع عماش وصلا إلى خطوات السلام لإعلان حقوق الشعب الكردي في الحكم الذاتي.. فغادر والدي متفائلاً ومحملاً بالآمال بهذه الخطوة السديدة نحو السلام إلى حيث مقر القيادة الكوردية للأتفاق والتمهيد للخطوات القادمة بخصوص هذه المسألة.. فقد توصلا إلى حلول مقبولة ولم يبقى سوى عرضها على القيادة الكوردية وأعضائها للتداول فيها، ولم يكن والدي يحسب أو يصدق حينها بأن هناك خطة أخرى على قيد التنفيذ خلال ساعات قليلة من وصوله للقيادة..! فإذا بمفاجأة غير متوقعة يصدّم والدي ويثير غضبه الشديد...!!!
هنا ولأول مرة سوف أدلي بتصريحات ضيفي العزيز والدي حول هذه المسألة التي عكرت صفوة هذه المفاوضات التي رمى والدي كل جهده عليها لإنجاحها من أجل السلام وحقوق شعبه في العيش بأستقرار وأمان ولحقن الدماء..
صرح والدي قائلاً: (( رغم الضغوط المتواصلة بسحبي من بغداد، فقد مكثت فيها كجندي مجهول وطيف أمان وكبش الفداء لتفادي وقوع كارثة المواجهة ومحاولة إصلاح البين وكان آخرها لقائي مع الأخ الفريق عماش والتوصل إلى بعض النقاط الأساسية التي كان يمكن أن تصبح في حالة التقبل والألتزام المشترك بتنفيذها مدخلاً إيجابياً لإزالة العقبات وإعادة الأوضاع على حالتها الطبيعية وتوفير أجواء سليمة نقية للتوصل بمعالجة المشكلة من أساسها بالحوار والتفاهم المتبادل فبعد تبليغ مضمونها حرفياً إلى قيادتنا بواسطة محافظة أربيل حينذاك مع إقحام عبارات إيجابية من قبلي تنم عن روح التفاؤل للتوصل إلى نتائج إيجابية في حالة التقبل والألتزام.. فجاوبتني برقياً بما يشير عن رضائها ولكنها تفضل دراسة الموضوع بشكل أكثر تفصيلاً وجدية مطالبة توجهي نحوها وما كنت أدري ماذا كانت تخبئ من وراء ذلك، قسماً بأنبل المقدسات وفور وصولي عقدت جلسة موسعة أشترك فيها أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية وأعضاء المكتب التنفيذي والعسكري وبحضور أدريس ومسعود فقمت بشرح الموقف وبأهمية الألتزام السريع بالمقترحات التي توصلنا إليها لتفادي كارثة الأصطدام المتوقع وكان الجو مكهرباً مشحوناً بعواصف الإنفعال والتحريض والمزايدات.... لهذه المبادرة وأعتبارها كسباً ومضيعتاً للوقت فدخلت معهم في مناقشة حاميت الوطيس وفندت مزاعمهم وحملتهم مسؤولية كبيرة فيما إذا أتخذوا موقفاً سلبياً منها مغبتة النتائج والفواجع المترتبة حولها فيما إذا لم يدركوا عمق مسؤوليتهم التأريخية حق قدرها لإصلاح البين وتفادي الكارثة، وأذكر للتاريخ أن المرحوم نافذ جلال والأخ نوري شاويس وإلى حد ما علي عبد الله كانوا يؤيدون موقفي.
وقد تمكنت من إسكاتهم بحججي المنطقية القوية فأخبرني أدريس بأن الوالد ينتظرني فتوجهنا نحوه فشرحت له بالمثل تفاصيل الوضع وأهمية المقترحات وخلفياتها ونتائجها بشكل أكثر تفصيلاً ودقة وبعد إكمال حديثي طلب أدريس ليقف بجانبه وهمس في أذنيه وطرق سمعي وأخبره بكلمتين عبارة (( إيقاف العمل )) ولم أدري ماذا يعني بذلك وقد تصورت ربما الأمر يعود إلى إحدى أشغالهم...
وفي الصباح المبكر أيقضني أدريس ليفاجئني بنبأ ضرب آبار بترول كركوك في الليلة الماضية من قِبل الجماعة برئاسة محمد محمود عبد الرحمن حصرياً وقد شبت فيها الحرائق الهائلة، ولكنه أستدرك فقال غير أن الوالد بعد مجيئكم وحديثكم معه أمرني إخبارهم برقياً بإيقاف العملية وفعلاً تم تبليغهم برقياً وكلنا أستغربنا من تنفيذ العملية بعد ذلك ثم قال: الوالد ينتظرك خارج القرية، لقد وقع هذا النبأ على نفسي وقع الصاعقة علم الله وتفجرت غاضباً.... ليتني مكثت في بغداد ولم تطأ قدماي هذا المكان لإحافظ على كرامتي وماء وجهي لأني أصبحت مثار الطعن كأني نكثت العهد من وراء تواطئ معكم لأتخاذ مثل هذه العملية المدمرة الموجهة إلى الحياة الأقتصادية للمواطن العراقي بالإضافة إلى أنها ضربة فاجعة لكل الجهود الخيرة من أجل السلام والتفاهم وإعلان سافر من قِبلكم لإنفجار الكارثة والتحرش بأستفزاز السلطة في مثل هذه العملية.... ثم لمنفعة مَن أقدمتم عليها..؟ هل تعتقدون أنها لمصلحة الشعب الكردي المسكين المبتلين بنا جميعاً أو بالعكس إنها وحسب أعتقادي تقع ضمن إطار مصلحة الأستعمار البريطاني وشركاته الأحتكارية ومصلحة أعرق عملائهم الشاهينشاه الإيراني وجميع أعدائنا الذين سوف يستغلون هذه العملية الأستفزازية الكبير قطع أو أنخفاض النفط العراقي لمصلحة أرتفاع أسعار نفوطهم بالإضافة إلى ما يجنون من وراء النتائج المترتبة حولها من القتل والدمار وأخبرني: لقد تمت الحادثة وأنتهت...
فجاوبته على الأثر: طبعاً تمت في ظروف غير شريفة حيث حاولتم إغفالي وتخديعي وتخديع السلطة بتقلبكم المبدئي بالمقترحات لخلق جواً من الإطمئنان لتنفذوا خلاله مثل هذه المؤامرة الدنيئة..
فقال: من حقك أن تتأثر وقد أدينا الواجب ولكن فات الأوان أرجو قيامكم نتوجه سوية نحو الوالد..
فأخبرته: أتركني وشأني...
فأصر على عدم مبارحة المكان بدوني ومحلفاً بأنهم أبرقوا لتأجيل تنفيذ العملية.. فتوجهت نحو ملا مصطفى وأنا أتميز غيظاً وكمداً وقبل أن أتحدث خاطبني قائلاً ومحلفاً بأنه أثناء لقائي معهُ قد أبلغ أدريس لإشعار الجماعة الموفدة برقياً بإيقاف العملية وطمئينكم لإفساح الفرصة حول المقترحات المرسلة من قِبلكم وقد تم تبليغهم بذلك ولكن لا ندري أسباب التنفيذ..
فجاوبته ونبرات صوتي تحمل شحنات الغضب: لقد سمعت نفس هذا الكلام المردود من أدريس وجاوبته بأسى وأسف عميقين: لا أعتقد بأن يوجد ثمة مسؤول يرفض الإنصياع إلى أوامركم المبلغة ولست أدري أنني أعتبر قيادة الحركة الكردية المتمثلة فيكم هي تتحمل المسؤولية الرئيسية في إشعال فتيل حرب الأقتتال الأخوة المقبلة بمثل هذه العملية الأستفزازية الخطيرة كرّد على المقترحات الوجيهة التي توصلنا إليها نتيجة الطيش وعدم التبصر في عواقب الأمور وجر شعبنا المسكين ليعيش في دوامة متواصلة من المحن والفواجع لحساب ومصالح أعدائه من المستعمرين والرجعين حكام إيران بالذات فقد أخبرت أدريس وأردد كلامي لكم إن النتائج المترتبة على هذه العملية المدمرة هي بالتأكيد في صالح الأستعمار البريطاني وشركائه الأحتكارية وشاه إيران ولا يحصد شعبنا المسكين من ورائها سدى قيد ذرة من المصلحة فيها، بل بالعكس هو ما سننتظره من الفواجع التي تنصب عليه.
إن الطريق السليم كان يؤدي إلى ضرورة أستجابة المقترحات الموضوعية وليس إنصافها بمجرد وصولي إليكم وإشعاركم بفائدتها وأهميتها الذي أعتبره إهانة بليغة لتقاليد شعبي وإلى نفسي بالذات كأني شريككم ومتواطئ معكم بصورة خفية لتنفيذ هذه العملية التخريبية، لو كنت أعلم ذلك فقسماً بأقدس مقدساتي لم أكن أتوجه نحوكم لأتجرع مثل هذا الخطأ المرير فأجاب: أؤكد لكم ينبغي أن تصدق بأني أبلغتهم بإيقاف العملية وسوف تدرك صحة ذلك من القائمين بالعملية فاليعمل الله ما يشاء..
فأخبرته: وما هي مصلحة الشعب وحركته من القيام بمثل هذه العملية ومن الذي دبره..؟
فأجاب: لولا مجيئك وبسط الموضوع والمقترحات لكنا......... عملية كبيرة ضد الحكومة وشركات النفط الأحتكاري ومما يرغمها للخضوع لجميع مطالبنا ومحمد محمود عبد الرحمن كمهندس فني هو الذي صمم وأصر على القيام بها.... وما يجني ورائها من المنافع..
فأخبرته: فعل كل شيء ونحن لا زلنا في دور المفاوضات ولم يبدأ القتال وإن البادي هو أظلم ثم وإن النفط هو مصدر رئيسي لأقتصاد المواطن العراقي.
برأي ضربة لا يؤثر لا على حكومة الأستعمار البريطاني وشركاته الأحتكارية ولا على الحكومة العراقية بل في أعتقادي أن الضربة من صميم مصلحة الأستعمار البريطاني وشركاته الأحتكارية ومصلحة شاه إيرن وشركاته بغية أتخاذها ذريعة لإنخفاض أنتاجها وزيادة أسعارها من شركاتها الأخرى والمحرض والمصمم مهما كان فنياً فإنه ينفذ خطة لمصالح أعدائنا ويقذفنا في قفص الإتهام أمام الرأي العام العراقي والعالمي بأننا بدأنا بأشعال فتيل نيران القتال بينما كان ينبغي علينا أن نثبت للملأ بمحاولاتنا الجادة بأنتزاع الفتيل.. إن شعبنا المسكين لسوء حظه العاثر قد أبتلى بنا..
فسكت وأنا أتمزق أساً وكمداً وتدهورت الأوضاع مباشرة وأنهيت من كل مكان فأضطررت البقاء وكرست كل جهودي عبر ظروف الأقتتال ولحين مجيء الأخ عزيز شريف ومن بعده من أجل السلم والتآخي والوفاق..(1))).
لم يكن الفريق صالح مهدي عماش يعلم بهذه الحقائق حينها فقد كان هو الآخر متفائلاً بعد مفاوضاته الأخيرة مع والدي وكان يأمل أن يتفقا من أجل السلام.. فتفاجئ هو الآخر من الحدث..! وأتهم الفريق عماش والدي في تعكير مفاوضات الحكومة والأكراد، بعد أن تمّ ضرب حقول النفط في كركوك كما ذكرت آنفا وبالتفصيل ومن خلال مذكرات والدي..! تلك الخطة التي لم يكن لوالدي أدنى خبر أو علم عنها أو بصمة فيها.. مما أدى ذلك إلى أن تسوء العلاقات مع الحكومة وبدأ الحرب من جديد....! يتبع
(1)مقتطفات من مذكرة صالح اليوسفي للرئيس أحمد حسن البكر (1975 – 1976)